السبت، 28 يوليو 2012


الإنجازات لا تكفر عن المظالم


 انني من الجيل الذي استنشق 23/7/1952 بكل رئتيه، وصدق كل كلمة، وآمن بكل وعد، وأحب بكل حماسة "الفتية الأبرار" الذين قال عنهم سيد قطب: "إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى"؛ من الجيل الذي تغاضى عن "جرائم" وفضل أن يراها "هفوات" في سبيل تحقيق نهضة الوطن وترجمة "الخطب والتصريحات" إلى "مكتسبات شعبية" وتحويلها من ورق " نبله ونشرب ماءه" إلى واقع يقف على الأرض، لكن "الشقشقات" و"الطقطقات" لم يكن من الممكن لها بعد 5/6/1967 أن تصلح ساتراً للانتهازية، والزيف، والكذب، والدجل، والسياحة السياسية، والسياسة السرابية، ومهارة الحواة في ابتكار الأسماء البراقة للفشل والرسوب، والهوة المقززة بين القول والفعل، والانفصام بين الشعار المعلن والتطبيق المخالف، بل المناقض، مع استمرار المنهج الاجرامي: منهج القمع والارهاب؛ منهج قطع الألسنة وجدع الأنوف وسحق الكرامة، منهج السجن والاعتقال والتعذيب للشبهة وللّفتة ولرفة الرمش في العين. ورغم  أن قلبي يوجعني بما لا أحتمل إلا أنني أستعين بما سرده الكاتب يحيى مختار في روايته "جبال الكحل"  أتلمس منها  بعض الحيثيات التي نؤكد بها أن الإنجازات لا تكفر عن المظالم!

«جبال الكحل» رواية عن "النوبة"، بقلم فتى من فتيانها، يحيى مختار، بها يروي، بعد مرور السنوات، كيف تم إجلاء أهلها عنها لبناء السد العالي، وحين تنتهي من قراءتها تعرف أنها كانت "حالة" كل الوطن؛ الذي حين يجتث بالقسوة لا يكون لأي شيء فائدة مهما حسنت النوايا واعتذرت الشعارات.

 يقول يحيى مختار: "الجنينة والشباك بالنوبة القديمة هي قريتي التي ولدت فيها عام 1936 بعد ثلاث سنوات من التعلية الثانية لخزان أسوان"، وفي مقطع آخر يقول: "... كان بناء السد العالي حلما قوميا استبد بنا... وتحقق حلم بناء السد ومعه جاء الغرق والتهجير، وكنا نعي أننا سنقتلع من جذورنا، ورغم ذلك قمنا قومة رجل واحد لبنائه ولندافع عن حقنا في تطوير حياتنا نحن حفدة البناة العظام، ولكني كرهت البيروقراطية والإهمال وعدم الإدراك الواعي والإحساس بالمسؤولية القومية والإنسانية التي عالجت أوضاعنا، هذه البيروقراطية وقصور الرؤية الذي تعامل مع الإنسان النوبي باعتباره كمّا ينبغي نقله من مكان لمكان يحشره فيه ويكون بذلك قد أدى ما عليه..."! تتكرر كلمة "البيروقراطية" لأن الكاتب يحيى مختار متأدب لا يريد أن يحدد بصريح العبارة مسؤولية "الحاكم" ـ عبد الناصر ـ الذي ترك العنان لبيروقراطية مسعورة تنهش بحرية مطلقة حقوق الناس في كل الوطن، تحت لافتات أنبل الشعارات وأسمى الأحلام.

يرسم يحيى مختار بمفردات: "السجن"، "الاعتقال"،  "التاريخ"، "التهجير"، "مهجرنا الجديد بكوم امبو"، "تعليات الخزان"... الخ، أجواء روايته التي اختار لها شكل "اليوميات" ليتمكن، بعفويتها، من قول كل خاطرة طرأت  غدر الممارسات التي صاحبت إجراءات تهجير أهل النوبة من الأرض العريقة، التي كان حتم إغراقها، إلى "كوم أمبو" التي أطاحت بالوعود وخيبت بمبانيها الإسمنتية كل الأحلام ببدائل حانية تهون آلام الفراق.

21 مارس 1964 تم تهجير نصف أهالي القرية: ثمانية صنادل رست تباعا، وتكدس الناس وحاجياتهم في سبعة صنادل وخصص الثامن للبهائم. هي نفسها الصنادل التي كانت تنقل فيها الماشية من السودان والصومال إلى أسوان والدراو.  وفي ذكر لما نشرته نسخة قديمة من جريدة الأهرام في  الصفحات الأولى ، بها موضوع مهم عن التهجير، يقول الشاهد: ".... بعد أن كانت معظم النفوس قد اطمأنت للوعود بالدور الجديدة والأراضي التي جار استصلاحها لتوزيعها علينا. الأرقام منشورة حقائق قاطعة ومستفزة. مجمل التعويضات التي صرفت عن كل ما نمتلك بطول البلاد وعرضها للمقيمين والمغتربين معا بلغت مائتي ألف جنيه فقط ، في حين كان ما صرف للذين قاموا بحصر هذه الممتلكات أربعمائة وستون ألف جنيه، إضافة إلى مائتين وخمسين ألفا أخرى كمصروفات إدارية... الخال جعفر جنينة كان أكثر المصعوقين بمفارقات الأرقام... قال في صوت مذبوح وحزين: كيف لا تقدرون للحكومة النزيهة حرصها الشديد على أن توصل لنا حقوقنا التافهة، متكبدة في سبيل ذلك هذه المبالغ الباهظة... لقد شحبت الفرحة وذابت وتبخر خطاب الزعيم من ذاكرته. قام فجأة وأخرج من صديريته المظروف الذي يحتفظ فيه بعناية بالغة بكتيب وزارة الشؤون، نزع المظروف ومزق الكتيب وألقى بالنثار في النيل وهو يدمدم: مهاجرون وأنصار؟... أين الأنصار ... عيناه لم يكن يطل منهما إحساس من ظلم، كان إدراكا فاجعا بالخداع. خدعه الذين ادعوا أنهم أنصار. الظلم رغم أنه ظلم، فهو أكرم للمظلوم من مهانة المخدوع الذي ضرب على قفاه وركلت خلفيته بالمركوب"!

توقفوا عن معايرة الشعب المصري بالإنجازات فهي، حتى لو صدقت، لا يمكن أن تكفّر عن المظالم، كما أن الأوجاع لا تُنسى بالتقادم!




الأربعاء، 25 يوليو 2012

من صندوق الجواهر:

سكن الرسول خديجة بنت خويلد

"أبشر يا ابن عم واثبت!
فوالذي نفس خديجة بيده، إنك لنبي هذه الأمة!
والله لا يخزيك الله أبدا: إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الدهر"!

هكذا انطلقت كلمات خديجة، قوية فورية جياشة، في رمضان عام 13 قبل الهجرة، لتظل عبر الأعوام التي تتوالى نحو الآن شاهد مبادرة قاطعة بالتسليم والإسلام، تعقبها بديهية الانحياز الكامل إلى الحق الذي رأته، ولمسته في سمات وقول الزوج الذي عاد لتوه من غار حراء، ليروي ما شاهده وحده، من لقاء الروح الأمين وما احتواه هذا اللقاء من علم وتكليف؛ مبادرة فورية بالعطاء، انحياز حازم ويقين بالتكليف الإلهي للنبي المختار، وعي لا رجعة فيه أن التصديق بهذه الدعوة معه العهد بالفداء بلا حدود، بيعة خالصة لله، ولرسوله، أمام وعد حق من الله سبحانه وتعالى إنه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة.

"أبشر"، "اثبت"، "والله لا يخزيك الله أبدا": ثلاث كلمات مختلفات، متصلات، هي مدلولات لثلاث ثمار ناضجات: "حب"، "وعي"، "شجاعة"؛ ثلاث ثمرات تخرج بدورها من مكونات ثلاثة تمثل الركائز الأساسية في شخصية تلك السيدة الفذة حين تجتمع فيها الرقة مع العقل مع الصلابة، لتشكل وجه السيدة خديجة بنت خويلد، سكن الرسول، في حضور كامل يصنع مثالا راسخا عبر الزمان يحدده: كيف تكون السيدة الرسالية وكيف يكون الموقف والالتزام لديها.

يضج التاريخ بكتابات وأقوال المؤمنين وغير المؤمنين في محاولات لم تنقطع لتفسير شخصية السيدة خديجة بنت خويلد، المرأة الثرية نجمة مجتمعها القرشي التي تزوجت مرتين وترملت في المرتين بعد أن أنجبت ابنا وبنتا في المرة الأولى وابنا آخر في المرة الثانية، سيدة الأعمال التي يتسابق أمهر شبان قريش لينالوا توكيلها لهم للخروج بتجارتها في قافلة التجارة القرشية نحو الشام فيقع اختيارها على الشاب الفقير ابن صديقتها في الصبا آمنة بنت وهب، ثم ترسل إليه بعد عودته بتجارتها رابحا تخطب نفسها إليه، وهو يصغرها بخمسة عشر عاما. وتخوض الكتابات في كل اتجاه، بدوافع الحب أو الحقد، بين مستكثر على الشاب الوضيء والسيدة العفيفة أن يكون الحب دافعهما إلى عرض الزواج وقبوله، ومسرف في تفصيل ما ألم بالسيدة من مشاعر منذ أن رأت الشاب أو ما اعتراه حين أرسلت تخطب نفسها إليه، بينما لا نكاد نخطئ في خلفية هذه الكتابات الحساسية المفرطة لدى الجميع إزاء واقع السنوات الأربعين التي كانت عمر السيدة خديجة في مقابل الأعوام الخمسة والعشرين التي كانت عمر محمد الأمين، حين التقيا زوجين، ونرى الجميع فريقين من جديد بين معتذر عن تلك السنوات الخمس عشرة،  فارق العمر، بالتبرير والتسبيب ومن يجدها ثغرة للوثوب منها وإليها حين تشتهي الأضغان مطعنا ومثلبا يؤذي بها السيدة والشاب الرشيد. ولا نملك ونحن نمر على هذه الكتابات بخيرها وشرها إلا أن نكتشف زاوية باهرة أخرى من زواية الشجاعة المتكاملة التي تميزت بها السيدة خديجة منذ بداية تعرفنا إليها حتى لحظة ابتسامتها الأخيرة عند الرحيل بصحبة ملاك الموت وهي ترجو لقاء الحبيب في الجنة في بيتها الموعود من اللؤلؤ المجوف إذ يخبرها النبي الرسول: يا خديجة إن الله يبشرك ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.

تقول الدكتورة بنت الشاطئ: “...المستشرقين الذين فاتهم أن يقدروا حاجة الشاب اليتيم إلى الأمومة حين تحدثوا عن زواجه بالأرملة الموسرة  فمارجليوث يجعل لمال خديجة المكان الأول في زواج كهذا، بين شاب فقير وأرملة كهذه كهلة مات عنها زوجان من بني مخزوم وتركا لها ثروة ذات شأن، ثم يمضي فيكتب كلمات تقطر سما وحقدا، إن دعوة خديجة جاءت محمد وهو يجتر كلمات مريرة سمعها من عمه أبي طالب حين خطب إليه ابنته أم هانئ، فرده لفقره وزوجها لذي مال واستشعر محمد ذلة الفقر ومهانته فما كاد يسمع عن رغبة خديجة في الزواج منه حتى أقبل متلهفا على الثراء، يداوي به جرح كرامته التي أهدرها فقره." (نساء النبي دكتورة عائشة عبد الرحمن، دار المعارف، ص52).

 وترد الدكتورة بنت الشاطئ غاضبة على المستشرق، الذي يتشابه كلامه التافه مع ثرثرة النساء الفارغات، فتقول: "وكذب مرجليوث فما كان مال خديجة هو الذي جذب محمدا وجعله يتجاوز عما بينه وبينها من فارق السن وإنما جذبه إليها جمال شخصيتها ودماثة طبعها ولطف سجاياها وكان ما بينهما من فارق السن كافيا وحده لأن يرضي حاجته الملحة عطف الأمومة التي افتقدها منذ كان طفلا في السادسة وظل على الأيام يجد لذعة الحرمان منها مرة المذاق."  وتواصل الدكتورة بنت الشاطئ ردها على مستشرق وراء مستشرق مفردة لثرثرتهم الفجة وتصوراتهم المتخلفة جهدا منها لم يكن له داع أمام مكذبين ابتداء بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم. فإشارات هؤلاء واهتمامهم بالبحث أساسا في حياة نبينا الكريم دافعها الأول محاولة فهم ما يرونه لغز الانتصار الساحق الذي أحرزه هذا "الرجل" الذي "تزعم" مجموعة من الأتباع واستطاع أن يقتلع سلطان أكبر قوتين، قوة الروم وقوة الفرس، ففي إطار نزع البعد النبوي من "محمد"، ليصبح مجرد "زعيم" أو "قائد" طموح للعرب يصير من الممكن لهؤلاء المحللين أن ينظروا سيرة حياة نبينا المبعوث رحمة للعالمين، مثل نظرتهم إلى نابليون أو بسمارك أو الإسكندر الأكبر في أحسن حالاتهم أو هرقل ويوليوس قيصر ومارك أنتوني، فيأخذ التحليل لديهم الظروف الموضوعية والذاتية التي تحكمت وأثرت في تكوين شخصية هذا الزعيم فأدت به إلى اختيارات معينة، تحكمت فيها شهوته أو أهواؤه أو مصالحه أو رواسب طفولته ومركباته النفسية وأدت به إلى ما أحرزه من انتصارات أو ما أصابه من خذلان، أما ونحن مؤمنون بمحمد "مختارا" من الله نبيا ورسولا و"مصطفى" من البشر لتتم تربيته وإعداده وصناعته على "عين الله" تحضيرا له منذ أن أودعه الله جنينا مباركا في رحم أمه ليكون أحسن الخلق أجمعين مؤهلا لحمل عبء "نبي آخر الزمان" الذي عليه أن يدعو أهل الأرض جميعا ليعودوا إلى عقيدة التوحيد.

في هذا الإطار من الإيمان يصبح كلام المنصفين المدافعين مظهرين أسبابا مادية لاختيار الرسول لخديجة أو لمحبة خديجة للرسول غير ذات موضوع.

الشاهد أن خديجة لم تستشعر تفوقا بمالها أو نقصا بكهولتها وأنها عندما ألقى الله محبة محمد في قلبها قدرته بمعيار "الندية" فوجدته أكبر منها وأجل وأثرى فسقط المعياران المادي والزمني اللذان لم يكونا سوى صنم من الوهم خضع له الناس في عجز وغباء، أما محمد فيدفعه الله إلى خديجة عن تدبير يفصله له بعد تزويجه لها بخمسة عشر عاما؛ حين تتنزل عليه الآيات لتطمئنه: "ما ودعك ربك وما قلى"، الضحى 3، فيذكره بسابق نعمته عليه حين ينتخب له عمه أبا طالب ليضمه إلى ابنائه: "ألم يجدك يتيما فآوى"، أو حين ينجيه من سابقة الشرك:  "ووجدك ضالا فهدى"، ثم حين يختار له خديجة لتحبه وتطلبه وتشد أزره:  "ووجدك عائلا فأغنى".

نعم هو الله وحده سخر خديجة لمحمد، صاغ قدرها وصاغ قدره ليتم اللقاء بينهما على "قدر" في الزمان والمكان بلا أي سبب "عقلاني" ندعيه نحن، أو مادي يرجف به المستشرقون ومن معهم من أعداء الله والرسول.

 وكما سخر الله هارون ليشد به عضد موسى: "سنشد عضدك بأخيك" سخر الله خديجة لتكون واحدة من أربعة شد الله بهم عضد الرسول الكريم هم: عمه أبو طالب، وعلي بن أبي طالب، والصديق أبو بكر، فما كان الله ليلقي برسوله أعزل وحيدا في غابة قريش: قلعة الغرور والعصبية والشرك والعتو الجاهلي.

تقدم أبو طالب إلى عمرو بن أسد بن عبد العزى بن قصي عم السيدة خديجة يزوجها لابن أخيه محمد بن عبد الله، وبدأ قائلا: "الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وجعلنا حضينة بيته وسواس حرمه وجعل لنا بيتا محجوبا وحرما آمنا وجعلنا الحكام على الناس..... ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن برجل إلا رجح به شرفا ونبلا وفضلا وعقلا وإن كان في المال قل فإن المال ظل زائل وعارية مسترجعة وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك"، (مسلمات مؤمنات، محمد علي قطب، جزء 1 المختار الإسلامي ص 21).

تم الزواج السعيد المدبر بأمر الله كأرقى ما يمكن أن يتم به زواج في أي عصر من العصور قديما وحديثا وكأكمل ما يمكن أن يكون النموذج التقدمي في المعاملات والارتباط حيث لا مكان لقيمة مادية زائلة تقف مطمعا أو حجر عثرة بين اثنين: "له فيها رغبة ولها فيه مثل ذلك".

على مدى خمسة عشر عاما عرفت خديجة، حتى قبل النبوة المعلنة، نزعة التأمل التي تميز بها محمد الأمين منذ طفولته وصباه وهاهي ذي تتعمق في شبابه ورجولته نحو كهولته السامقة المتوجهة لتنفيذ وعد الله ببعث نبي آخر الزمان. وعرفت خديجة أنها "السكن" لهذه الشمس التي رأتها في رؤياها تخرج من بيتها فتنير العالمين. عرفت في محمد الأمين انكاره للأصنام التي تكدست أحجارا عبر تراكمات الجهل والجاهلية لتحيط البيت العتيق مثابة الناس وحرمهم الآمن بالرجس والرجز، وعرفت إنكاره للأصنام البشرية من كبراء مكة وجباريها واستعلائهم بالظلم والجور فوق مستضعفين أهدرهم الرق والفقر أو نقص العزوة والناصرين ووجدته يأخذها ليلوذا معا بمكارم الأخلاق بقايا من تعاليم بقيت مع البيت العتيق منذ أقامه وأقامها إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل ومازالت تجد قوتها ودعمها رغم وحشية الجاهلية ووثنيتها الضاربة أطنابها في المجتمع المكي. هذه التعاليم التي وجدت مؤيدين لها في قبائل من قريش تداعت إلى حلف الفضول قبل مبعث الرسول بنحو عشرين عاما وهو الحلف الذي باركه نبينا بعد الإسلام قائلا: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو أدعى إليه في الإسلام لأجبت". وفي هذا الحلف تعاقدت هاشم وزهرة وتيم بن مرة على: "ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا أقاموا معه وكانوا على من ظلمه حتى ترد له مظلمته".

نعم لم تغب عن خديجة الطبيعة الخاصة التي تفرد بها زوجها العظيم وعرفت على وجه اليقين أنه بين أشرافها أشرفهم وبين عقلائها أعقلهم وبين حكمائها أحكمهم وبين أمنائها المشار إليه وحده بالأمين والصادق لا ينازعه في الصفتين منازع، تفردا يتزايد مع مرور الأعوام حتى ألزم نفسه بعزلة ينفرد فيها بنفسه في غار حراء في جبل على بعد ميليين من مكة، في رمضان، على مدى ثلاث سنوات قبل نزول الوحي، تزوده خديجة بما يحتاج إليه من ماء وطعام قليل من الشعير والتمر، متفهمة واعية حانية عيناها عليه من بعيد لا تغفل عنه، وحياتها المنزلية وتجارتها مستمرة ناجحة رابحة تراعي بيتها وأولادها السابقين ومعهم: علي بن أبي طالب وبناتها من محمد المفدى: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، وذكرى القاسم التي أذاقتها وفاته وأذاقت محمدا الحبيب لذعة الثكل المرير.

 دبر الله للرسول المنتظر هذه العزلة في غار حراء يتطهر ويتعبد الليالي الطوال إعدادا له لحمل الأمانة الكبرى يعطيه الله خلالها الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلى جاءت مثل فلق الصبح، وعلامات النبوة تتقارب لا ينقصها إلا أن تتم باللقاء الصريح بين روح الله الأمين والنبي الرسول المختار ليكون آخر وخاتم الأنبياء والمرسلين فلا رسول ولا نبي بعده حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

وتتابع خديجة البشائر والدلالات تتوقع السطوع الباهر بالحقيقة القاطعة لتهتف معها بكل الفرح والشوق والتسليم: "إنك لنبي هذه الأمة" في ليلة القدر في رمضان عام  13 قبل الهجرة.

روى ابن إسحاق عن وهب بن كيسان عن عبيد الله قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فجاءني جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال: اقرأ، قال قلت: ما أقرأ، أو ما أنا بقارئ، قال فغتني به، أي ضغطني، حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني، (ثلاث مرات)، فقال: اقرأ، قال قلت: ماذا أقرأ؟ قال ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي، فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم. قال فقرأتها ثم انتهى فانصرف عني فهببت من نومي فكأنما كتبت في قلبي كتابا قال فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل قال فرفعت رأسي إلى السماء أنظر فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل، قال فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر وجعلت أحول وجهي عنه في أفاق السماء قال فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك فمازلت واقفا ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي فبلغوا أعلى مكة ورجعوا إليها وأنا أقف في مكاني ذلك ثم انصرف عني وانصرفت راجعا إلى أهلي حتى أتيت خديجة فجلست مضيفا إليها، أي ملتصقا بها مائلا إليها، فقالت يا أبا القاسم أين كنت فوالله لقد بعثت في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا إلي ثم حدثتها بالذي رأيت فقالت أبشر يابن عم واثبت..."، (في ظلال القرآن، الشهيد سيد قطب، دار الشروق، ج 6 ص 3742.)

تبين لنا هذه الرواية الشريفة كيف نزل الوحي بآيات القرآن الكريم وكيف ظهر جبريل عليه السلام للرسول يقول بإخبار وتعليم ووضوح: "يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل" والرسول الراوية هو مصدر الخبر والتثبيت والإيمان بنبوته ورسالته لهذا وقفت رافضة منكرة ما أورده الأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه فاطمة الزهراء والفاطميون حين يقول:

· "وابن عم السيدة خديجة ورقة بن نوفل الذي رجعت إليه حين بدا لها في اضطراب النبي عليه السلام عند مفاجأته بالوحي ما أزعجها فركبت إلى ورقة تسأله لعلمه بالدين وعكوفه على دراسة كتب النصارى واليهود..."

· "ويؤخذ من أخبار السيدة خديجة الأخرى أنها كانت على علم بكل من يطالع كتب المسيحية والإسرائيلية لإنها لم تكتف بسؤال ابن عمها بل سألت غيره ممن كانت لهم شهرة بالاطلاع على التوراة وكتب الأديان..."

· "علامات للنبوة لا يدركها كل من يسمع بالدين ولولا أنها – أي السيدة خديجة – عرفت من أبناء عمومتها من كان يفهم النبوة هذا الفهم لما كانت هذه علاماتها لتصديق الدعوة وصرف الوجل والخشية عن نفس زوجها الكريم..."

هذا الكلام ومثله كثير يتجه نفس الاتجاه يقلب المنطق وينزلق إلى الزلل فما كان لنبي مبعوث مثل رسولنا المختار أن تأتيه الطمأنينة من خارج قلبه، ولا أن يأتيه التأكد بخبر رسالته من مصدر غير تلقيه المباشر من الله سبحانه وتعالى عبر جبريل الروح الأمين، أيحتاج الرسول أن تذهب به خديجة إلى ورقة أو غيره ليؤكد له أو ينفي وقد ملك الحق كله حين رأى لتوه ما رأى وسمع ما سمع أن: "يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل" وهل تقررت نبوة الرسول الكريم بمعرفة خديجة لعلامات النبوة مما مكنها من تصديقها وصرف الوجل والخشية عن نفس الرسول كما تعني كلمات الأستاذ العقاد؟ فهل يعني هذا أنها لو لم تعرف علامات النبوة ولم تصدقها لما تقررت النبوة للرسول المفدى ولظل به الوجل والخشية؟ أعوذ بالله العظيم!

الأقرب للإيمان والعقل أن السيدة خديجة قد هرعت بعد سماعها حديث الرسول المفدى إلى ابن عمها وإلى من عنده علم الكتاب لتزف لهم البشرى والخبر بأن نبي آخر الزمان قد بعث يقينا مصدقا لما بين أيديهم من علم مؤتمنين عليه وأن هذا النبي الرسول هو محمد بن عبد الله وأن عليهم أن يؤمنوا به ويسلموا تسليما، وهذا تماما ما نلمسه من ورقة بن نوفل، رضي الله عنه، حين قام من فوره وقبل رأس الرسول معلنا الشهادة له: "والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة ولتكذبن ولتؤذين ولتخرجن ولتقاتلن ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه، نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، ليتني أكون فيها جذعا ليتني أكون حيا".

بأبي أنت وأمي وابنتي يا رسول الله!

ما أن تبدأ أخبار بعثته تخرج من بيت خديجة، الذي أسلم كل من فيه، والآيات تنزل تباعا وتلقفها خديجة حفظا وتسليما ووعيا وطاعة من فم الرسول المفدى ودائرة الإيمان تتشكل وتتسع، حتى تأخذ دائرة الكفر دورها في المواجهة، تشتد يوما بعد يوم شراسة وسفاهة وتحفزا وتربصا وسخرية وتشويها؛ وقد جمع الشعراء والخطباء والبلغاء ليتصدوا لآيات القرآن المنزل نورا وإعجازا، ويصنع الوليد بن المغيرة طعاما لقريش وبعد أن أكلوا منه قال ما تقولون في هذا الرجل فقال بعضهم ساحر وقال بعضهم ليس بساحر وقال بعضهم كاهن وقال بعضهم ليس بكاهن وقال بعضهم شاعر وقال بعضهم ليس بشاعر وقال بعضهم بل سحر يؤثر فأجمعوا رأيهم على إنه سحر يؤثر ويبلغ هذا التكذيب النبي فيحزن ويتدثر لينام، فأنزل الله سبحانه وتعالى: "يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر"، (في ظلال القرآن للشهيد سيد قطب ج 6 ص 3752).

 وتتوالى الآيات بالتكليف المتصاعد نحو الصعوبة: "يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا ...."، والرسول المفدى يعلنها لخديجة: "مضى عهد النوم يا خديجة"، وخديجة لها؛ كلما احتدم الموقف واقتربت لحظة الصدام الحتمي مع قريش تزداد إشراقا وشوقا للمعركة الحاسمة بين الإسلام والكفر، بين التوحيد والشرك، ويقول لها الرسول: "يا خديجة إن جبريل يقرأ عليك السلام من الله رب العالمين"، فتقول خديجة في فيض من البهجة: "الله السلام ومنه السلام وإليه يعود السلام وعلى جبريل السلام".

إذ أغمض عيني لأتصورها لا أرى تفصيلا لوجه أو هيئة لكني أرى حركة دائبة لا تتوقف حتى ولو لحزن أو لوعة للثكل الذي تجدد بوفاة عبد الله، الذي ناداه الرسول بالطيب والطاهر لكونه قد ولد في الإسلام وبعد أن بلغت خديجة الخامسة والخمسين؛ حركة عطاء منهمر خزائنها مفتوحة للمسلمين وأموالها تتدفق إلى كل سبيل، تدفع عن هذا الغرم وتقضي عن ذاك الدين وتسارع إلى الأرقاء المعذبين تشتريهم وتطلقهم وتستعمل من يطردهم القرشيون من تجارتهم وأرزاقهم، والحجارة تتساقط مستمرة من السفهاء تضرب بيتها وتؤذي زوارها، وتتصدى بالصمت والإهمال للفحش المنهمر من جارتها البغيضة أم جميل، صاحبة النار والمسد هي وزوجها أبو لهب، وفي كل هذا  خديجة آخذة بيد الرسول المفدى تمسح عنه الأذى وتغسل الأقذار الملقاة عليه، "ولربك فاصبر".

بأبي أنت وأمي وابنتي يا رسول الله!

ويأذن الله للمسلمين بالهجرة فأبشري يا خديجة، وهيا.... مجال  جديد لإغداقك وعطائك؛ من تجهيز للمسافرين إلى صبر على الفراق عن الابنة الغالية رقية، التي عزم زوجها عثمان بن عفان على الهجرة مع المهاجرين إلى الحبشة، فراق لا لقاء بعده إلا في الجنة حين تسبق خديجة إلى الرحيل قبل عودة الابنة المهاجرة.

 ومع رؤية المسلمين يهاجرون والدعوة معهم يحملونها إلى خارج الجزيرة العربية لا مكة وحدها، ومع أمر الله بأن تكون الدعوة جهارا، يطيش سهم المشركين البغاة وتعلن قريش حربها المستعرة: الحصار الاقتصادي! تجويع المسلمين ومن يواليهم! والتهديد: منع القوت أو التخلي عن "محمد"!

 وكتبت قريش كتابها تتعاهد فيه على ألا تبيع شيئا أو تبتاع شيئا من محمد وأتباعه ولا مخالطة ولا مصاهرة وأن تكون قريش يدا واحدة على من يعطف أو يساند محمدا، وتعلق هذه الصحيفة على الكعبة: بيت الله!

 واجتمع بنو هاشم وبنو عبد المطلب، إلا أبا لهب وأم جميل، وقرروا رغم عدم إسلام بعضهم الاتحاد أمام هذه المعاهدة الشريرة التي ناقضت حلف الفضول بانهيار إنساني وأخلاقي لم تعرفه العرب، وتقدمت خديجة بما تبقى لها من مال وزاد وعتاد تسير مع المسلمين خلف الرسول المفدى داخلين جميعا ليواجهوا معا حرب الفجار بشعب أبي طالب عند الجبل، حتى أذن الله بتحطيم هذا الحصار بعد سنوات ثلاث من التعب والإنهاك وخديجة قد شارفت على الخامسة والستين.

 وهن الجسد لكن العزيمة والروح كانتا أصلب وأقوى والمسلمون أكثر عددا.

 سقط تهديد قريش بالاختيار: بين الخبز أو محمد؛ فلم يكن الإسلام أبدا ثورة من أجل الخبز، إنه "دعوة" فوق "الثورة": عقيدة إحياء كاملة للإنسان تعيده لفطرة التوحيد حيث ينعتق الإنسان من كل عبودية سوى عبوديته للفرد الصمد، فلا عبودية لملك أو لسلطان، ولا عبودية لاحتياج من شهوة جسد أو معدة، إنه التحرر العزيز من كل ما يمكنه أن يكسر أنف الكرامة للإنسان أو يغل ساق إرادته، فأنى لحصار مادي يدور في الفلك التافه للطعام والشراب والمتاع أن يفت في عضد مجاهدين على رأسهم الرسول المفدى ووراءه خديجة الباسلة قد أسلموا وجوههم لكنف الله معاهدين على أن تكون العزة لله جميعا وللرسول من بعده وللمؤمنين؟ "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين".

سقط الحصار القرشي وانتصر المسلمون في المعركة وكان لابد أن يكون للمعركة شهداء، وخرجت خديجة السكن الرؤوم شهيدة معركة: الخبز أو "محمد"!

 رحلت خديجة في رمضان، عام الحزن قبل ثلاث سنوات من الهجرة.

 بعد الهجرة بسنوات يعود الرسول المفدى إلى مكة بنصر الله والفتح وقد أنجز الله وعده بتمكين دينه الذي ارتضاه لخلقه ويقف عند قبرها وقد دمعت عيناه الشريفتان: نعم يا خديجة هاهي ذي مكة القاسية وقد تاب الله عليها وغسل عنها أوساخ الجاهلية وأوثانها وهاهو ذا البيت العتيق يعود كما كان خالصا لله وحده.

 ويخط الرسول أربعة خطوط في الأرض ثم يقول: "هل تعلمون ما هذا؟"  فيقولون: "الله ورسوله أعلم"، فيقول: "خير نساء العالمين أربعة: مريم بنت عمران، وآسيا بنت مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد".

 وأمام ذكراها تنزوي تسع نساء باهرات لكل واحدة منهن وهجها وشموخ رصيدها في الجهاد والفداء والجود والتقوى وحب رسول الله بينهن عائشة بنت أبي بكر صاحبة المكانة العزيزة في قلب النبي الكريم التي تعترف: "ما كنت أغار من زوجة مثلما كنت أغار من خديجة مع أنني تزوجت الرسول بعد وفاتها بثلاث سنوات لكثرة ما كان رسول الله يذكرها"، وتدفع هذه الغيرة عائشة لتقول ذات مرة: "لقد أبدلك الله خيرا منها"، فيغضب الرسول الحليم حتى يهتز مقدم شعره من الغضب وهو يجيب: "لا والله ما أبدلني الله خيرا منها؛ آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء.

السبت، 21 يوليو 2012


لُقمة فينو

رمضان كريم جدا جدا وقد عاد حار جاف صيفا، مثلما كان أيام طفولتي التي صمت فيها أول رمضان في حياتي بإغراء رغيف فينو من عم جودة؛ قالت لي والدتي في ذلك الرمضان سبتمبر عام 1942: لو عرفت تصومي النهارده ح أجيب لك رغيف فينو!

 في استبسال طفلة بلغت الخامسة من عمرها وتحب العيش الفينو قبلت التحدي وصمت اليوم بأكمله، رغم حر سبتمبر، وإن كنت قد قررت أن أنتظر وَهناً على وَهْن صندوق عم جودة، مُحكم الغطاء بما لذ وطاب، على دكة أحمد البواب لأتأكد من صدق الوعد!

كان للعيش الفينو مكانة رفيعة في ذلك الوقت أكدتها مقولة صديقي الصحفي والكاتب الراحل فيليب جلاب، وكان رحمه الله من ظرفاء جيلنا، أن الناس في بلدته بالصعيد كانت عندما يمرض لهم طفل ينصحون: "أعطوه لقمة فينو"!

السر غالبا يكمن في أن أفران عيش الفينو كانت تحت إدارة وتخصص مهاجرين من ألبانيا و جزيرة كريت، جاؤا مصر هربا من المذابح التي طاردت المسلمين في أوروبا عشرينيات القرن الماضي، تميّزوا بصنع ألذ مخبوزات على اختلاف أنواعها من البسكوت أبو سمسم والشيليك والكِِفِل حتى العيش الفينو مرورا بالسميط الذي لم يتكرر، منذ اختفاء أفرانهم العبقرية، ولم أستعد مذاقه إلى أن زرت تركيا وتجولت في أسواقها وشممته منبعثا برائحته الفذة فصحت: اللللللللللللللله! ليس في كل حوانيتك يا تركيا شئ مثلك يا سميط!

الخميس، 19 يوليو 2012

هو الذي يُصلّي عليكُـم
نسـارع جميعا، عند ذكر اسم نبينا الكريم، إلى قول: "صلّى الله عليه وسلم" ونزيده صلاة، ويتصور البعض أن صلاة الله خاصة بالرسول النبي الكريم فحسب فنراهم عند ذكر غيره من الرسل والأنبياء يقولون: "عليهم السلام" ولا يزيدون؛ مع أن رسولنا الحبيب محمد، صلى الله عليه وسلم، حين سأله الناس عن كيف يصلون عليه تنفيذا لأمر الله سبحانه في الآية 56 من سورة الأحزاب: "إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما"، قال: "قولوا اللهم صلّ على محمد وآل محمد كما صلّيت على ابراهيم وآل ابراهيم وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على ابراهيم وآل ابرهيم إنك حميد مجيد". وعلى الرغم من هذا القول الواضح الصريح للرسول الكريم يغلب الشح والبخل على بعض الناس فيمتنعون، حتى على أبينا ابراهيم بدعاء "صلى الله عليه وسلم" ويكتفون بقولهم "عليه السلام"، ناهيك عن الصلاة على "آل محمد"، فلو أنك قلت مثلا "فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليها" تبرق العيون وتجحظ كأنك ارتكبت خطأ مروّعا، رغم أننا جميعا نقول في صلاتنا خمس مرات يوميا التشهد "اللهم صلّ على محمد وآل محمد وبارك على محمد وآل محمد"، بل الأكثر من ذلك ما جاء في الآية 43 من سورة الأحزاب قوله تعالى: "هو الذي يصلّي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما"؛ بما يفيد أن الله جل جلاله يصلي علينا، نحن العاديين من خلقه الذين ليس بيننا رسول ولا نبي ولا من آل البيت، وكذلك ما جاء في سورة البقرة : "الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون (156) أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون (157)"، بل إن ربنا الرحيم يأمر رسوله الكريم في سورة التوبة آية 103: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصلّ عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم".

الله سبحانه وتعالى يصلي على الصابرين والناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور وهذه نعمة كبرى منه يجب ألا ننساها أو نخفيها بل علينا أن نبرزها للجماهير العريضة ليطمئنوا ويفرحوا؛ وصلاة الله علينا تعني عدّة أشياء: تعني المغفرة والرحمة، وتعني دعاء الملائكة لنا بالخير، وتعني الهداية ليشيع الذكر الجميل بين عباده؛ فقوله تعالى "ليخرجكم من الظلمات إلى النور" معناها "الهداية" وتملّك القدرة على الرؤية السليمة التي تمكن الإنسان من رؤية الحق حقا والباطل باطلا.

 وقد عبّر واحد من الكتاب، القاسية قلوبهم، عن دهشته المستنكرة لما أسماه  "ظاهرة" خروج كثير من أصحاب الأقلام السياسية والثقافية من عقائد وأفكار تجحد الدين إلى التكلم بلغة الإسلام الحنيف ناعتا ما حدث: "كأنهم تشقلبوا في الهواء شقلبة واحدة ثم خرجوا مسلمين ملتزمين يقولون كلاما مختلفا" رغم أنهم كانوا "عاديين"!

هذه الدهشة عند حضرته سببها أنه من الذين اتخذوا "هذا القرآن مهجورا"، فلم يراجعه بسبب انشغاله بقراءات أخرى ما أنزل الله بها من سلطان مما جعله هو الأجدر بوصف "المتشقلب" الذي يرى كل شئ مقلوبا يهاجم، بتهكم سمج، الذين تاب الله عليهم فلم يعودوا مثله يرون الباطل حقا والحق باطلا، وغاب عنه إدراك صلاة الله وملائكته على الناس تلك التي "تعدل" المتشقلب إلى الوضع الصحيح؛ بإخراجه من الظلمات إلى نور هدي الله.



الاثنين، 16 يوليو 2012

صاحب الحاجة أرعن!

بعض الناس يرددون ما حفظوه من جدول الضرب لكنهم يقفون في عجز كامل أمام حل المسائل الحسابية؛ يسمّعون النظريات ويحتاسون في تطبيقها، وبينما يختلط الحابل بالنابل، بين المتخصصين وبين من لا يعرف في القانون الفرق بين الألف من كوز الذرة، لم يعد أحد يتردد في الشرح والإفتاء، ولمَ لا مادامت المغالطات هي سيدة الموقف؟ يقف مثل المخرج خالد يوسف يحاجج بفهلوة سينمائية المستشارين القانونيين والفقهاء الدستوريين ويؤكد أنه قرأ ما نصّه النص وفهمه من دون حاجة إلى تخصص! برافو!  ولا يهم أن ما فهمة لا يعدو رغبته المسبقة في رفض حق الناخبين في استعادة برلمانهم الذي كلّفهم الجهد والهمّة والمال!

لو استعرنا بداهة الطفل الذي لم ينافق لعدنا إلى منطق ثورة 25 يناير 2011، التي صار البعض يستخف بها وبثوارها  وينكر شرعيتها الثورية ويسميها، ومنهم الدكتورة هدى عبد الناصر،  "تمرد" و يشير إليها الأستاذ أحمد رجب في نُص كلمته بأنها "الفوضى التي عشناها"، لتذكرنا أنها أطاحت برئيس كان يحكم البلاد بالعسف والجور والقوانين المستبدّة، وأن هذا الرئيس المخلوع سقط هو وقوانينه وأحكامه ومحاكمه ولا حق له ولا لذيوله في إدعاءات واجبة التقديس أوالإحترام، و أنه لا يجوز، بحكم الشرعية الثورية، أن يعلو صوت فوق إختيارات إختارها شعب مصر الباسل ودفع ثمنها بدماء غالية لشهداء منهم من رحلوا إلى رحمة الله ومنهم من يعيش بخسائره الجسمانية أحياء بيننا أو محابيس في المعتقلات ظلما.

المطلوب حالا وفورا من السادة الذين أعطاهم الشعب ثقته، من أول السيد رئيس الجمهورية إلى كل نائب في البرلمان، أن يحرروا الآلاف من أبنائنا المحكوم عليهم والمعتقلين ظلما في قهر السجون، وهذا المطلب العاجل لا يتطلب ذكر حيثيات مضافة، وعلينا أن نعلم حق العلم المثل القائل: "صاحب الحاجة أرعن"!

 في سياق ثورة القاهرة الثانية مارس 1800، التي إستمرت 37 يوما، بعد أن أخلّ كليبر بالشروط التي وافق بها على الخروج من مصر، والتي كان من بينها أن تكون نفقة رحيل عسكره على مصر فاجتهد المصريون في جمع المال المطلوب بواسطة كبير تجار العاصمة السيد أحمد المحروقي،  يذكر محمد فريد أبو حديد في كتابه "السيد عمر مكرم"، أن الثورة أدخلت "قلوب المصريين عامة في بوتقة الانصهار ليتكون منها شعب جديد يتقارب فيه الأمير من العامي ... وتنبغ من غمرات ذلك أمة حديثة يحس فيها الفرد بأنه للمجموع ويحس فيها المجموع بأنه من الأفراد، ولقد كانت حوادث الاضطراب الكبرى أبدا هي المعالم الظاهرة في تاريخ الشعوب، ولو شئنا ضرب الأمثال لذكرنا من تاريخ كل شعب حوادث اضطرابه وثوراته"، وكما جمعت ثورة 25 يناير 2011  كل أطياف المجتمع المصري؛ جمعت ثورة القاهرة مارس 1800 الأمراء المماليك إلى جانب العامة من أهل القاهرة، "وهم بين بنّاء وقصاب وخضرى وجعلوا قبلتهم جميعا تحرير مصر والجهاد في سبيلها". وشهد الفرنسيون من تلك الثورة غير ماكانوا يتوقعون فراسلوا بعض الزعماء يطلبون إليهم الصلح "فذهب إليهم جماعة من المشايخ ففاوضوا الفرنسيين في شروط الصلح وكان في هؤلاء المشايخ الشرقاوي والمهدي والفيومي والسرسي وعادوا إلى الناس يحملون مطالبة الفرنسيين بايقاف الحرب على أن ترجع الحال إلى ماكانت عليه قبل الثورة ... فما كاد الناس يسمعون هذه الشروط حتى ثار ثائرهم ونادوا باستمرار الثورة وقد بلغ من حنقهم أن اعتدوا على وفد المشايخ بالضرب ورموا عمائمهم إلى الأرض وأسمعوهم قبيح الكلام"!

صحيح يامصر: الذي أنجب لم يمت!


الجمعة، 13 يوليو 2012

مضروب على قلبه ومضروبة!

تعبير قديم أسمعه من زمن طفولتي، بعد زمن سيدنا نوح بكام قرن فحسب، كانت والدتي رحمها الله تردده لتلخيص حالة من تسأله: "ما لك" فيرد بتجهم وبكل تأفف: "ولا حاجة! مالي؟"، فتقول: "مضروب على قلبك"! ومؤنثها "مضروبة على قلبها"، ووراء هذا الضرب على القلب أسباب عديدة أبرزها الغيرة الناشئة عن تقديرات غير صائبة من "الغيران"؛ مثل أنه\ أنها اعتاد\ إعتادت الاستقرار في الظلم فإذا شاء ربك العدل اهتز استقراره\ إستقرارها وانضرب\ إنضربت على قلبه\ قلبها ونرى راية التبرم مرفوعة وهتاف البرطمة: "بلا عدل بلا كلام فارغ أنت بتصدّق؟".

 أو من اعتاد\ اعتادت الكسب غير المشروع، سواء بتقلد منصب غير جدير\ جديرة به أو بحيازة جائزة من غير استحقاق أو نهب أموال عامة تحت مسميات زائفة فإذا جاء أوان وضع الأمور في نصابها انقلبت شفاه من زُيّنت لهم سوء أعمالهم فوجدوها "مافيهاش حاجة هوّ كان حصل إييييييييييه يعني؟"، ووجدت منطق القاتل الذي يسوق التهمة ليلبسها المقتول: "أنا قتلتك وسامحتك ليه أنت يامقتول مش راضي تسامحني؟"، وتخرج معه جوقة المنشدين بالمراء الباطل بجعير: "الله؟ ماتسامحه بقى! مش اعتذر لك؟ ماتبقاش حقود ورذيل ومعطل المرور وموسخ الميدان ومهبّط البورصة ومعطل عجلة الإنتاج وكمان محوّد على شارع العروبة وناطط على بوابة القصر؟ والريّس ساكت لك؟ لالالالالالالالالالالالالالالالاه! مالناش قعااااااد في البلد دى!".

 المضروبون على قلبهم يريدون إسقاط الشــعب!

الأربعاء، 11 يوليو 2012


 


.ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض
لا يزعجني الاشتباك والتشابك فهذا النزوع ليس بالضرورة ميلا متأصلا للعدوانية، نعم، ليس بالضرورة رغبة للانقضاض والتجريح، إنني أراه رغبة حنون لكسر الوئام؛ لكسر ذلك الانسجام البليد والتجانس غير المنطقي، غير المبرر والذي هو من ثمّ: غاية في الخطورة، إثارة الشد والجذب، جلب التناقضات إلى السطح، أن يرى الوجه غير ما يرضيه في الوجه الآخر فلا يرتاح ويسكن، نعم: لا يجب أن تكون الراحة والسكون حتى لا نضع أوراق الشجر الزاهية بأيدينا لتغطي فوهة البئر وتبدو الطريق ممهدة، سالمة. ليست الطريق ممهدة ولا سالمة، فلماذا خداع النفس؟

كل تواؤم يحمل في طياته تنازلا بشكل ما. وحين يكون التواؤم بين صغير وكبير، بين ضعيف وقوي يتوضح التنازل بشكله الحقيقي: اقتطاع من الصغير الضعيف لكسب يضاف إلى الكبير القوي. ويمكن ضرب الأمثلة في هذه الحيثية على المستوى الدولي العالمي ولكني أفضل تقريب الأمثلة إلى حدود اختصاصي الأدبي، حتى أتواءم مؤقتا مع الاختصاصيين السياسيين، فأذكر على سبيل المثال تواؤم بين أديب شاب وناقد من جيل سابق. حين يجلس الأديب الشاب ضاحكا متجانسا منسجما مع الناقد، الذي تنحسر فعاليته الفكرية رغم أنه في مركز قوة، (إذ الحقيقة هي أن مركز القوة لا يصله الإنسان إلا وهو في مرحلة انحسار فعاليته الفكرية)، يكون ذلك التواؤم معناه أن الشاب يقتطع، مع كل دقيقة تمر في جلسته مع ذلك الناقد، شرائح من حقيقته وصدقه ليطعمها للناقد مقابلا غاليا لهذه الدقائق الحرام من التواؤم والتجانس المفتعل والمزيف.

التواؤم مع ذلك موقت. هو تسويف لاشتباك حتمي لا يمكن درؤه، ولعل إدراكنا لهذه الحقيقة هو التفاؤل الوحيد الذي يمسك عنا التردي القاتل في اليأس.

كل سطح هادئ يحتاج إلى إلقاء حصاة فيه لإثارة تموجه وإقلاق ركوده. من الحرص كنس أوراق الشجر النائمة في الطرقات: إثارتها حتى لا تتكوم وتخفي فوهات الآبار، تلك الأفخاخ التي تهددنا بالزلل والسقوط.

لعلي حكيت هذه القصة من قبل، لا بأس سأعيد حكايتها، فمنذ سنوات بعيدة كنت أتجول قرب منتزه حديقة الدراسة بالقرب من مسجد الحسين. مشرف أخضر على بانوراما للقاهرة العريقة. رأيت تمثالا يتوسط المنتزه حسبته لأول وهلة لبيرم التونسي فقد كان ذلك منطقيا لأن بيرم نبض مثل هذه الأحياء؛ نبض القاهرة البلدية، لكن الذين يخططون للمتنزهات قدروا أن بيرم كان يلبس صندلا رخيصا في قدميه وكانت له نظرة شرسة وكلمات خشنة رافضة وتعبير ينعكس فيه اللا وئام، لذلك لم يكن محببا أن يتوسط متنزها! عندما اقتربت من التمثال وجدت أنه تمثال أحمد بك شوقي أمير الشعراء. أحمد بك شوقي بوجهه الهادئ المنعم والوردة في اليد الرقيقة. في حياته صرخ العقاد في وجه إمارته الشعرية، يكسر الوئام ويهز الهدوء والسكون ويلقي بالحصى على سطح الاستقرار الشعري الراكد، وكذلك تقدم زكي مبارك ليشاكس في كل اتجاه.

زكي مبارك من جيل العقاد. لو اخترت له لقبا بلا تردد اقول: إنه رائد النقد التشاكسي أو المشاكس، لو التزمنا باختيار الكلمة الأبسط. بسبب خصوماته ومشاكساته وتفرده دخل في زمرة من ظُلموا ـ بضم الظاء ـ من أعلام تاريخنا الأدبي المظلومين، الذين تاهوا في صراعات التعصب حين تركزت بقع الضوء الإعلامية على أسماء بعينها لتتوجها بمفردها أعلاما للاستنارة والنهضة في مصرنا المحروسة، بينما غمط حق من وقفوا بأقدامهم ثابتين وحدهم من دون مريدين أو أصدقاء أو مزورين.

في كتابه "زكي مبارك ونقد الشعر" نماذج تطبيقية للمنهج النقدي للدكاترة زكي مبارك، الذي يعمد إلى جذب الفاكهة من قلبها في احتجاج غير خاف على هؤلاء الذين يبذلون الجهد لملء معدة القراء بالقشر الجاف حتى التشبع بالملل وسوء التغذية فلا يصلون أبدا إلى بؤرة التذوق الممتع. وزكي مبارك كرائد في فن النقد المشاكس يرفع قلمه ولا يتردد ليطيح بآراء د. محمد حسين هيكل في البارودي، والأستاذ أحمد أمين في مقدمته لشرح ديوان حافظ، ويقربنا من شخصية الشاعرين حافظ وشوقي الإنسانية بضعفها ولمحات شرها، ويجعلك بسرد هذا الضعف والشر لهذين الشاعرين أكثر حبا لهما وأكثر قربا. إن زكي مبارك ناقد قوته الفائقة كانت في قدرته على كسر التواؤم الخادع وتحريك المياه الآسنة، وكاتب تتغلغل فيك، حين تقرأه، الفائدة وتشعر بالصحة الفكرية والمتعة الثقافية وتعرف بواسطة أسلوبه الاستفزازي اليقظة فتزداد معه علما ووعيا. إنه الناقد الإبداعي الذي يجب أن تؤرخ به بداية النقد العلمي وليس الدكتور محمد مندور، كما يزعم المتعصبون لأهوائهم على حساب الحقيقة والعلم والتاريخ، هؤلاء الذين يحسبون دائما أن الدنيا ليست سوى أنوفهم القريبة جدا من أعينهم والتي لا يرون غيرها لضعف بصرهم الشديد.

الجمعة، 6 يوليو 2012

ثقافة العربجة

تحولت الكلمتان "عربجي" و "حمّار" من إشارة تعني عاملين في مهنة إلى إشارة نحو بشر يستدل منها على سوء أخلاقهم وتردي سلوكياتهم مهما ارتفع شأنهم الاجتماعي أو الوظيفي، أو تضخمت ثرواتهم؛ فهذا راكب سيارته الفاخرة يقودها، أو يقودها له سائق، ولا يستحي أن يمد يده بمنديل ورقي أو بقشرة موز أو برتقال أو عقب سيجارة مشتعل، إلى آخر مفردات قمامته، يلقيها من نافذة سيارته الأنيقة، وهذا آخر يبصق، وخلافه، على الأرض غير آبه برذاذ بصاقه، وخلافه، ملوّثا للبيئة  ومتناثرا على وجوه السائرين، ونقول جهرا أو في سرّنا: "أما حتة عربجي صحيح!"، وقد يرى البعض  هذا المشهد "عربجة" سطحية؛ فثمة ممارسات بين الأزواج والزوجات يختصرها القول: "جوزها عربجي وحمّار"، ونفهم فورا شكل خطابه السلوكي واللفظي مع زوجته وأبنائه. هذه النماذج تنتشر أينما توجهنا فنراها في دواوين العمل، ومقاهي المثقفين، والنقابات، والأندية، وتعليقات المعلّقين في الشبكة العنكبوتية وفي تدوينات بعض المدوّنين، وتغريدات بعض المغرّدين، ونقرؤها أحيانا في المنثور والموزون والقصير والمسهب من الإنتاج الورقي الذي يطبعه بعض الذين يحاولون بالكتابة نشر "ثقافة العربجة"، ولا يمكن أن ننسى في هذا المضمار إسهامات المذياع المرئي بقنواته وفضائياته وما تبثه من اعلانات مُحرجة وتنويهات عن أفلام سينمائية غير قابلة للمنافسة في القبح والبذاءة!

 وأعود بذاكرتي إلى "العربجي" أو "الحمّار" المسكين، الذي كان يجلس ورأسه في حماره عند مدخل "الحسينية"، بميدان فاروق بعباسية الأربعينيات ميدان الجيش حاليا، وأمتلئ بالشفقة عليه؛ فالمسكين كان يجد قوت يومه بالكاد، وكان همّه الأول قوت حماره، وما يتبقى من قوت حماره يكون رزق عياله، فكيف كان بالإمكان ألا يضيق خلقه ويسب ويشتم ويلعن وهو يطرقع بسوطه "شي .. حا يابتاع الكلب.."، لكن ماعذر البهوات والأساتذة والدكاترة والمستشارين وأصحاب المناصب العليا والشرفية والسيارات الفارهات في سلوكياتهم التي تملأ القلب بالغم والهم؟ لا والله إنهم لم يرتقوا حتى لألقاب "عربجية" و "حمّارين" ولوكان للعربجية والحمّارين نقابة لحق لها الشكوى من إساءة استخدام ألقابهم بإطلاقها على كل صاحب مسلك سفيه ولفظ  قبيح وشر آثم لا يعرف السبيل إلى تقوى الله.

الأربعاء، 4 يوليو 2012

من صندوق الجواهر:

"الكُـــــتُـــبـي" وهبـة حســن وهبـة

طريقي إلى مكتبة الحاج وهبة حسن وهبة بدأته لأول مرة نهاية عام 1980؛ كنت أريد أن أنشر كراستي "في مسألة السفور والحجاب". كل الأبواب كانت مغلقة أمامي هي والنوافذ؛ ممنوعة من النشر في مؤسسات الدولة "المدنية" وفي غيرها والإقصاء الثقافي على أشده في ظل الديموقراطية ذات الأنياب، يكمم الأفواه ويكتم الحق والحقوق، والسهام متوالية تضرب التوجّه الشعبي النسائي الطوعي للإلتزام بغطاء الشعر، (ما تم تسميته ظاهرة التحجب في مغالطة مصطلحية مقصودة)، تحت قيادة السيدة جيهان صفوت رؤوف، زوجة رئيس الجمهورية السابق محمد أنور السادات، تفتي من غير مؤهل بأن الإسلام من التحجب براء، مؤيدة بقوى ميليشيات نساء ورجال نوادي الروتاري والإنرويل والليونز الشاكرين لها أنها السابقة بإعادة إدخال و نشر تلك النوادي المشبوهة على أرض مصر المحروسة، التي ورّثتها من بعدها للسيدة سوزان ثابت زوجة رئيس الجمهورية المخلوع محمد حسني مبارك لتتمادى وتستفحل!

سرت في شارع الجمهورية أبحث في مكتباتها العريقة عن فرصة متاحة لنشر ردّي على العدوان الجائر الشرس، بالقرب من ميدان عابدين كنت عند مدخل مكتبته؛ كان الحاج وهبة حسن وهبة يجلس إلى مكتبه المزدحم بالأوراق وأكواب اليانسون التي شربها الضيوف. ألقيت السلام وردته الأصوات وكان صوته مركزها، سألت عن المسئول، "تفضلي ياستي أنا المسؤول". رفعت بشاشته معنوياتي المخذولة. كان أمامي كوب اليانسون وأنا أحدثه عن رغبتي في طبع الكراسة، "طلباتك ؟"، ليس لي طلبات سوى أن أراها مطبوعة متاحة للناس من دون أن أتكلف أنا شيئا، "أمهليني يوما أقرأها"، قلت في تأثر: شكرا.

كان الرصيف عند باب المكتبة منخفضا نصعد منه إلى المدخل بسلمة واحدة. الحاج وهبة في نشاط وتلقائية يتكلّم عن الكتب كأنها قبيلته التي يعرف مضاربها وبواديها، يجاملني بالمودّة من دون سابق معرفة، وبيدي كوب اليانسون أرتشف منه على مهل. تبدد غيظي شيئا فشيئا من مشوار الإهمال الذي قابلتني به سوق النشر فها هو الحاج وهبة يوافق على نشر كراسة لكاتبة لم يسمع باسمها من قبل ولم يخش أنها ممنوعة من النشر وتطاردها قوائم المنع وأكاذيب التحريات،  وكيف كان من الممكن أن أسمع عنه أو يسمع عني؟ في بداية مشواري الصحفي عام 1955 كان هو وراء الأسوار، منذ اعتقال 1954، يبدأ تنفيذ حكم عليه بالسجن خمسة أعوام بتهمة مساندة أسر المعتقلين في قضايا الإخوان بسداد إيجارات مساكنهم، وبعد عودتي من دراستي بأمريكا عام 1966، بعد غياب ست سنوات، لأبدأ مرحلة إنتعاشي الصحفي القصيرة جدا كان هو قد عاد إلى السجن مرة أخرى في دفعة البطش الناصري المروّع عام 1965 و  لم يخرج منها إلا عام 1972، في الحقبة الساداتية التي صدر فيها قرار منعي من النشر ومن ثمّ السجن والنفي والتلطيم من أغسطس 1971 حتى 25 مارس 1983، فمتى كان من الممكن أن أستدل على مكتبته ومتى كان يمكن أن يسمع باسمي يا حبيبتي يا مصر؟

كراسة واحدة صدرت لي من مكتبته مطلع 1981 ثمنها وقتها كان 30 قرشا أكسبتني معرفة قدوة إنسانية أتمثلها أمامي كلما احتجت رفعا لمعنوياتي المخذولة.
***

يوم الأربعاء 7 محرّم 1421 الموافق 12 إبريل 2000 ذهبت إلى مكتبة الحاج وهبة حسن وهبة لأحقق ما أجلته طويلا وهو؛ أن أسجل مشوار تكوينه الإنساني والمهني والفكري. بدأت الاستماع إليه من الساعة الحادية عشرة والنصف صباحا إلى الساعة الرابعة والنصف عصرا. جاهدت في كتابة اللقاء حتى تصورت أنني نجحت في رسم ملامح تقريبية لوجه اشتبكت فيه، منذ مولده بحي الخليفة 23 أكتوبر 1923، أيام وأحداث ودقائق ولحظات من سنوات الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات والستينيات حتى السبعينيات، وحين عرضت عليه ماكتبت قبل نشره قرأ الكلام وقال بحسم: كتبت عن "الكُتبي" وهبة حسن وهبة ويبقى أن تكتبي عن "الناشر" وهبة حسن وهبة، ابتسمت وقلت: حين أكتب عن "الأصل" لا يهمني أي "فرع"!

هو "الكُتـبي" العريق بكل مظاهره وتقاليده؛ دائما هناك الينسون، والرصيف أمام مكتبته يرصد تغير الزمن، يتساوى أولا مع المدخل فلا نصعده ثم يرتفع تدريجيا حتى نحتاج أن نهبط  درجتين إلى الداخل، هذا الجزء من القاهرة لا أمر منه أبدا إلا إذا كنت قاصدة متعمدة الذهاب إلى مكتبة وهبة. بين زيارة وأخرى تمر أعوام، لكنني أجده رغم تقدّم العمر كما عهدته؛ الصدر المشحون، والذاكرة الممتلئة، واللسان المتدفق يرتب إشارات المرور بين شحنات الصدر وامتلاء الذاكرة حتى تظل الكلمات هادئة ودقيقة وتعبيرات الوجه منتظمة، والابتسامة الدمثة في مكانها. لم يمكنني أبدا أن أتخيل كيف يمكن أن يتبدد هذا السلام المهفهف بأجنحته من حوله، ولا كيف يمكن أن تتبدل تعبيرات وجهه المرتاحة عند الألم والحزن والافتقاد والتعذيب. لقيته دائما والكتب مصنّفة، منسقة، والأرض نظيفة والعمل منساب كالحرير، لا شئ يتغير سوى مستوى إرتفاع الرصيف عند المدخل، مع ذلك لم ينس أبدا أن يذكّرني  كل حين، مشيرا إلى الأرفف، "كل هذا كان مُحترقا ومنسوفا!" ثم يقتضب حابسا الغصّة بابتسامته التي لا تفارقه والينسون الذي لا ينتهي.
***
أغيب قدر ما أغيب وأجده يواصل حديثه كأن لم يكن هناك انقطاع "شوفي ياستي.."، هكذا يبدأ الصوت الهادئ المهذب الخفيض واللغة التي تتلمس أقل الكلمات خشونة وتتخير أرفق الجمل لتعبر عن الفظ والقاسي والمتوحش والذي لا يُحتمل وعندما يهرب التعبير يصمت فأفهم ما وراءه من الهول!

في ذلك الأربعاء 12 إبريل 2000، حين كان المسجل الصغير يلتقط كلماته كان لا يزال متأثرا مما كتبه الأستاذ حسين أحمد أمين بخصوص الأستاذ محمود شاكر: "...الأستاذ حسين أحمد أمين لم يكن محقا فيما نسبه إليّ...الأستاذ محمود شاكر رحمه الله حضر إلينا في سجن أبو زعبل سنة 1967 وكنا نحن هناك قبله سنة 1965، رجل كبير، ولم يكن بينه وبين الإخوان موده، فهو الله يرحمه كان يتلفظ بألفاظ تجريح للأستاذ حسن البنا، لكنه كان وحيدا والسجن به حوالي  ثلاثة آلاف... محدّش كان يعرف قدر شاكر مثلي ...والله يرحمه كان مدخنا والدخان في السجن ممنوع وصعب لذلك كنت أعتبر أنه من واجبي توفير ما يحتاجه لكن هذا ماكانش يعجب الأخوان... كان في حمايتي عشان محدش يتعرض له، ولا أذكر له إلا كل ود قبل السجن وبعده ...هو كان حادا في تعبيراته وخشنا في كلامه لكن هذا لا ينتقص من فضله فهو عالم وعالم جليل....".

قال له أبوه إحنا طلعنا لقينا نفسنا في القاهرة، كان والده صاحب مخبز بعابدين، والأم نالت قسطا من التعليم تميزت به في جيلها. هو الابن الأكبر لوالديه اللذين لم يعش لهما من الأبناء سوى "وهبة" و "زينب" التي تصغره بأعوام. معزّز مكرّم تربى بالحب و الحدب والعناية والخوف من فقدانه، قريب من أمه التي قرأت في الدين وتفقهت فيه، ذهبت به وعمره خمس سنوات إلى كتاب الشيخ أيوب بحي الخليفة، حيث كان مسكنهم الأول قبل الإنتقال إلى حي الحسين، فتعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم: " كنا نكتب على صفيح بالحبر الشيني، قبل لوح الإردواز، بالقلم البسط البوص، والشاطر هو الذي يعرف يبري القلم سن تخين وسن رفيع عشان التشكيل، لما كبرنا بقينا بنشكّل بالحبر الشيني الأحمر الفتحات والضمّات، يقولوا عليه الآن الضبط وأيامنا نقول التشكيل.."، بعده ذهب إلى كتاب الشيخ عبد المقصود الذي يذكره بكل خير فقد أكمل فيه حفظ عشرة أجزاء كاملة من القرآن الكريم. أراده والده معه في طابونة الخبز لكنه فضّل العمل في مكتبة الشيخ محمد رشيد رضا، دار المنار، بشارع الإنشاء خلف وزارة المعارف العمومية. بدأ العمل معه مطلع عام 1933،قبل أن يبلغ العاشرة. يضحك معلقا: "عشر سنوات في ذلك الوقت كان يعتبر رجل"،وكانت مهمته مساعدة الشيخ زكي المسئول عن إدارة المكتبة، "كان الشيخ رشيد رضا يسكن فوق مكتبة دار المنار، فارع الطول أبيض أحمر الوجه، موضع احترام الجميع، كان لي بمثابة أب، في زماننا كان الشيخ له كلمة مسموعة أكثر من الأب، عدد الكتب بدار المنار كان محدودا، كلها مؤلفات الشيخ رشيد رضا مثل الوحي المحمّدي وتفسير المنار 12 مجلدا وكتب الأستاذ الإمام محمد عبده"، يذكر الحاج وهبة حادثة غضب الشيخ رشيد رضا لأن الشيخ زكي لم يلب واحدا من طلبات الكتب: "قال الشيخ رشيد رضا هذا طلب كتابا فلماذا لم ترسله؟ رد الشيخ زكي قائلا: يا مولانا هذا الرجل طلب منا كتابا من قبل ولم يسدد ثمنه، انتفض رشيد رضا بالغضب منفعلا: أتريد أن تدخلني النار يا شيخ زكي؟ تمنع العلم من أجل المال ياشيخ زكي؟ هل أنا أسأت إليك في شئ حتى تؤذيني؟ ... وظل يؤنبه ثم صاح: ياولد، ويا ولد لا تعني أحدا سواي، فالمكتبة ليس بها سوى الشيخ زكي والولد هو أنا وهبة، قلت: نعم سيدي، قال: إمش هات الكتاب وضعه في غلافه  وأرسله بالبريد فورا لطالبه، نفذت الأمر وكنا جميعا نرجف، فالشيخ زعلان هذه كانت بالنسبة إلينا يعني القيامة قامت، عن حب لا عن خوف. كانت الحكمة ألا تمنع العلم أبدا؛ هذا لا يجوز، تعلمت منه ألا أحبس العلم لأجل المال؛ أرسل الكتاب لمن يطلبه قبل الدفع وتستمر المطالبة بثمنه بعد ذلك".  كان أجر الطفل وهبة عند الشيخ رشيد رضا قرشين صاغ يتسلمها كل جمعة، "شبرقة لأني كنت أعيش في كنف أبي وأشتري بأجري قصب وحلويات". بعد وفاة الشيخ رشيد رضا سنة 1935 إنتقل الصبي وهبة حسن وهبة للعمل عند مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي في شارع التبليطة بالأزهر، بعد حفظ صندوق الحروف في قسم الجمع تحول إلى قسم التجليد الذي استهواه ووجده فنا وابتكارا، " التنقل من قسم إلى قسم أفادني، والتجربة في مطبعة الحلبي علّمتني الدقة في حياتي مع شغلة الكتاب، رئيس المصححين كان اسمه الشيخ أحمد سعد، رجل صالح، قبل التصحيح، وكلها كانت كتب أحاديث نبوية وتراث، كان لازم يقوم يتوضأ ويصلي ركعتين وبعدها يطلّع القارورة، أي زجاجة العطر، ويتطيب واحنا شوية عيال نروح نمد أيدينا: والنبي ياشيخ نقطة هنا وهو لا يبخل، رئيس الطباعين الحاج علي الأشقر يزعق: ياشيخ أحمد وقفت حالنا، فيقول له: يا حاج علي أنا لا أقرب حديث رسول الله قبل أن أتطيب لينشرح صدري ويقيني الله من الزلل، هذه أشياء علمتني من الصغر ألا يقبل الإنسان على عمل قبل أن يتهيأ له، كنت عند الحلبي أتقاضى أربعة قروش في اليوم، طفولة جميلة، أمضيت عنده ثلاث سنوات، بدأت أكبر والذي يُعلّم لا يدفع أجرا مجزيا..".

 ومن ثم كان لا بد أن يستقل، " في ذلك الوقت، عام 1942، كانت مصر كلها فيها ثلاثة أو أربعة متخصصين في كتب التراث وكنت واحدا منهم والحمد لله، تخصصت  في كتب التراث؛ عرفت أتسوقها وأبيعها واشتهرت بذلك، ادخرت أربعين جنيه شايلهم عند أمي، اشتريت واجهة متر ونصف في متر، 176 شارع محمد علي بحوالي 25 جنيه والـ 15 جنيه الباقية اشتريت كتب وطلّعت السجل التجاري، نجحت وصار اسم وهبة له مكانتة بين أصحاب المكتبات، بعد ذلك اشتريت مكتبتي هذه في عابدين سنة 1951 مع الاحتفاظ بمكتبة شارع محمد على. عملت بنشاط واجتهاد من الساعة الثامنة صباحا حتى منتصف الليل، العلاقة بيني وبين الناس كانت تجعلني مش عاوز أروّح، كنت قد قررت ألا أتزوج إلا بعد امتلاك مكتبة فاختارت لي أمي زوجتي الفاضلة التي أنجبت منها حسن وحسين وإنصاف وعزة، إنصاف على اسم أمي وحسن على اسم أبي..".

 أكثر من عامل مؤثر ساهم في تكوينه الثقافي والفكري؛ كانت هناك الأم الذكية المتفقهة في دينها، مع كُـتّاب الشيخ أيوب، مع الشيخ رشيد رضا وتفسير المنار، وحوارات المتكلمين بمفردات الثقافة الإسلامية، واللجوء إلى المسجد الحسيني عند الضيق للتأمل والتفكير، وانتماء في البداية، عام 1938، للطرق الصوفية، ثم تركها إلى مجلس الشيخ محمد صبرة في مسجد الحسين حيث التقى عام 1941 بالشيخ سيد سابق والأستاذ خالد محمد خالد، الذي كان لايزال طالبا بثانوية الأزهر، ثم الالتحاق بالجمعية الشرعية في عهد الشيخ أمين خطاب السبكي بعد وفاة والده الشيخ محمود خطاب السبكي، وفي سنة 1946 أقام الإخوان مركزا لهم في العتبة أمام مكتبته فذهب مع صديقه خالد محمد خالد ليقابلا الشيخ حسـن البنا، "...بعد مقتل النقراشي 1948 حدثت الحوادث، اعتقلوني عام 1948 لكني لم ألبث إلا ليلة واحدة؛ أخذوني من قسم الموسكي إلى الحكمدارية في باب الخلق وكان المفترض أن أحوّل، بعد تحقيق النيابة، إلى الهاكستب ثم الطور لكن أمي راحت لمدير موظفي الداخلية وعضو الهيئة السعدية وأعطاها كارتا دسته لي في الطعام في زيارتها لي في باب الخلق، المحقق كامل قاويش رئيس النيابة كان رجل فظيع شتام أعطيته الكارت قبل التحقيق فسألني منين جالك الكارت ده؟ قلت له قريبي! فأعادني لقسم الموسكي ونجوت من إعتقال 1948 بفضل أمي رحمها الله. نحن نسمي المرحلة 1948 و1949 كلها أحداث 1948. عام 1950 تم الإفراج عن الإخوان في حكومة الوفد، وكان الأستاذ خالد محمد خالد قد تخرج وعمل مدرسا وطبع كتابه (من هنا نبدأ) ألفين نسخة وأعطاه لي للتوزيع، لأكثر من 20 يوما لم أبع سوى نسختين ثلاثة إلى أن كتب كاتب مقالا في أخبار اليوم يهاجم الكتاب ويقول إن خالد ينادي بما نادى به على عبد الرازق في كتابه الإسلام وأصول الحكم، وقرر الأزهر التحقيق مع المؤلف وسحب منه العالمية، بعد هذه الضجة الألفين نسخة اللي عندي طاروا، بعتهم كلهم، كان الكتاب بعشرة قروش، جاءني خالد محمد خالد وقال عايزين نطبع طبعة ثانية فقلت له: لأ! خالد صديقي لكن الحكاية أصبحت مبدأ وإسلام، خالد كان مستخسر إن فايدة المكسب تروح لحد ثاني، لكن أنا رفضت، فخالد راح مكتبة الأنجلو واتفق معهم، خالد كان رجلا نظيفا وشريفا وعفيفا، لكن لما الأنجلو طبعت الكتاب ثلاث طبعات في سنة واحدة والكتاب اتباع، أعداء خالد اتهموه بأنه مرتشي ويعمل لحساب الكنيسة، ويعلم الله أنه كان بريئا تماما، مما دفعني إلى الذهاب للأستاذ البهي الخولي، رئيس قسم نشر الدعوة وشهدت لصالح خالد وقلت لهم خالد نظيف ولم يكتب لحساب أحد. بعدها قمت بتوزيع كتاب الشيخ محمد الغزالي (من هنا نعلم) يفند به كلام خالد الخاص بفصل الشريعة عن الدولة..". سألته هل لديك نسخة من الطبعات الأولى لهذه الكتب؟ قال: " ليس لدي ولا ورقة من كل كتبي؛ هذه ثالث مكتبة أعملها، مكتبتين قبل هذه أخذوها: يوم 7 أغسطس 1965 وقعت عليّ الحراسة، الساعة 9 صباحا جاءت حملة من حوالي 7 أو 8 ضباط تحت قيادة أحمد راسخ رئيس مكتب القاهرة، وقسموا أنفسهم إلى 3 فرق فرقة في المكتبة هنا وفرقة كانت في مخزني بالداخل مكان سينما إيديال والفرقة الثالثة ذهبت إلى بيتي على الناصية هنا، فتشوا البيت ودلقوا الطعام وبهدلوا الدنيا واللي دخلوا المخزن جابوه من فوق لتحت واللي في المكتبة قطعوا الكتب وطلعوا الدوسيهات، مش عملية ناس بتفتش لا  ناس بتخرّب، وظلت هذه العملية من التاسعة صباحا حتى السادسة مساء، أنا كنت موجود هنا وساعات أروح البيت بناء على طلبهم لأفتح دولاب، عمليات إمتهان وانتقام، واحد طلب من زوجتي تخلع أساورها باعتبارها مال تحت الحراسة التي صدر فيها قرارين: قرار على وهبة حسن وهبة صاحب مكتبة وهبة وفروعها والآخر على وهبة حسن وهبة وعائلته، وعائلته هذه تشمل أقاربي حتى الدرجة الرابعة، كانت عزة بنتي عمرها ثمانية أشهر ونشر اسمها في الجريدة الرسمية : عزة وهبة حسن وهبة تحت الحراسة! قفلوا المكتبة وشمعوها وشمعوا المخزن وفي البيت فكوا السخان والمدخنة وقالوا بندور على الأسلحة! سلاح؟ أنا ح يبقى عندي سلاح أعمل به إيه، ده أنا مكتبتي أهه وبيتي أهوه وقسم عابدين في المنتصف! بعدها بيومين فتحوا المكتبة وجاء حارس قال لي كلمة لن أنساها قال لي: ماتجيش هنا تاني لا مشتري ولا بايع، لك أن تتصوري واحد يقول لي هذا الكلام وهو جالس على مكتبي في مكتبتي وأنا واقف أمامه، قلت له حاضر! بعدها بيومين تم اعتقالي من المباحث إلى سجن القلعة ومنه إلى سجن أبو زعبل، رحنا لقيناه النار الموقدة، به مكان يقال عنه المحمصة...".

يذكر الحاج وهبة فترة سجنه الأولى من 1954 حتى 1960 بالإمتنان مقارنة بالفترة الثانية المهولة التي إشتعلت نيرانها من أغسطس 1965: " بعد خروجي من السجن 1960 عوّضني ربنا عوضا كبيرا؛ ليل نهار ما كنتش أبطل شغل ودبت الحياة من جديد في هذه المكتبة التي كان قد علاها العنكبوت وخلت أرففها من الكتب القيّمة، على الرغم من الوضع المالي المتردي في البداية استطعت أن أستعيد توازني، ثم أغدق الله عليّ بطلبات من الخارج كأن ليس بمصر سوى مكتبة وهبة، وفي خلال هذه الفترة تعرّفت على الأستاذ سيد قطب الله يرحمه قبل لقائي به شخصيا عام 1963، بعد خروجه من السجن، كان محكوم عليه بعشر سنوات من 1954 لكنه خرج 1963 قبل إنتهاء المدة بوساطة عبد السلام عارف، وطلّعت له عدّة كتب وكنت بطبع لأخيه محمد قطب كتب  سنة 1948 من مكتبتي بشارع محمد علي، وعرفني محمد قطب بسيد قطب الله يرحمه، طلّعت للأستاذ محمد قطب حوالي 18 كتاب، وللأستاذ سيد قطب حوالي تسع أو عشر كتب، أما في ظلال القرآن فكان الأستاذ سيد قطب قد كتب طبعته الأولى في سجنه من 1955إلى 1960 وطبعها له عيسى الحلبي، وهوغير مصطفى الحلبي الذي اشتغلت عنده في صباي، الطبعة الأولى من في ظلال القرآن كانت نحيلة وقليلة وبدأ الأستاذ سيد ينقحها خلال الفترة من 1960 إلى 1963 وهو لا يزال في السجن، دوري أنا مع الأستاذ سيد بدأ من سنة 1960 لما خرجت من السجن وأعدت ترتيب المكتبة، كان الأستاذ سيد يضيف إلى الطبعة الأولى إضافات تكاد تصل إلى ضعفها أو أكثر، ويرسل المسودات مع العساكر اللي كانوا عارفين طريق المكتبة، ليعاد طبع في ظلال القرآن بصورتها المنقحة بالزيادة المضافة عند عيسى الحلبي، المسودات تأتيني ومن عندي يأخذها الأستاذ محمد قطب إلى مطبعة عيسى الحلبي؛ يأتيني الأستاذ محمد يوميا من الخامسة بعد الظهر حتى التاسعة مساء، نقفل المكتبة ونروّح سوا، فيما عدا الخميس والجمعة، وهكذا تمت إعادة طبع في ظلال القرآن بالزيادة والتنقيح وبلغت 8 مجلدات مقاس 70 × 100. بعد خروج الأستاذ سيد من سجنه سنة 1963 أصبح بيننا طباعة وكتب وتزاور، وكان له نظامه الخاص: يوم الخميس يوم قضاء الحاجات والمشتريات، ينزل من بيته في حلوان يلف البلد كلها لغاية لما المحلات تقفل الساعة إتنين، ثم يأتي هنا ناكل لقمة، رجل بسيط، أجلس أنا وهو نأكل ونصلي حتى تفتح المحلات مرة أخرى الساعة أربعة يروح يكمل بقية مشترياته حتى الساعة سته أو سبعة يعود هنا يأخذ أماناته كلها ويحطها في تاكسي وعلى باب اللوق يركب القطار إلى بيته في حلوان. كان مخصص يوم الجمعة للقاء الناس في جنينة بيته اللطيفة بشارع رستم، وابتداء من السبت حتى الأربعاء يدخل مكتبه من الصباح حتى المغرب أو العشاء ، ده كان شغله: قراءة وكتابة، هذه كانت حياة سيد قطب رحمه الله..".

ألم تكن تخاف من التضرر الأمني بسبب هذه الصلة بآل قطب؟ يرد الحاج وهبة بابتسامة رائقة: " لا والله حكاية السجن دي مش مهمة، كنا عارفين إحنا بنعمل إيه، واللي بنعمله لا يغضب ربنا وإذا الناس غضبت فهم أحرار. كان لقاؤنا اليومي مع الأستاذ محمد قطب يحضر فيه الأستاذ خالد محمد خالد على الرغم من إختلافنا، وكان يحضر معنا الشاعر محمود أبو الوفا، كان رجل لطيف ومهذب، كلهم ناس أدباء وشعراء ومثقفين قعدتهم فيها مرح وفيها نكات وقفشات، نشرب شاي، نشرب قهوة وتكون هناك مناقشات وانتقادات، جلسة علني والباب مفتوح على الشارع، الكلام كله في المباح لغاية أول أغسطس 1965 راحوا فتشوا بيت الأستاذ سيد قطب وكان هو على قدر علمي في رأس البر، فتشوا البيت في غيابه بطريقة همجية وكان الأستاذ محمد كذلك غير موجود فلما علم الأستاذ سيد بما حصل احتج على تفتيش البيت في غيابه وأرسل احتجاجه إلى المباحث العامة، عاد الأستاذ محمد إلى البيت وشافه متبهدل بهدلة شديدة وعلم أن الأستاذ سيد مطلوب القبض عليه، كنا يوم 3 أغسطس 1965 عندما وصلني الخبر إن الأستاذ سيد مطلوب، وإنه ليس ببيته وساب البيت اللي نازل فيه برأس البر، يوم 5 أغسطس جاءني الأستاذ سيد في تاكسي متخفي وقال إن حصل كيت وكيت وإنهم اعتقلوا محمد قطب وإنه مطلوب ومع السلامة ..مع السلامة ..ومشي، كانت هذه آخر مرّة رأيته فيها 5 أغسطس 1965، حتى سمعت خبر  إستشهاده  شنقا حتى الموت أغسطس 1966"!

جاء ابنه حسين يحادثه في شأن من شئون عمل المكتبة، قلت: الحديث ذو شجون، فردّ مازحا: بل الحديث ذو سجون! السجون التي قضى فيها 12 سنة من عمره؛ خمس سنوات من 1954 حتى 1960، ثم سبعة أخرى من 1965 حتى 1972، تنقل فيها بين السجن الحربي، سجن مصر، سجن المنيا، سجن أسيوط، ثم بني سويف ثم المنصورة والواحات، قال: " السجون المدنية لم يكن بها تعذيب إهانات فحسب، تكدير لكنها كانت فترة ثرية جدا فيها ناس أفاضل، أدباء وعلماء، استفدت فائدة كبيرة كان مسموح أحيانا بالكتب والكراسات فينا من حفظ القرآن ومن جوّده ومن أكمل دراسته، قابلت الشيخ يوسف القرضاوي ومعه الشيخ محمد الغزالي والشيخ البهي الخولي في السجن الحربي.

مثل مطر مفاجئ أربك المرور داهمته نوّة بكاء مباغتة، كل تفاصيل السجون والعذاب والخسائر مرّ عليها باسما فما الذي تذكره فجأة ليهطل بكل هذا التفجع؟ حين صدر الحكم عليه، عام 1955، بالسجن خمس سنوات أرسل إلى صديق رسالة: "قل لأمي تطمئن لأن حالة المحكوم عليه بالسجن أفضل من المعتقل"، لكنها حين بلغها النبأ صرخت: "إبني!" واندفع الدم من أنفها وماتت على الفور في 30 سبتمبر 1955 ولم تكن قد بلغت الخمسين، حملها أبوه إلى القبر ولم يمكث بعدها سوى شهر واحد فلحقها في 30 أكتوبر.  ذكّرته بالآية 70 من سورة الأنفال التي واساني بها عند لقائي الأول به: " إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أُخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم" صدق الله العظيم.

***
في فجر الجمعة 20 ذو الحجة 1423، الموافق 21 فبراير 2003، كان موعده ليرجع إلى ربه راضيا مرضيا وليهدا أخيرا في صحبة أبويه وينتهي التفجع ولا يبقى على الأرض سوى غرس نضير للكُــتُـبي المجاهد "وهبة حسـن وهبة".