بأنغام "مالك جندلي"
وشعارات "إبراهيم قاشوش"
سوريا بدها: حرية
بقلم سهام ذهني
في ليلة من ليالي المليونيات الثورية بميدان التحرير بالقاهرة، وعلى الرغم من هموم الثوار في مصر، إلا أنه بمجرد أن أمسك أحد الشباب السوريين على المنصة بالميكروفون في يد، حاملا علم سوريا في اليد الأخرى، وهو يهتف: "يالله إرحل يابشار"، حتى ردد من خلفه عشرات الآلاف من المصريين الهتاف ضد الرئيس السوري "بشار الأسد"، في حالة مبهرة ناطقة على الأرض بوحدة الأمة.
كاد الشاب السوري أن يبكي، وأخذ يردد أنه لا يجد الكلمات المناسبة للتعبير عن حجم شحنة الأمل التي بثتها فيه حناجر المصريين، ثم بنشوة أخذ يكمل شعارات الشهيد السوري "إبراهيم قاشوش" صاحب شعار "يالله إرحل يابشار"، وميدان التحرير يرددها من خلفه، ثم يستلهمها بعد فترة ويبني عليها كلمات مشابهة تعبر عن الحالة المصرية.
ربما يعلم بعض المصريين الذين رددوا الهتاف من خلف الشاب السوري حكاية صاحب الشعار وربما لا يعلموا، إنما ما ينطق به الوجدان هو أن سوريا حين تئن فإن مصر تقول:آه، وأن الشعب المصري حين يتكلم فإن صدى الصوت يتردد عبر مختلف الدول العربية.
وآه يا سوريا الحبيبة، لقد تم قتل الشاعر والمطرب الشعبي السوري "إبراهيم قاشوش" بطريقة وحشية عقب مليونية "إرحل" الكبرى التي كان صوته يجلجل فيها بساحة "العاصي" في قلب مدينة "حماه" يوم 1 يوليو من العام الماضي، فإذا بالانتقام يتم عبر قيام مجهولين باختطافه أثناء عودته إلى بيته حيث قاموا بذبحه وإخراج حنجرته وتركه على ضفاف نهر العاصي ينزف حتى الوفاة. أسكتوا حنجرته وأنفاسه، منعوا دقات قلبه ونظراته وخطواته ولفتاته، لكنهم لم ينجحوا في منع كلماته وشعاراته من أن يستمر الهتاف بها ضد بشار الأسد وأعوانه.
إن أناشيد "القاشوش" مازالت تجلجل عبر ساحات الثورة في مختلف المدن السورية، كلماته تزلزل عرش الحاكم، وتنتقل من سوريا إلى ميدان التحرير في مصر، وأمام سفارات سوريا في العديد من الدول، ليس هذا فقط بل لقد قام الموسيقار السوري الكبير المقيم بأمريكا "مالك جندلي" بتحويل النغمة المميزة لهتافه الشهير "يالله إرحل يا بشار" قام باستلهامها وجعلها النغمة الرئيسية لسيمفونية رائعة هي سيمفونية الحرية التي أهداها إلى إبراهيم قاشوش، وقام بعزفها في العديد من المسارح العالمية، وضمها مع سيمفونيات أخرى عن الثورة السورية في ألبومه الجديد الذي يتم توزيعه عبر العالم، والذي يحمل إسم مدينته "حمص" أو "إيميسا" حسب إسمها القديم.
المقاومة والاستبداد
إن المستبدين عبر التاريخ لا يتعلمون الدرس، ولا يستوعبون أنهم قد يتمكنوا من إزهاق الأرواح لكنهم لا يملكوا قتل الفكرة. إن هتافات المقاومة في سوريا واصل حملها العديد من البلابل في مختلف المدن السورية ولم يبالوا بدفع الثمن، فهذا شهيد "بابا عمرو" صاحب الصوت الجبار "محمد الشيخ"، وهذا "عبد الباسط ساروت" في "حمص" يتحمل المطاردة، وأصوات ثورية عديدة في مختلف مناطق سوريا يواصلون المسيرة ومن خلفهم جموع من أفراد الشعب المجهولين الذين يتعرضوا للقتل والإصابة والإعتقال دون أن تتوقف رحلة السعي نحو الحرية.
يظن المستبدون أن المقاومة يمكن أن تموت عبر قيام أعوانهم بقتل رموزها، في حين أن هذا القتل عادة ما يؤدي إلى زيادة أفكار المقاومة إنتشارا وزيادة المقاومة اشتعالا.
وإذا كانت الوحشية في طريقة اغتيال بلبل الثورة في مدينة "حماة" إبراهيم قاشوش ظن القائمين بها وقتها ان في نزع حنجرته رسالة لمن هتفوا من خلفه بأن يصمتوا فإن النتيجة جاءت عكسية تماما، ولم يتوقف الهتاف ضد الإستبداد، ولم تزداد الهتافات التي حملها صاحب الحنجرة التي انتزعوها إنتشارا فقط، إنما إزدادت طريقته نفسها في الهتاف تواجدا، تلك الطريقة التي نجح فيها القاشوش في الخروج بالهتافات الثورية من الحالة التقليدية الحماسية، إلى حالة مبتكرة على وقع التصفيق المنتظم من الجماهير التي تشاركه وتتفاعل مع كلماته الجذابة، فكلماته تتجه أحيانا إلى السخرية من الحاكم مثل قوله: "يا بشار ويا مندس تضرب إنت وحزب البعث، روح صلح حرف الإس، ويا الله إرحل يا بشار"، فتتوهج الجموع بالضحك من الحاكم الذي يأمرونهم بالسجود لصورته.
كما لا يفوته الإشارة إلى الإستهانة بأجهزة القمع، فينشد ضاحكا: " حاسس إني مو مطول، وعلى أمن الدولة محول، ويالله إرحل يا بشار".
كما يستطيع عبر حالة أخرى أن يشعل حماس الجماهير بإبداء الإعجاب بالشعب مثل قوله: "نحنا الكل بنفدي الكل، ولحظة واحدة ما بنمِل، والحُر ما يرضى بالذل ، ويا الله ارحل يا بشار".
ثم يصيح مناديا على الأمل:"الحرية صارت على الباب"، ويكمل:" ويا الله إرحل يابشار".
كما أنه لم يكتفِ بأن تردد الجماهير الهتاف من خلفه، إنما حقق حالة أقرب من الديالوج مع الجماهير، فهو يحسم مطلب الجماهير وهو"بدنا نشيلو لبشار وبهمتنا القوية"، ثم يقول بصيغة التساؤل "سوريا بدها؟" فترد عليه الجماهير: "حرية".
ويظل يكرر: "سوريا بدها"، والجماهير ترد:"حرية". فيشتعل الحماس وترج كلمة "الحرية" الأرض، وتجلجل كأنها تحلق في السماء بأجمل أداء، ليس فقط أداء القاشوش بحضوره الطاغي وسرعة بديهته في تأليف الشعارات والإبتكار في الكلمات بما يناسب المستجدات على أرض الواقع، وإنما أيضا بأروع أداء في الدنيا، أداء الحشود الهادرة المصممة على العزة والحرية والكرامة.
وحين يختتم القاشوش هذه الحالة الثورية الفنية الإنسانية منشدا: "يا بشار ومالك منا، خذ ماهر وارحل عنا، وهاي شرعيتك سقطت عنّا"، ثم كالمعتاد يردد تلك الجملة أو الماركة المسجلة باسمه "ويالله إرحل يابشار"، بالتنغيم الخاص الذي اعتاد السوريون على أن يهتفوا عبره بهذه الجملة الأمنية، فإن الطاقة التي تبعثها هذه الحالة الفنية الثورية تجدد حماس المشتاقين للحرية، وتبدد أوهام الظانين بالأحرار ظن السوء.
"جندلي" والمشتاقين للحرية
وفي درب المشتاقين للحرية إنطلقت موسيقى الفنان السوري "مالك جندلي" حاملة حنجرة القاشوش المنزوعة لتصدح بصورة فنية ثورية أخرى عبر العالم، حيث قام بتحويل كلماته إلى موسيقى يسمعها الناس في كل الدنيا، حيث استلهم نغمة الهتاف الشهير "يالله إرحل يا بشار" وصاغها في لحن حمل عنوان "الحرية" وأضاف إلى العنوان أن هذا اللحن هو "سيمفونية القاشوش"، حيث صاغ من ريتم جملته الشهيرة "يالله إرحل يابشار" النغمة الأساسية في سيمفونيته "الحرية" لتستمع الدنيا لنغمة الشهيد "القاشوش" عبر مختلف الآلات الموسيقية مفتتحا السيمفونية بهذه النغمة مدوية عبر آلات النفخ وكأنها نفير في صحبة طبول الحرب تدق مدوية، ومعها تتدفق أنامل "جندلي" فوق مفاتيح البيانو في تتابع سريع كأنها أقدام الجموع المهرولة شوقا للحرية على الرغم من نيران النظام السوري. كما نسمع إستلهاما آخرا عبر صياغة موسيقية عاطفية للمقطع الشهير الذي كان يصيح فيه القاشوش بصيغة السؤال قائلا "سوريا بدها" ويرد عليه الملايين: "حرية".
ما فعله مالك جندلي في هذه السيمفونية الثورية هو شكل من أشكال المشاركة في الثورة أينما كان المحب للوطن. ولقد شارك "مالك جندلي" في عدة أنشطة في الخارج تأييدا للثورة السورية فإذا بوالده "الدكتور مأمون جندلي" ووالدته "لينا الدروبي" المقيمان في مدينة"حمص" بسوريا يدفعان الثمن، حيث تم إقتحام منزلهما والتعدي عليهما بالضرب وإصابتهما إصابات بالغة وتفتيش الشقة وبعثرة محتوياتها. إنها ضريبة الحرية التي يدفعها الساعين إلى الشمس والضياء، حاملين العزيمة والأمل. ولأهمية مواصلة الحلم والأمل فلا بد أن أشير إلى السيمفونية التي تحمل عنوان "الأمل" في هذا الألبوم لمالك جندلي، بما توحي به بداياتها من دموع تبثها أوتار الكمان، ثم عنفوان أنامل "مالك جندلي" على مفاتيح البيانو كأنها تجفف الدمع وتتجاوز القهر وتبث الأمل.
أمل منتزع من أنياب الألم ومن هجمات اليأس. أمل ينبض بالإصرار، ويكبر بالإيمان، ويترعرع بالمثابرة. أمل يُخرج لسانه للإحباط ويسدد لكماته لليأس ويُشيع سلاما وسكينة وثقة وطمأنينة.
أمل يجعلني أحمل الأمل في أن يمن الله على الشعب السوري الباسل بالتخلص من النظام المستبد، بعدها نستمع بإذن الله من مالك جندلي لعمل ملحمي يحمل عنوان "سيمفونية الإنتصار".
"يالله إرحل يا بشار".