السبت، 24 نوفمبر 2012

فن كتابة:

الفئران تلعق من دمائنا حساءها

هذا العنوان مأخوذ من صورة شعرية دقيقة وموجعة جاءت في قصيدة أمل دنقل "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة"، التي كتبها في وقت هزيمة يونيو 1967، حين قال: "لفئران تلعق من دمي حساءها ولا أردها"!

هذه الصورة تقتحمني هذه الأيام، ولا أملك الفرار منها فهي أمامنا جميعا ولم يعد هناك من يحتاج إلى شرح أو كلام، اللهم إلا هؤلاء المغرمون ببث الرسائل السلبية إلى وجدان الأمة لسلبها الوعي بحقها في صد الفئران اللاعقة، بتلذذ، دماءها.

التاريخ يعيد نفسه إلى درجة الملل؛ لا أحد يتعظ،، لا أحد يتعلم، لا أحد يستفيد؛ في ظل كل هذا التوتر والعصبية والتربص الذي تشيعه مذابح واعتداءات وتحرشات الكيان الصهيوني، المدعومة بأمريكا، لضرب هذا وذاك لتغيير خارطة الشرق الأوسط، والوطن العربي، والأمة الإسلامية، وفقا للأهواء الجشعة والشعارات السوقية المبتذلة، تمهيدا لتأكيد هيمنة منطق القوّة الباغية على الكرة الأرضية والتحكم في مقدرات سكانها، وإخضاع الكافة لميزانها المطفف، ومكاييلها السارقة؛ استغرقت في قراءة عدد من مجلة "الهلال"، صدر بتاريخ أول يوليو عام 1940، كان عددا خاصا عن "الحرب"، بمناسبة انضمام إيطاليا موسوليني إلى جانب ألمانيا هتلر، الذي أشعل الحرب العالمية الثانية سبتمبر 1939 واستطاع أن يبقر بطن أوروبا ويتوغل في أحشائها بدعوى إفساح المجال الحيوي للشعب الألماني للتغلب على الوضع الجغرافي "المطوق" لألمانيا، وبناء عليه إلتهم هتلر، خلال فترة وجيزة، النمسا وتشيكوسلوفاكيا وبولونيا والدنمارك والنرويج وبلجيكا وهولندا وفرنسا حتى تهددت إنجلترا، التي كانت الإمبراطورية العظمى المحتلة لبلاد عديدة لا تغرب عنها الشمس. اختارت إنجلترا في لحظة الخطر ونستون تشرشل رئيسا للوزراء في مايو  1940 ليقود جبهة الحلفاء ضد ما تم تسميته دول المحور بقيادة ألمانيا هتلر، وكان تشرشل قد وقف يقول في مجلس العموم البريطاني: ".. فإني لست أذكر يوما من أيام الحرب الماضية كنا فيه أدنى إلى الخطر وأقرب إلى الزوال مما نحن فيه اليوم".

كانت إنجلترا في ذلك الوقت تحتل "مصر"، ويقيم بالقاهرة مندوب احتلالها المعتمد البريطاني، يحكم بلادنا علانية، ويؤكد بوضوح لكل الأطراف أنه السلطة الفعلية العليا بها. ورغم أن الشعور الوطني العام، في ذلك التاريخ 1940، كان قد بلغ ذراه في كراهية هذا المحتل الغاصب المذل لكرامتنا، ويرى أننا لا ناقة لنا ولا جمل في صراع هذه الحرب بين معسكرين مجرمين يتنازعان الأسلاب والسرقات، وقد ترسخ في أعماق أهل مصر، عبر السنوات المهينة المريرة، معرفة الكذبات المفضوحة للافتات "الحرية" و"الديمقراطية" و"الحضارة" التي كانت أجهزة الدعاية البريطانية تصرخ بها، مع حلفائها وأذنابها، مؤكدة ادعاءها أنها تدخل الحرب لتحمي "الإنسانية" من بطش النازية ووحشية الفاشستية، إلا أن الأمر لم يخل، طبعا، من أصوات عربية ومصرية وقفت تساند أكاذيب "الإمبراطورية البريطانية"، ونشرت هلال 1/7/1940 صوتا من تلك الأصوات النشاز، التي لا يخلو منها زمن من الأزمان، بقلم سامي الجريديني، استغرق 5 صفحات يهتف بإنسانية المحتل القاتل لبلاده.

انتخبت "الهلال" مجموعة من أصحاب الأقلام وحددت الكتابة عن "الحرب"، كان أعمقها ما كتبه الدكتور أمير بقطر تحت عنوان: "التطورات الاجتماعية المنتظرة بعد الحرب الحاضرة".

لم يظهر الدكتور أمير بقطر انحيازه لأي كتلة أو معسكر، بل إنه بدا مزدريا لكل مظاهر الحماس المواكب لملعب الحرب ومقولات الزعماء في عصره وما قبل عصره.  و لم يخف شبح ابتسامة تهكم تعتريه بعد كل جملة طنانة يوردها مقتبسة من غيلان الحرب على كل جانب؛ يورد من أقوال اللورد كتشنر في الحرب العالمية الأولى – (1914 إلى 1918) قوله: "الاعتدال في الحرب غباوة، فإذا ما خضنا غمارها وجب أن نوطد العزيمة على ربحها بأي ثمن كان، فلا الحقوق الشخصية، ولا شرف الفروسية، ولا وخز الضمير، يلزم أن يكون حائلا بيننا وبين النصر"! ويبين د. بقطر أن الناس في فترة السلام تنسى الصيحات الخشنة: "تلك العاطفة الحيوانية الوحشية التي لا يزال الإنسان يكنها نحو أخيه الإنسان رغم العلم والنور والمدنية.. يقولون أن الكذب مباح في ثلاثة: الحرب والصيد والانتخابات، بيد أن بعض الشعوب غالت أخيرا في احترام القانون الدولي ومراعاة الآداب الاجتماعية، فكادت تروح ضحية غيرها من الشعوب التي لا ترعى للصدق حرمة، ولا للأمانة ذمة، والتي جاهرت في مناسبات شتى أن الآداب الاجتماعية لا يمكن تطبيقها على الشؤون الخارجية..!" ثم يواصل: ".. أعتقد أن العالم كله سيجعل البنادق والقنابل عمدته........ و ستضطر الحكومات، حتى أشدها ديمقراطية، بالأخذ بشيء من المبادئ المشتركة بين الفاشية والنازية والشيوعية المعروفة اليوم ... دل تاريخ الحروب على أنه سرعان ما تضع الحرب أوزارها حتى تكتسح بلدانها موجة طاغية من الانحلال الأدبي والتفكك الخلقي ... وليس هذا بغريب من الناحية العلمية، إذ أن الطبائع الإنسانية.. الوحشية.. تأخذ في الظهور في أبشع صورها وأخشن ملامسها، كلما طعنت الأزمات طمأنينة الإنسان في الصميم، وهددت كيانه... لا بد أن يختل في ختامها الميزان.... فتصبح الملايين من النساء بغير رجال، ويصبح الملايين من الأطفال بغير آباء، وتباع الكرامة وعزة النفس بأبخس الأثمان... ستظل هذه الفوضى أعواما لا يعلم إلا علام الغيوب عددها، وتظل العناصر الاجتماعية تتفاعل كمواد الكيمياء حتى يصفو المزيج".
...
ما أشبه اليوم بالبارحة، إلا أن تحليل د. أمير بقطر لم يدرك ما تفتقت عنه العقلية الإجرامية الباغية لحل مشكلة "النساء بلا رجال" و"الأطفال بلا آباء"، وذلك بقتل النساء والأطفال في عمليات "الإبادة" المنهجية المسجلة باسم الكيان الصهيوني والإدارة الأمريكية التي أكدها أوباما، في خطابه بجامعة القاهرة 2009، بقوله: "روابطنا بإسرائيل غير قابة للكسر"!  

الجمعة، 23 نوفمبر 2012


"الفنطاس" رواية من فن المزاح

رواية "الفنطاس" تأليف الدكتور عمرو عبد السميع، صدرت عن الدار المصرية اللبنانية عام 2003، على غلافها تنويه "من الأدب الساخر" وتقع في 238، وأفضل تعريفها بأنها من "فن المزاح"؛ هذا الفن الذي أجده اللغة المناسبة للتعبير عن الكثير من مآسينا القومية والوطنية والإنسانية.

شخصية الرواية المحورية مهزومة الروح بسبب نشأة مجروحة بالعار والفضيحة ولم تجد لانكسارها سوى قناع الجهامة لتتوارى وراءها وتشق طريقها في دروب الكذب والادعاء والنفاق والتزييف للوصول إلى مواقع السيطرة والتحكم؛ هذه الشخصية اسمها في الرواية "سمير متولي" لكننا يمكن أن نقابلها كل يوم في الحياة بأسماء أخرى قد تختلف في تفاصيلها لكنها تتفق بنتائجها.

"الجهامة" قناع للتفاهة؛ فكما يقول المؤلف: "....الجهامة وثقل الظل صارا بمرور الوقت ومن خلال محن الوطن وانكساراته صنوان لمعنى الجديّة والوطنية حيث، وبحكم التعريف، لاتوجد وطنية مرحة..."! ويصف عمرو عبد السميع إحدى مَلكات بطله "سمير متولي" شارحا: "...المَلَكَة التي رأى سمير ضرورة اتشاحه بها في عمله السياسي هي أن يكون قناصا للفرص، نهّازا لكل نصف مناسبة من أجل التأثير على الناس، ومن ثمّ لفت نظر القيادات، وبالتالي التصعيد السياسي الذي يدخل في روع الناس أن هناك قوى خفية وراءه فينخرطون في سلاسل لانهائية من التأويلات حول قوّته ثم ينصاعون أمام المَرَدَة، الذين خلقوهم، في ذلة وانسحاق عظيمين...".

من الصعب تلخيص رواية "الفنطاس" لأنها ليست حكاية، إنها رصد وتحليل لمن تحايل وتلون واستفاد من كل العصور وبلغ ذروة استفادته حين تمكّن من عبور المحلية ليسمع من يناديه بلقب "دولي" وكان ذلك، وفقا لتأكيد المؤلف: "بعد أن أصبحت الجاسوسية والشذوذ حقّين أصيلين من حقوق الإنسان"!


الأحد، 18 نوفمبر 2012

فن كتابة:

بل الرقص "عيب" و"حرام"

 "مونودراما" بعنوان "الرقص حرام" مضمونها، كما يقول الخبر، عن راقصة شهيرة "تعقد مقارنة بين طبيعة عملها الذي يُحرّمه الناس وما يرتكبه آخرون من جرائم لا يوصمون معها بالعار على الرغم من أنهم يتسببون في إيذاء الآخرين بأفعالهم"، وهكذا تبدأ المغالطات التي لابد من تصحيحها؛ فالحلال والحرام ليسا بيد الناس، وغير صحيح أن الجرائم التي تؤذي الآخرين لا توصم بالعار.

عندما تصرّح راقصة بأنها تصوم وتصلي وترقص لأن الرقص "لا عيب ولا حرام"،  نفهم أن المسكينة لديها الإيمان لكنها لم تتعلّم دينها على وجهه الصحيح، هي محتاجة أن تفهم أن عليها الاختيار بين الاستقامة على دين الله وبين مواصلة الانكفاء وراء منطق الشيطان الذي يغرر بها حين يسوّغ لها الفتوى الضالة: "الرقص لا عيب ولا حرام"، ومع ذلك فأنا على يقين أنها لو ظلت على إيمانها وصلاتها وصيامها وإحسانها إلى الفقراء فلا بد أن يأتي اليوم الذي يشدها فيه حبل الإنقاذ لتتوب وتؤوب وتنال نصيبها من خزائن رحمة ربنا العزيز الوهاب.

 الذي يتدلى في بئر أو يتسلق الوعر في طرقات الجبال يربط خصره بحبل متين طرفه في يد مشفق أمين يشده، حين الخطر، فلا يغرق المتدلي في البئر، ولا يتوه الشاطح في الجبال أو ينزلق متهشما، هكذا أنظر إلى من يواظب على صلاته وعبادته مع ارتكابه حماقات وأخطاء القول والفعل، فالصلاة والعبادة تكون هي حبل الانقاذ للمؤمن السادر في فتنة الدنيا وزلات أهواء النفس ومكابرة الجدل والمِراء.

يقف المؤمن يردد قنوت وتر العشاء مجددا العهد أمام الله كل ليلة: "...نشكرك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجُرك"، مما يدفعه إلى مراجعة نفسه، وحين يجد أنه لا يخلع ولا يترك صُحْبة الفُجّار يؤلمه ضميره ويصاحبه وخز النفس اللوامة، ثقيلا موجعا، فلا يعود يجد في صُحبة الفجار أو أفعالهم ماكان يُمتعه أو يُسلّيه أو يُغريه، بعد قليل يجده الفُجّار ثقيل الظل ويجدهم غُلظاء؛ فلا ضحكهم يُضحكه ولا مداعباتهم تُلاطفه ولا إنفلاتهم إنطلاقه ولا تحللهم حُريّته؛ تشده صلاتُه إلى الاستقامه لابد، إن عاجلا وإن آجلا، فالله حليم صبور ينتظر الاستغفار ليغفر، والتوبة ليتوب، يطمئن عباده بأنه كتب على نفسه الرحمة ويقول في سورة الزمر آية 53: "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم"، صدق الله العظيم.

 بعض العاملين بالمهن التي تُخالف الكثير من حدود الله، مثل التمثيل والرقص وخلافه، يتسابقون إلى أداء العُمرة وزيارة قبر الرسول الكريم، ونلمح نبرات التهكم على ألسنة المُعلّقين الزاعمين أنها رحلات مظهرية للشهرة والمباهاة...إلخ، وأقول: فليكن! إن المباهاة بالتقوى أفضل كثيرا من الجهر بالمعاصي، إن جيلي لايزال يذكر مظهريات نقيضة كان الحرص عليها من مفاخر العصر؛ مثل ديكور "البار"في المنازل والبيوت "المسلمة"، وتقديم المشروبات المحرّمة كأمر عادي مُسلّم به، ورحلات الشتاء والصيف إلى أوروبا وأمريكا ومحاكاة أهلها في الآثام، والتعجب لأن هناك من لايزال يصوم ويصلي، وأتذكر فورا الآية رقم 100 من سورة الاسراء: "قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربّي إذا لأمسكتم خشية الانفاق وكان الإنسان قتورا".

السبت، 10 نوفمبر 2012


مذكرات طفلة مصرية من 1947  (1)

أكتوبر 1947: اليوم افتتاح الدراسة وبدء عام جديد. احتفلت منذ شهرين بعيد ميلادي العاشر. لقد أصبحت كبيرة ويجب أن أتحمل مسؤولية هذه السنة الدراسية الصعبة؛ سنة ثالثة ابتدائي،  سندرس اللغة الإنجليزية لأول مرة، وسنأخذ دروسا صعبة في الحساب لكي نستعد العام القادم لشهادة الابتدائية، وسيسمحون لنا باستخدام القلم الأبنوس. هذا القلم يستخدمه إخوتي الذين بالثانوي، وهو يجعل الخط جميلا ولا تتسخ الأيدي من الحبر، كما هو الحال مع هذه الريشة، ويمكن أن نكتب به العربي والإنجليزي من دون أن نغير السن. هذا القلم الجديد كله مميزات، لكن مدرس الخط العربي لن يسمح لنا باستعماله. إنه يقول: لكي يتحسن خطك وتتعلم فعلا كيف تكتب الحروف لا بد من استعمال الريشة. وهكذا لا بد أن أحتفظ بريشة سنة ثانية وأشتري سنا عربية لحصة الخط العربي وسنا إنجليزية لحصة الخط الإنجليزي، وأحمل معي زجاجة حبر أسود. الحبر الأزرق ممنوع. مازلت أسعد حظا ممن كانوا يستخدمون شيئا اسمه القلم البسط.

نوفمبر 1947: ضاع مني اليوم قلمي الأبنوس الغالي. بكيت لماما لكي تشتري لي غيره. رفضت وقالت لن أشتري لك كل يوم قلما بثلاثين قرشا ثمن ثلاثة أرطال من اللحم. نعم كان يجب أن أحافظ على كنزي الغالي، فثلاثين قرشا ليست مبلغا سهلا. لا بد أن أحرم نفسي من رحلة حديقة الحيوان وأقتصد الخمسة قروش، وكذلك رحلة الأهرامات وأقتصد العشرة قروش، حتى أستطيع أن أعوض الثمن الباهظ  لقلمي العزيز. الحمد لله انه أرخص الأنواع، فقلم إخوتي بعشر رحلات إلى الهرم، أي جنيها كاملا.

ديسمبر 1947: البرد شديد اليوم. تمنيت أن تنتهي الحصة الثالثة سريعا حتى تأتي الفسحة، وتمنيت لو كنت مازلت بروضة الأطفال؛ في روضة الأطفال كانوا يقدمون لنا  الكاكاو باللبن ومعه بسكوت جميل بالسمسم. الحقيقة أن سنوات الروضة لا تعوض. كل شيء في الروضة كان جميلا، كانوا يقدمون لنا في الفسحة الصغيرة الكاكاو باللبن والبسكوت والموز، وفي فسحة الغداء كنا نأكل الأرز باللحم المفروم. للآن لم أذق مثل هذا الأرز اللذيذ. ورغم أنني كنت لا أحب الكوسة إلا أنهم كانوا يصنعونها بطريقة مدهشة تنسيني تماما أنها كوسة. وكانت الفاكهة برتقالا أو يوسفيا أو موزا أو تينا، كنت أسمع أنهم فيما مضى كانوا يقدمون التفاح. ذات مرة ظلوا أسبوعا يقدمون لنا فاكهة التين فقط، ولأني أحب التين لم ألحظ ذلك حتى نبهتني الطفلة التي بجواري قائلة: إيه ده؟ كل يوم تنتين تنتين تنتين، فتصورت أنها تقصد صوت الجرس كل يوم: تن تن تن، تن تن تن، فقلت لها: طبعا لازم الجرس يدق كل يوم وكل حصة وكل فسحة!

فاصل وأواصل المرة القادمة إن شاء الله.
لساني حصاني:

يوم الجمعة حلو ونادي (2)

 رغم أن روضة الأطفال التي قضيت بها دراستي للروضة لمدة ثلاث سنوات، كانت مدرسة حلوة إلا أنني كنت دائما أتمنى لو كنت بروضة أطفال كوبري القبة أو قصر الدوبارة، السبب أن روضة قصر الدوبارة وكوبري القبة كانتا أشهر روضتين للأطفال، لأنهما كانتا من نجوم برامج حديث الأطفال بالإذاعة،  وما زلت أذكر أغنية خفيفة الدم لأطفال روضة كوبري القبة: "يوم الجمعة يا يوم الجمعة/ حلو ونادي وشمسك طالعة/ بنبطل ما نروحش الروضة/ وبنلبس فساتينا المودا/ وتفوت ست ايام نستنى/ يوم الجمعة يا يوم الجمعة".

كنت أحلم دائما في حصة الموسيقى ونحن نغني: "لا تخافي يا حمامة/ والقطي الحبّ الكثير/ ثم عودي بالسلامة/ واشكري الله القدير"، أننا في برنامج حديث الأطفال وبابا شارو يقول:  "سمعتم دلوقت غناء اخوتكم أطفال روضة العباسية". كيف لم يعرف بابا شارو أن روضة العباسية مدرسة مهمة وأن التي تعلمنا فيها أبلة إحسان أبو زوبع مؤلفة كتاب "قراءة الأطفال"، الذي يتعلم منه كل تلاميذ الروضة  في مصر كلّها من سنة أولى وعمرهم خمس سنوات حتى سنة التخرج حين يتركوا الروضة وعمرهم سبع سنوات لينتقلوا إلى المدرسة الابتدائية؟

لا بد أن نسمع في برنامج حديث الأطفال بالإذاعة أغنيات من كل المدارس وليس فقط من مدرسة كوبري القبة ومدرسة قصر الدوبارة، لا بد أن أكتب لبابا شارو في هذا الموضوع.

يناير 1948: عرفت اليوم أن الكاكاو باللبن والبسكوت أبو سمسم والأرز باللحم المفروم ليست أهم شيء في الوجود. سمعت إخوتي الكبار بالجامعة يتحدثون ويقولون إن مجانية التعليم في مدارسنا الحكومية شيء ضروري وعاجل. لا بد أن يذهب كل طفل إلى المدرسة. لا بد أن يقدم العلم للجميع. طبعا العلم لجميع الأطفال أهم من الكاكاو باللبن لبعض الأطفال.  وسمعت إخوتي يرددون أبياتا من قصيدة ألقاها متظاهر اسمه محرم وهبي، في مظاهرة من المظاهرات التي تجوب الشوارع كل يوم، أعجبتني فحفظتها: "يا أيها الوطن العزيز أما كفى/ عظة تعاود أن تنام فتؤسرا/ كم من حوادث نبهتك خطوبها/ فغفلت حتى الغرب باعك واشترى/ أسفي على الشرق العزيز وأهله/ يأتون ما حط البلاد وأخرا/ لا يعرفون الحكم غير غنيمة/ وسعت محاسيب الرجال كما ترى/ يتخاصمون إذا المآرب عطلت/ فإذا انقضين فلا خصام ولا مرا/ كل يريد لدى البلاد زعامة/ يسمو برايتها ويعلو المنبرا"!

 ونواصل المرّة القادمة إن شاء الله.

لساني حصاني:

من علّم الخروف أن ينطق الحروف؟  (3)

فبراير 1948: طرت اليوم فرحا، جاءت إلى مدرستنا تلميذة جديدة محوّلة من مدرسة أهلية، جاءت إلى فصلنا وأجلسوها إلى جواري واكتشفت المفاجأة: هذه التلميذة هي زهرة عباس التي تغني في برنامج بابا شارو مع فرقة عش العصافير. فرحت جدا فأنا أولا أحب صوتها، ثم أخيرا أصبح هناك من يمثل مدرستنا في برنامج حديث الأطفال. صحيح أن بابا شارو لن يقول زهرة عباس من مدرسة العباسية الابتدائية، لكنها صارت من مدرستنا هي وأختها الصغيرة سوسن على كل حال. طلبت منها أن تضمني لأغني مع فرقتها ورحبت قائلة إن الفرقة محتاجة لأصوات أطفال كثيرة لأناشيد وطنية خاصة بفلسطين، وسوف تأخذني لأتعرف على اختها الكبرى بلقيس التي تعزف على البيانو وعلى بقية أطفال الفرقة. سأتعرف أيضا على الأستاذ أحمد خيرت، الذي يؤلف ويلحن جميع الأغنيات التي تقدمها فرقة "عش العصافير" وفرقة "بيت الفن".

الأستاذ أحمد خيرت هو المؤلف والملحن للفرقتين، إلا أن كل فرقة لها شخصيتها. زهرة هي نجمة "عش العصافير" ونجاة الصغيرة هي نجمة "بيت الفن"، ولو أن نجاة الصغيرة بدأت تغني أغنيات الكبار وسمعنا أنها ستصبح مغنية محترفة خارج برنامج الأطفال. واضح الآن وهي تغني عند بابا شارو "طوفوا ببيت الله يا معشر الحجاج" أنها تقلد أم كلثوم ولا تغني مثل الأطفال، وكذلك اندهشنا من غنائها كلاما مثل: "أنا عاوزة ألعب وأغني، مدام فؤادي متهني، غني يا بلبل فوق غصنك، وريني فنك من فني، وحياة عينيك تسأل عني"، لقد أحرجتنا هذه الأغنية تماما خاصة كلمة "وحياة عينيك". الطفلة الظريفة في بيت الفن هي سعاد حسني التي تغني "من علم الخروف، أن ينطق الحروف، فقال ماء ماء، وما درى الهجاء"، وتغني "أنا سعاد أخت القمر، بين العباد حسني اشتهر".

ونواصل المرّة القادمة إن شاء الله.

لساني حصاني:

حكاية جُحا والصّبيان  (4)

مارس 1948: أخذتني زهرة عباس إلى بيتها في شارع فاروق. ذهبت مع أختي فاطمة التي تستعد لشهادة الابتدائية، إنها تكبرني بقليل لكنها تتصرف معي كأنها أستاذة لمجرد أنها تدرس حساب المائة، وتشبك الحروف في الكلمات الإنجليزية التي ما زلنا نكتبها منفصلة. ماذا ستفعل معي العام القادم عندما تكون هي بالمدرسة الثانوية وأكون أنا مازلت بالمدرسة الابتدائية؟ الذي غاظني منها اليوم وجعلني أبكي بدموع حقيقية تصرفها في بيت زهرة. قالت زهرة للأستاذ أحمد خيرت إننا نريد أن نغني مع الفرقة. سأل الأستاذ أحمد خيرت أختي كم عمرك قالت: 12 سنة، وسألني فقلت: عشر سنين، فجلس على البيانو وقال: من التي تريد أن تغني؟ كان يجب على فاطمة أن تنسحب وتشير إليّ لأنها تعرف أنني أنا التي أعرف أغني، لكنها طبعا أستاذة في الابتدائية تدرس حساب المائة وتكتب الحروف الإنجليزية بالمشبك، تقدمت هي إلى الأستاذ أحمد خيرت بعد أن دفعتني بعيدا، وقالت له: أنا!  وكان ما توقعت فبمجرد أن سمع الأستاذ أحمد خيرت صوتها قال لها: بس! وقرر أن نغني مع المجموعة فقط : "فلسطين لبيك نحن الفدا، وهذي الجحافل شحب الردى"! ولم يحاول أن يعطيني الفرصة ويمتحن صوتي.

خسارة الأحلام التي حلمتها قبل أن أقابله في أن يلعلع صوتي من الراديو بعد أن ظللت أسبوعا أغني في الحمام وأتدرب على أغنيتي المفضلة: "قد قيل للصبيان/ جحا اشترى خروفا / فجمّعوا جُموعهم/ ووقّفوا صفوفا/ وكلما جر جحا خروفه تعجبوا/ وقال منهم قائل/ هذه أمور عَجب/ كيف تجر يا جحا/ كلبا وأنت طاهر؟/ فترك الحبل لهم/ وعاد وهو حائر"!


والسلام ختام!
فن كتابة:

الراقصة والإسلام "المُعتدل"!

سنوات طويلة مضت منذ مشاهدتي راقصات محترفات يرقصن في الأفراح؛ ربما كان ذلك منذ كنت طفلة وكانت الأفراح تقام في البيوت في الردهات الواسعة أو فوق أسطح المنازل التي لم تكن ترتفع أكثر من ثلاثة طوابق، ولا أزال أذكر لمحات من تلك الأفراح حضرتها عند بعض معارفنا وكانت الراقصة تعتلي منضدة وترقص وهي تغني "خاين ياغزالي خاين كَل عيشي وملحي وخلا بيا"، و تشعرني بالبؤس والجزع والرغبة في البكاء شفقة عليها وهي تُمتهن بوضع النقود ملتصقة بجبينها أو صدرها وأتمنى لو توقفت عن رقصها وغنائها أو قرر أهلي ترك المكان، منذ ذلك الحين لا أتذكر أنني حضرت حفلا به راقصة حتى جاملت، منذ سنوات، صديقة لي بحضور حفل زفاف نجلها في واحد من فنادق القاهرة الكبرى ظهرت به الراقصة فيفي عبده مختلفة تماما عن تلك الراقصة المنسحقة صاحبة الغزال الخاين؛ استولت الراقصة على الساحة وأصبحت المستضيفة للعروس والعريس وأم العريس ووالده وأم العروس ووالدها، تأمر فتطاع هذا يغني وهذا يتكلم وهذا من هنا يسير وهذا يقف وذاك لا يتحرك، كل شئ من حقها، لا تترك الساحة إلا لتأتي بثوب جديد ورقصة جديدة كان منها "رقصة العوالم"  تقدم فيها لقطات من حياة "عالمة" أسطى معها صبيها المخنث يقدم لها الشيشة لتدخن تمهيدا للدخول في طقوس البخور لحماية "العالمة" من الحسد، وكان أن وضع الصبي المبخرة على الأرض لتمر عليها الراقصة العارية وهي تمضغ في تهتك كلمات التسابيح الطاهرة: "الأولة بسم الله والثانية بسم الله...... حتى السابعة بسم الله، رقيتك رقوة محمد بن عبد الله،  وحصوة في عين اللي شافك وما صلاش ع النبي!".

 نعم لهذا الحد كانت الاستهانة بذكر الله والنبي الكريم قد بلغت مبلغها أمام الحاضرين بين متأفف في صمت مستكين للورطة متحرج من الانسحاب، ومن لبسته مقولة "دعنا من التشدد تشجيعا للإسلام المعتدل" فتصور أن تلك الصيغ المقدسة صارت "فولكلورا"  له حصانة "حرية الإبداع"؛ بعد أن شاعت لوحات الرقص التي تصور الموالد والكل يهتز على إيقاع "الله الله الله"، والصياح بـ "الله أكبر..الله أكبر" في مجال العبث والهزار، والترخص الذي دفع بعادل إمام إلى إستباحة أجمل مقولة نطقها المسلمون الأول وهم تحت وطأة التعذيب: "أحدٌ أحد"، قالها سيدنا بلال الحبشي، مؤذن الرسول، وأرتجف لها وأنا أكتبها الآن، لكن السيد عادل إمام كان قد وجدها، في عديد من عروضه، محكا للمزاح والسخرية؛ يقولها فيضحك الناس من دون وخز لتأثم ومن دون ادراك لذنب استشعره الناس اليوم حيال فيلم اسمه "عبده موتة" لم تزد إهانته للمقدسات عن تراث من  الإهانات الجسيمة سكتت عنها طويلا أجهزة رقابية، أزهرية ومدنية، لم تكن تسكت عن إهانة من كانوا يستحقون الإهانة.




الأحد، 4 نوفمبر 2012

فن كتابة:

بالوظة ابرهيم نافع

أخيرا تم فتح باب التحقيق مع الأستاذ ابرهيم نافع في أمور ليس بينها موضوع "بالوظة"، الذي يهمني على مستويين عام وخاص، ولا يبدو، حتى الآن أنه قيد إهتمام نقيب الصحفيين الأستاذ ممدوح الولي.

 الحكاية بدأت  ونحن نستمع "بكل ثقة" إلى السيد النقيب الأستاذ إبراهيم نافع يزين لنا الإشتراك في مشروع "بالوظة" في اجتماع حضرتُه، منذ مايقرب من 17 سنة، في القاعة الكبرى بمبنى النقابة القديم، أبو جنينة، لنتملك مسكنا صيفيا يفوق في جماله وراحته ومكسبه مشروع الساحل الشمالي، الذي لم يكن لمعظمنا أي مشاركة فيه، وهل كان من الممكن ألا نثق؟ كلا ياسادة وألف كلا، فإذا لم نثق بنقيبنا وبنقابتنا فبمن نثق؟.

 أقر وأعترف أنني لست من هواة المشاريع من هذا النوع، وأشهد أنني أصلا لم أكن قد سمعت عن "بالوظة" هذه إلا حين ذكرها، ببشاشة وشغف، السيد النقيب إبرهيم نافع، وهو يصف لنا بالخرائط تفاصيل جمال الموقع وقربه من القاهرة و"التساهيل" الموعودة و المؤكدة لإتمام المشروع "اللُقطة" في غضون عام أو عامين، بس وعنها: وقعت في الفخ، وهل كان من الممكن ألا أقع؟ كيف؟ إنه نقيبنا يا سادة، الحارس على مصالحنا والأمين على أموالنا، فهل كان هناك ثمة مجال لسوء الظن والإسترابة في ضحك على الذقون؟ كان معنا كل الحق أن نصدّق وأن نثق فكان أن دبّرت بالطول وبالعرض المبلغ المطلوب، وهو 8 آلاف جنيه، وأن أدفعه، ألفا تنطح ألفا، للإشتراك المبدئي في تلك "البالوظة"!

بيْد أنه منذ ذلك الفخ الذي نصبته لنا بشاشة النقيب إبراهيم نافع ووعوده التي في الخيال وصدقناها، إذ لم نتوقع مطلقأ أن  تتشابه بأي حال من الأحوال مع وعود الشركات النصّابة التي نقرأ عنها في صفحات الحوادث، ومازال لسان حالنا يقول كما تقول الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان  في قصيدتها عن الحقوق الضائعة:"ما زلنا في غرف التخدير على سُرر التخدير ننام، والعام يمر وراء العام وراء العام وراء العام، والأرض تميد بنا والسقف يهيل ركاما فوق ركام، والكذب يُغطّينا من قمة هامتنا حتى الأقدام، يا قوم إلام وحتّام ياقوم إلام وحتااااااااااامممممممممم!".

سنوات شالتنا وسنوات حطتنا، ونقيب يأتي ونقيب يروح، ونحن نبل ونشربها أوراق إيصالاتنا التي تفيد بما دفعناه، و للعلم هناك من دفع أضعاف مادفعته، نفتح السيرة مع كل مرشح في إنتخابات النقابة: ياناس طيب هاتوا فلوسنا! والرد: أصلنا إشترينا بها أصولا! ولماذا  اشتريتم؟ كان لازم! وما العمل؟ سنحاول بيع هذه الأصول وهناك بالفعل مشتر! يعني  خير؟ طبعا خير خييييييييييييير! ونتلقي الوعود الخلابة حتى تنتهي الإنتخابات ثم نعود لننام على سرر التخدير؛ لا أحد يهتم  فلا حيلة ولا حياة لمن ننادي!

ثمانية آلاف جنيها لي في ذمة نقابتنا، أشهدكم عليها إخوتي في "المواطنة"، أرجو أن  يجيئ يوم تتسلمها ابنتي من بعدي، فلا يبدو أنني  سأنالها بنفسي مهما إمتد بي العمر، أما حضرة النقيب السابق إبراهيم نافع ومن بعده حضرات النقباء، على مدار السنوات المنصرمة والقادمة، فأهلا بهم في زمرة أكلة الحقوق، "إذا وقعت الواقعة"، قريبا إن شاء الله من غير مقاطعة!