السبت، 22 فبراير 2014

قصة قصيرة كتبتها 1992 منشورة في كتابي "تلابيب الكتابة" الذي صدر عن دار الهلال .1994
الفسخاني
تلفت حوله في قلق وتوتر لم تستطع أقراص المهدئات القوية المختلفة أن تخفف من حدّته حتى تلك الحبوب الممنوعة التي أرسلتها إليه صديقته الشقراء المتصابية من بيروت. إستدار لينظر من النافذة ليطمئن أن أوامره تم تنفيذها وتأكد أن خادمه العجوز المسكين قد غسل سيارته الفارهة. إنه حريص على نظافة كل شئ يراه أو يمسه؛ يتملكه وسواس النظافة بما يلفت نظر كل من يقابله ولو لبرهة، يده ممسكة دائما بالقطنة المبللة بالكولونيا ينظف بها زجاجة مكتبه وأدواته وقطع الزينة المرتبة فوقه بعناية ولا ينسى أن يمسح الهاتف: القاعدة والسماعة بدقة وتمهل وعلى وجهه هلع يشبه هلع زوجة ماكبث وهي تحاول غسل يديها من بقع دماء وهمية تتصورها ثابتة لا تزول منذ شاركت في إخفاء جريمة زوجها قاتل الملك الذي نزل ضيفا بمنزلهما. إنه الشعور بالخزي والضعة وبالإثم، الشعور بأن ثمّة قذارة ما داخلية في نفسه لا تزول ولا يجدي معها الغسيل والمسح والتنظيف الدؤوب بقطعة القطن المبللة بالكولونيا.
من تحت الصفر بدأ. ذاق الجوع والحرمان والعري وضغط الحاجة وفراغ اليد، كما ذاق الإهمال والإنكار، وتعذب كثيرا من النظرات الفوقية التي كانت تراه كمّا مهملا لا يستحق الإلتفات، الآن يبدو وكأن كل ماتمناه قد تحقق فلقد إتبع سياسة الدودة الزاحفة على بطنها يتماوج ظهرها في إنكماش وانبساط مع كل زحفة من زحفاتها البطيئة الحريصة؛ تخوض الوحل والنفايات، تلملم النجاسة برأسها ثم ترفعها ليجف بللها وتكون طبقة حماية ثم ترتاح قليلا لتواصل بعدها الزحف. في مراحل كانت لديه قفزات: فمن ركن صغير في العراء كان يبيع الفسيخ على ناصية حارته، يضع صفيحتين صدئتين على مسند خشبي يجلس وراءه في البرد بجلبابه المرتق، إلى كشك مسقوف يحميه من الأمطار والعواصف حيث إستطاع أن يخبئ إلى جانب صفائح الفسيخ ممنوعات يروّجها خلسة لتحقق له الربح الأسرع الذي لم يكن ممكنا أن يحققه بيع فسيخه في ذلك المدى القصير، واستطاع بهذا أن ينتقل من الحارة إلى الشارع العريض، ومن كشك الفسيخ إلى سوبر ماركت يزخر بمعلبات السردين والتونة والأنشوجة والرنجة بالإضافة إلى الفسيخ، لكنه صار حريصا أن يلتقطه البائع بقفاز نايلون ويضعه في أكياس بلاستيكية منمقة حتى لا تفوح الرائحة النتنة وتذهب عبثا الرائحة العطرة التي يطلقها كل صباح من بخاخات العطر المتنوّعة. وألف سكان الشارع العريض السوبر ماركت الجديد المتخصص فحسب في بيع فواتح الشهية من المخللات والفسيخ المتطوّر، وأعجبتهم هيئة صاحب السوبرماركت المتأنقة الحريصة على لبس المستورد باهظ الثمن ووجهه الأبيض المستدير الذي يبرز منه أنفه بفتحتيه الكبيرتين، وأقبلوا على التعامل معه بثقة ومودة بل لذ لبعضهم الصعود إلى مكتبه بالجزء العلوى من السوبرماركت الذي تتكثف به رائحة العطر حتى لينسى الزائر أنه زائر لفسخاني خاصة عندما تتجوّل عيناه في أرجاء الغرفة المجلدة بمكتبة أنيقة لا تبدو محتوياتها من وراء الضلف الخشبية المغلقة، وكان كل زائر يتساءل في نفسه تُرى ماذا يمكن لهذا الفسخاني أن يقرأ؟ وأي كتب يمكن أن تكون وراء تلك الضلف الخشبية المحكمة الغلق؟ لكن الزائر كان ما يلبث أن يعود لينظر منبهرا إلى المكتب العريض اللامع المصفوفة عليه الأدوات بعناية ويتابع بإبتسام القطنة المبللة بالكولونيا التي لا يكف الفسخاني عن تنظيف الأدوات النظيفة بها كأنه يمسح زفارة لا تزول.
لكن أمر الناس لم يستمر على حاله إذ لاحظوا عوارض تسمم تنتابهم بعد تناولهم أي قدر من فواتح الشهية تلك التي يجلبونها من السوبرماركت رغم نظافته البادية، وقال قائل: البضاعة فاسدة ويبدو أنها مخلفات مجموعة مخازن لبضاعة تالفة لم تعد صالحة للإستعمال الآدمي!
 أدار أهل الشارع ظهورهم للسوبرماركت ومع ذلك إستمر فاتحا أبوابه واجهة بيع لأشياء لا تُباع؛ فالفسخاني في مكتبه يفتح مكتبته كل ليلة عندما يحل الظلام ويستخرج منها بضاعته الحقيقية التي يأتيها زبائنها خلسة في مواقع متفق عليها تظللها الخفافيش، 
وتمتلئ خزائنه بالملايين.

 شيئ واحد ظل يؤرق الفسخاني؛ فهو كلما نظر إلى المرآة يرى وجهه منعكسا: لاشئ سوى خنزير أبرص!

هناك تعليقان (2):