العراق: ج 1
* عندما وصلت بغداد في سبتمبر 1975، لأتسلم عملي في الجامعة، كانت العاصمة العراقية لا تزال في مهرجانات تمجيد وتفخيم «النصر» الذي أحرزه العراق بتوقيع اتفاقية الصلح التي تمت في الجزائر بين العراق وإيران الشاه. وكان الانطباع العام الذي شعرت به أن البلد ينعم بالهدوء والأمن والثراء تحت حكم مستقر منذ 1968. ورغم القبضة الحديدية التي كنت أحس بوطأتها على وجوه الناس، البعثيين وغير البعثيين كافة، إلا ان الأشياء كانت في عمومها تحمل قسمات الرغبة المخلصة في إدخال الطمأنينة على قلب الشعب العراقي ومسح ذكرياته السوداء عن المذابح القديمة والويلات التي صاحبت الصراع بين حكم عبد الكريم قاسم وسيطرة الحزب الشيوعي من خلاله، وبين حزب البعث والمجازر التي وقعت بسبب ذلك الصراع وكبدت الفريقين خسائر دامية في الأرواح وحسرات وأحقاداً غائرة في القلوب.
كان الوعد الذي يحمله الحكم البعثي تحت رئاسة احمد حسن البكر هو أن يحقق للشعب العراقي، الى جوار الطمأنينة والرغد والهناء المعيشي، قيادة «الأمة العربية» لاستعادة فلسطين وتحقيق وحدة الوطن العربي. وكان الدور الجديد الذي أخذه الدموي القديم، احمد حسن البكر، هو دور «الأب» القائد الحنون فسيح الصدر، كبير القلب، المتجاوز والمتفهم لأخطاء البشر واختلافاتهم، وكان صدام حسين نائبه القوي ـ في الثامنة والثلاثين من عمره ـ يأخذ دور ابنه المطيع، المتشدد في الحق، المفتش عن الأخطاء التي تعوق الانتاج المرجو لعراق قائد، الذي قد يتهاون مع خطأ غير الحزبي لكنه لا يتهاون أبدا مع بعثي يخطئ، لأن البعثي هو الكادر النموذجي الذي على عاتقه يقع بناء «الدولة النموذج».. وكان بعض المشاغبين يمزحون ويقولون «الدولة الفالوذج»!
كنت ألاحظ تشابها لا يغيب عن العين بين نغمة وطقس الحياة في مصر تحت الحكم الناصري في الستينيات، قبل هزيمة الخامس من يونيو 1967، وبين نغمة وطقس الحياة في العراق في سنواتها تلك: 1975، 1976، 1977، 1978، باستثناء تميز به الحكم البعثي وقتها، وهو ان الغناء والتمجيد كان للحزب وباسم الحزب، بينما كان الغناء والتمجيد في مصر لعبد الناصر ولاسم عبد الناصر، لكن التشابه فيما عدا ذلك كاد أن يكون متطابقا خاصة في مرض الفجوة الواقعة بين القول والفعل، التي لم تفلح الشقشقات والطقطقات والرطانة السياسية المطلة علينا من الاذاعة والتلفزيون والصحافة أن تمحوها أو تخفيها حتى عن الأبله والمعتوه. ومع ذلك كان هناك شكل من الاسترخاء الذهني استحب الشعب أن يستسلم له باغماض العين عن الكثير، راضيا بحصيلته من الهدوء النسبي والطمأنينة، بعض الشيء، بديلا عن لجج الدماء التي سبح فيها طويلا ولا يتمنى العودة إليها.
وجاءت زيارة السادات للقدس في 19 نوفمبر 1977، فرصة مؤاتية لنظام الحكم العراقي يشد إليها ويمتص بها ما قد يكون في صدر الشعب العراقي من غضب ورغبة متطلعة للشجب والإدانة والاحتجاج. وفعلا نجحت زيارة السادات للقدس وصلحه مع الكيان الصهيوني في أن تعطي الفرصة لكي يضع النظام البعثي العراقي على صدره أوسمة الشجاعة والعفة والكرامة والعشق الأبدي لفلسطين. لكن شاء الله ألا يستمر ذلك الخداع طويلا، فما أن جاء عام 1978 حتى تصاعد الانفجار الفوار المستمر لغضب الشعب الايراني الذي توج بالنصر عندما خرج الشاه وسقط بختيار وعاد الامام الخميني لبلاده في 11 فبراير 1979 من منفاه الترانزيت في باريس، الذي اضطر إليه عندما طلبت منه حكومة البعث، بضغط من الشاه، أن يكف عن العمل السياسي أو يترك العراق، الذي عاش فيه 16 سنة، فتركه في شهر اكتوبر 1978، والخجل يتصبب عرقا خائبا على جبين الشعب العراقي، الذي أفهموه، عن طريق الترديد المستمر للشعارات الهواء، ان عراق البعث قلعة الثوار ومأوى مناضلي العالم وحامية حمى الثورات الشعبية على مدار الكرة الأرضية.
وبينما كان العالم أجمع يرقب اشتعال الاجماع الشعبي في إيران ضد الشاه ونظامه ورموزه على مدى عام 1978، كان الشعب العراقي يرقب أشياء مريبة تحدث في بلاده، بعضها مستور وبعضها يطل من شاشة التلفزيون: تهوين لما يحدث في الشارع الإيراني، وحصار أصم لأخباره المتصاعدة في أسلاك وبرقيات وكالات الأنباء التي تجوب العالم، مضافا الى ذلك الدعوة التي وجهت الى فرقة ضخمة من فناني الاعلام الشاهنشاهي لاحياء حفلات تموز 1978، ذكرى قيام ثورة الشعب العراقي 1958! وشاهد الشعب العراقي الاحتفال الثوري لذكرى قيام الثورة من قبل نظام «الدولة النموذج»: «جوجوش» المغنية والراقصة الشاهنشاهية تغني ثملة منطلقة، عبر شاشات التلفزيون في عقر دار الشعب العراقي المحافظ، تؤدي من الحركات الماجنة ما شاءت، فاقدة تماما لكل ما يمكن أن يعقلها من رباط أو ضابط أيا كانت نزعته. وتوالى بعدها في سهرة استمرت الى الصباح رفيقاتها ورفاقها السائرون على نهجها، وكبار مسؤولي الدولة «النموذج» فاغرين الأفواه والعيون انبهارا بالفن الفارسي الذي تنصل تماما من اسلاميته ولحق، بجدارة، بركب الدعارة العالمية. ولم يكتف التلفزيون بوخز تلك الليلة الفاحشة في ضمير وعين وقلب الشعب العراقي فبادر، إمعانا في الفجاجة والنفاق الديني المثير للغثيان، الى بث مقابلة تلفزيونية مع «جوجوش» سألها فيها المذيع عن زيارتها للعتبات المقدسة، ولم تنس جوجوش أن تسبل عينيها في ورع الشيطان قائلة بالعربية المكسرة إنها زارت «النجف الأشرف» و«كربلاء» وقرأت الفاتحة للامام علي والامام الحسين وأبي الفضل العباس!
كل ذلك كان يبث من التلفزيون العراقي والخطوات تتقارب لاخراج الامام الخميني من العراق، فلم يكن لنظام حكم اختار «جوجوش» أن يصبر أو يتحمل تنفس آية الله. وقال لي وقتها تلميذي جليل إنه كان ضمن الوفد البعثي، ويتبع أفراده المذهب الجعفري، الذي ذهب ليقنع الامام الخميني، في داره بالنجف الأشرف، بترك نشاطه السياسي. وكان رد الامام بهدوء: اغربوا عني، لا أراني الله وجوهكم ثانية أبدا! وأكد لي جليل انه شعر ساعتها بالسعادة والفخر وهو يخرج مطرودا مع وفده من دار الامام الخميني!
وبعد خروج الامام الخميني من العراق بفترة وجيزة نشرت الصحف خبر مرور «الشاهبانو» فرح ديبا ببغداد ولقائها مع صدام حسين. ولم تنس هذه الأخرى زيارة العتبات المقدسة! وقتها تساءلت: ما الذي جاء بفرح ديبا وكيف يقابلها صدام وهي عدوة الشعب الإيراني؟ وسمعت «الحفلطة الجدلية» التي كانت تحفظ للجميع: «إن ما يحدث في إيران يخص إيران ونحن لا نتدخل في شؤون إيران الداخلية، وهناك اتفاقية صداقة تم توقيعها في الجزائر عام 1975 مع الشاه لتهدئة الجبهة الشرقية استعدادا للتفرغ للجبهة الغربية، فلسطين، القضية المركزية، حيث أننا لا يجب أن ننجرف الى الاغراءات أو الاستفزازات لفتح جبهتين معا، لان هذا ليس في مصلحة أحد إلا اسرائيل ومن ورائها الامبريالية العالمية...إلخ ...إلخ ...إلخ!» وكنت قد حضرت مناقشة بين شاب مصري من المدافعين عن صلح السادات مع الكيان الصهيوني وبين شاب عراقي بعثي كان يكيل السباب للسادات بسبب استسلامه وخيانته، فقال المصري: «يعني ماتتحمقشي قوي كده، طيب ما صدام عمل زي السادات بالضبط، صدام عقد صلحا مع دولة الشاه المحتلة لأرض عراقية، والسادات عقد صلحا مع دولة محتلة لأرض عربية... خالصين!»، وهنا ثار العراقي البعثي ثورة كاد يفتك معها بالفتى المصري، مرددا مقولة نهائية: «غير صحيح ان إيران تحتل أرضا عراقية، وغير صحيح ان صلح صدام مع الشاه كانت به تنازلات عن جزر عربية، وان هذه الجزر ملكية شائعة ولا قيمة لها على الاطلاق!» وكرر الفتى البعثي ان البعث معاد للشاه ويتمنى سقوطه لأنه عدو خطر للنظام التقدمي العراقي، لكن ما باليد حيلة، وانهم مضطرون الى مهادنته حتى لا تستنفد قواهم العسكرية الضخمة الموفرة لصد العدوان الاسرائيلي وتحرير فلسطين!
لكن كل هذا الكلام لم يصمد طلاؤه الكاذب بعد اليوم الأول لوصول الامام الخميني الى أرض إيران واعلان الجمهورية الاسلامية، إذ اربد وجه النظام البعثي، وبداية من شهر فبراير 1979 كان على اميركا أن تحرك خيوط عرائسها في تنسيق سريع.
* حفلة زار
* كانت التلقائية المنطقية للشعب العراقي هي التعبير عن الفرح الغامر لنجاح الثورة الاسلامية وزوال الحكم الشاهنشاهي، وكان هناك نوع من الزهو لأن العراق ساهم في استضافة الامام الخميني منذ عام 1962، وان كان هذا الزهو قد خالطه نوع من الأسف إذ لم يقدر أن تكون عودة الخميني الى ايران منطلقة من العراق. ولكن فرح العراقيين، بمن فيهم من القاعدة الجماهيرية لحزب البعث، لم يلق تشجيعا من السلطة الحاكمة ولا من القيادة الحزبية، وساد التجهم والبرود أمام كل مظهر فرح شعبي بالثورة الاسلامية على أرض ايران، فالتقط الشعب على الفور الرسالة الضمنية في سلوك السلطة والحزب إزاء فرحهم، وعرفوا أن بدهية الفرح من جانبهم هي بدهية لا بد من أخذ التصريح بها قبل انتهاجها. وبميكانيكية الدفاع عن النفس التي تشربتها الشخصية العراقية عبر المذابح، تم اخفاء الفرح فورا، وصار فرحا تحت الأرض يتزامل السكنى مع المقت الذي تجدد للمجموعة الحاكمة وصفوة الحزب، التي بدأت بدورها تستلهم من غريزتها في حب البقاء أساليبها المتنوعة لشغل الشعب عن فرحه ومقته. وكان لا بد من ايجاد مناسبة تخلق ضجيجا كافيا يسد مع الكبت كل منافذ الضوء الاسلامي المنهمر من إيران ما بعد الشاه.
وهكذا، بين ليلة وضحاها، خرجت القيادة السياسية للشعب العراقي بقرار الصلح مع دمشق. وملأت الابتسامات شاشة التلفزيون مع الأحضان والتربيتات بين آت من سوريا وذاهب من العراق، ووجد الشعب العراقي نفسه بالنهاية في حفلة زار ضخمة ذكرتني بحفلات الزار التي كان عبد الناصر يتفنن في اقامتها كلما داهمه مأزق (مثل حفلة زار بيان 30 مارس 1968 التي أقامها ليهرب من مظاهرات الطلبة المحتجة على هزيمة 1967، ومطالبة الشعب بالسلاح للدفاع عن أرضه) ومع الضجيج بدأت التحليلات الرافضة لنظام الحكومة الاسلامية تخرج متوارية، ثم تسفر عن وجهها رويدا رويدا حتى ظهر الدق كاملا على دماغ الشعب العراقي قائلا في صراحة ان ثورة إيران ليست اسلامية ومع غياب القيادة السياسية المدنية المطلوبة لم يكن هناك مفر من سقوطها في أيدي رجال الدين. وكان هذا الاعلان بمثابة قرار تحريم وتجريم حب الدولة الاسلامية الناشئة، وبدأ التلميح بكونها «أميركية» وان الامام الخميني «عنصري» والدليل على عنصريته انه يصر على الحديث باللغة الفارسية رغم انه يجيد العربية!
ثم ظهر لنا فجأة البعث العراقي ـ دونا عن كل الناس ـ يأخذ على النظام الايراني الاعدامات الكثيرة مشيدا بنزعته البعثية السلمية المتسامحة العاطرة التي لا تقوى على رؤية الدماء ورؤية انسان يعدم، تلك النزعة البيضاء التي كانت تختفي سريعا في شماتة واضحة كلما تم اغتيال واحد من علماء الدين المجاهدين الصابرين. وعندما أذاعت لندن ان الامام الخميني حرّم الموسيقى، التاث التلفزيون والراديو وسائر الاعلام العراقي بالموسيقى ونزلت الشعارات التي كادت تقرر ان العربي يمكن أن يتهاون في عرضه ولا يتهاون في قرار جائر يحرمه من الموسيقى. واقيم «المؤتمر الدولي للموسيقى العربية» في بغداد بضجة وبذخ لم تعهدهما من قبل، ولم ينقطع برنامج المنوعات الخاص بالأغنيات الأجنبية عن ولائه لـ«جوجوش» وبث أغنياتها مع رقصاتها الماجنة في وقت كان يحرم رفع صورة للخميني، بل في وقت بدأت فيه نغمة بث العداء والكراهية للشعب الايراني المسلم بدعوى انه «فارسي مجوسي»، ولكن صورة جوجوش وأغنياتها ظلت شاهدا على ولاء البعث العراقي وموضوعيته إزاء الموسيقى والغناء.
*عندما حانت احتفالات تموز (يوليو) 1979 كانت أصابع أميركا قد قررت خطوة حسم ضرورية لتحويل القيادة السياسية في العراق من قيادة جماعية، يشترك فيها احمد حسن البكر مع صدام حسين مع مجموعة من الوزراء وقيادات الحزب البارزين، الى قيادة فردية يمسك بها رجل واحد يمكن أن يسكب فيه خمر الغرور بيسر ويطيش معه عقله وسلوكه وقراراته. وكانت قابليات صدام واستعداداته الفطرية ترشحه لأن يكون الفرد المختار الذي يتم على يديه:
1 ـ التخلص من القيادة الجماعية التي قد تختلف في الرأي ولو على مستوى الولاء المذهبي.
2 ـ إيجاد مبرر لإلغاء موضوع الوحدة / اللعبة بين سوريا والعراق.
3 ـ تطويق إرادة الشعب العراقي وإرهابه هو والقاعدة الشعبية للحزب.
4 ـ غربلة صفوف الحزب وتصفيته من كل من يمكن أن يكون متعاطفا مع الثورة الاسلامية مع إرهاب كل من راوده الحنين الى الاسلام وفكر في العودة إليه.
5 ـ إسقاط النظام الاسلامي في إيران قبل أن يترسخ وتنمو جذوره.
6 ـ إشعال حرب صيّادة تسحب من ايران الثورة كل العتاد العسكري الذي كانت أميركا قد تركته يتدفق على ايران الشاه لتحويلها الى ثكنة عسكرية أميركية رابضة للدفاع عن اسرائيل ومصالح أميركا في الخليج. حرب تؤكد ان الثروة العسكرية التي ورثتها ايران الثورة عن الشاه قد احرقت وبددت تماما.
وعلى ذلك، فوجىء الشعب العراقي، كما فوجئت القاعدة الجماهيرية للحزب، في احتفالات تموز 1979 بأحمد حسن البكر يعلن في خطابه التقليدي تنازله عن الرئاسة لنائبه صدام حسين بحجة أنه صار مريضا وتكالبت عليه الكوارث، وكان قد فقد زوجته، وبعدها ابنه في حادث سيارة قتلته هو وزوجته وأطفاله وشقيقة زوجته، وكانت الشائعات تدور في بغداد عن ان البكر صار أكثر التصاقا بالدين وتعلقا بزيارة العتبات المقدسة في النجف وكربلاء وسامراء، وذلك بسبب رؤى وأحلام مزعجة تحاصره أثناء النوم، وأنه يتوجس الشر دائما ممن حوله، حتى انه أصر في مرة على أن يصاحب ابنه المسافر بالطائرة خوفا عليه من تآمر لاغتياله.
لم يرحب الشعب العراقي بقرار تنازل احمد حسن البكر لصدام حسين إذ أحسوا أنهم بهذا سوف يدخلون مرحلة تكون القبضة الحديدية أشد قسوة وإحكاما، خاصة أنه لن يكون هناك نائب قوي ند لصدام حسين كما كان صدام نائبا قويا ندا للبكر، مما جعل الكثيرين يقولون ان صدام كان هو الحاكم الفعلي من وراء الستار. لكن القيادة السياسية والواجهة الاعلامية طنطنت للقرار الديمقراطي ـ (كذا!) ـ الذي تم اتخاذه، والذي ان دل على شيء فإنما يدل على الروح النقية الثورية التي تجعل القيادة السياسية، ومجلس قيادة الثورة، والقيادة القطرية للحزب قوة مترابطة على درجة من السمو والرفعة لايصلها إلا المتصوفة والزهاد!
وانتهت الاحتفالات وصدام حسين بأناقته الباريسية وسيجاره الكوبي فرح سعيد باسم يستعرض جماهير الشعب الذي بدأ الشعراء والملحنون يحفظونه لأول مرة في تقاليد حكم البعث، أناشيد تدور حول الفرد، الفارس، السوبرمان: صدام، صدام، صدام م م م م م... وكان الغناء قبل ذلك يدور للحزب، وللمجردات مثل الأمة العربية والقومية والاشتراكية... ولكن ها هو صدام والناس ترقص وتغني له ولعيونه الجميلة ـ (كذا!) ـ وهو يتبختر في حركاته بين مقلد لعبد الناصر ومقلد لنجوم السينما. وهكذا ملئ الكأس وأترع صدام بالغرور.
* مذبحة القيادات البعثية
*كان معروفا قبل تولي صدام حسين رئاسة الجمهورية أن هناك أكثر من شخصية قوية ذات نفوذ في الحزب والقصر الجمهوري منهم: غانم عبد الجليل، عدنان حسين، محجوب، محمد عايش، وآخرون لم أعد أذكر اسماءهم رغم انهم كانوا أسماء طنانة تدوي في الآذان صباح مساء. وبعض من هذه الأسماء كانت مقربة للبكر تنعم برضاه وتدليله، وكانت تشعر أنها مساوية في القامة مع صدام. ولا ندري نحن هل صدر منهم شيء أخاف صدام وألقى التوجس في صدره منهم، أم أنه ـ بأمر من اميركا ـ كان قد افترض احتمال معارضتهم له في أمور مستقبلية نوى القيام بها، المهم انه شرع في تنفيذ الخطة بإلغاء القيادة الجماعية حتى ولو كان هناك احتمال بأنها ستوافقه أو تهادنه، على أساس ان الاحتياط واجب كل لص وسفاح. ومع تباشير شهر اغسطس1979 ران الصمت الرهيب على الشعب العراقي وعلى قاعدة الحزب الجماهيرية وهم يستمعون الى تفاصيل تقرأ عليهم من التلفزيون ثم تعرض عليهم سينمائيا عن خيانة مروعة تم اكتشافها في صفوف المتصوفة والزهاد من كبار قيادة الحزب القطرية والقومية والحكومة. ووقف صدام في الفيلم السينمائي يبكي حزنا على انتهاك العذرية الحزبية، لكنه سرعان ما جفف دموعه بالمناديل الورقية وهو يجمع شتات عزيمته ليقول للشعب العراقي وللجماهير الحزبية مع ومضة خاطفة في عينيه النازيتين: «الذي يخون قومه ليس له منا إلا السيف»! وفي 1979/8/8 تساقط 21 رأسا تضمنت كل الرؤوس اللامعة في الحكم والحزب. وكان المفروض أن يكون من بين القتلى منيف الرزاز، نائب الأمين العام للقيادة القومية للحزب، وهو أردني، لولا تدخل الملك حسين فاكتفى صدام بتحديد اقامته ثم سجنه مع اعدام كل مؤلفاته البعثية وتنظيراته الحزبية، وأنزل صدام بديلا عنها مؤلفاته الشخصية وكتيباته تمهيدا لاستئثاره بلقب مفكر الحزب وفيلسوفه ومنظره الوحيد!
وكانت هذه المجزرة كافية لإرهاب المنتمين للحزب كافة والزامهم الأدب والطاعة الكاملة للمعلم الكبير صدام حسين الذي أثبت عمليا للجميع أن قلبه أشد قسوة من الحجارة وأنه اذا كان قد هان عليه قتل أصدقائه ورفاقه المقربين فانه بهذا يرفع شعار حكمه الجديد: «من يقف في طريقي ليس له سوى الإبادة!» وأطبق الشعب العراقي وأفراد الحزب وجماهيره الفم، لا أحد يقول ما في قلبه وعقله حتى ولو في غرفة نومه همسا في أذن زوجته.
وبداية من هذا التاريخ (8 اغسطس 1979) سيطر صدام على كل مفاتيح السلطة، الحكم والحزب بقيادتيه القطرية التي تتحكم في الحزبيين العراقيين، والقومية التي تتحكم في الحزبيين العرب من الاقطار الأخرى. وتحققت بهذا الأهداف الآنفة الذكر من رقم واحد الى أربعة، مما كان مطلوبا لاميركا أن يتم عبر صدام، تمهيدا لتحقيق المطلبين رقم خمسة وستة، وهو اسقاط الحكومة الاسلامية في ايران أو على الأقل حرق العتاد العسكري الذي ورثته عن الشاه، مخافة ان يستخدم ضد اسرائيل، التي كان الشاه قد تعهد بحمايتها، خاصة بعد ان اسقطت ايران الثورة الاسلامية علم اسرائيل واحتفلت برفع علم فلسطين في سماء طهران في تناغم حركي شجي يفوق كل موسيقى البشر عذوبة وجمالا.
لم يحزن الشعب العراقي على قتلى الثامن من اغسطس 1979 لكنه توتر، كان لسان حاله هو ان الله قد جعل بأسهم بينهم وأن القاتل ليس بأفضل من المقتول والمقتول ليس بأفضل من القاتل، ولكن التوتر كان ناشئا من الاحساس بأن الدم قد عاد والمجازر قد بدأت من جديد.
وبدأت تنتشر في طرقات بغداد ظاهرة ثياب الحداد الاسود ـ غير العباءة السوداء الزي الشعبي للمرأة العراقية ـ وتزايدت متصاعدة من الأشهر المتتالية بعد اغسطس، سبتمبر، اكتوبر، نوفمبر، ديسمبر 1979، ثم بداية من يناير 1980 مستمرة حتى وصلت المذابح ذروتها اللامعقولة 8 ابريل 1980 حين تم اعدام الامام محمد باقر الصدر وشقيقته بنت الهدى آمنة الصدر.
كنت طيلة تلك الأشهر اسمع عن الاعدامات الجماعية التي كان يساق إليها الشباب المسلم: 300، 400 شاب يوميا حتى قيل ان الحانوتي المكلف بدفن الجثث قد تذمر من كثرة العمل المطلوب منه ومن مساعديه انجازه في الليلة الواحدة! وكنت أسير في بغداد أكاد أشم الدم وأحس مذاقه حقيقة في حلقي وأنا أبلع ريقي، وعندما كلت الأجهزة المكلفة بالاعدام والدفن وجدوا طريقة أوفر لهم في الجهد وهي دس نوع من سم الفئران في مشروب مصنوع من اللبن الزبادي يرغم من يتم اعتقاله على شربه ثم يطلق سراحه ويعود الى داره ليموت وتقع مسؤولية دفنه على أهله. وكان الشعب العراقي يعرف ان الاعدامات الجماعية هذه صارت شيئا اعتياديا وروتينا يوميا، حتى ان الأسرة التي يتم اعتقال شاب من أبنائها تندهش لو عاد سليما لانها تحتسبه عند الله تعالى لحظة ذهابه مع رجال الأمن. هذه الحرب الغادرة التي استحلها صدام وعبيده ضد الشعب العراقي جاءت بنتيجة عكسية لما أراد تحقيقه من خضوع كامل لطغيانه، إذ أنها، على غير ما توقع، أذكت التأجج الثوري في صدور الشباب، وجاءته ضربة من حيث لم يتوقع عندما قامت مجموعة من الشباب البعثي من حي الثورة الفقير، والذي كان يقوم بحراسة مقر الحزب بالحي، باعلان التمرد على صدام وقيادة مظاهرة تهتف بسقوطه وبحياة الثورة الاسلامية. وجن جنون صدام وهرعت قوات الردع في بغداد كافة وأخمدت المظاهرة باطلاق الرصاص على الجميع، ثم بدأت عملية صارمة في تمشيط صفوف الحزب، وابتدأ النشاط الاعدامي يمتد من اعدام الشباب المسلم المنتمي الى حزب الدعوة ـ حقيقة أو اتهاما ـ الى الشباب البعثي الذي دخل الحزب كاتما لاسلامه مكرها وقلبه مطمئن بالإيمان.
ومع ذلك تنبه صدام ـ بمجهوده أو بتنبيه ممن يستعملونه ـ ان الاعدام والعين الحمراء يجب ان يتوازنا قليلا مع التدليل والتلطف، وبدأت جولاته الشعبية في كل مناطق بغداد أولا ثم من شمال العراق الى جنوبه. وفي بغداد بدأ بزيارته لحي الثورة القابع في فقره في طي النسيان والاهمال الحكومي والحزبي. وحُشِد الناس لاستقباله في ترحيب شعبي، ونقل لنا التلفزيون صورة صدام وهو يقف ببذلته الباريسية الأنيقة وخطابته البطيئة الخنفاء يعترف لأهالي حي الثورة أنه قد تم إهمالهم لوقت طويل وأنهم ضربوا المثل في قوة الاحتمال والصبر على المكاره وسوء الخدمات، وقد آن الأوان لكي يلقوا الاهتمام اللائق بهم كجماهير كادحة، لمصالحها قام الحزب وقامت الثورة. ولكنه تدارك قائلا: ومع ذلك فإن إهمال رصف وتمهيد طرقات حي الثورة ليس سببه كله تناسي مصالح الجماهير الكادحة وخذلانها، لاسمح الله، ولكن هناك السبب الهام وهو أن حي الثورة يقوم على بحيرة نفطية ضخمة أرغمتهم على تأجيل رصف وتمهيد الطرقات لكن «مايخالف»، منذ الآن وبالرغم من بحيرة النفط تحت التربة، فإن الحكومة سوف تبدأ في رصف وتبليط الطرقات، لأنه اذا كان أهالي حي الثورة ـ الذي سماه فيما بعد حي صدام! ـ مستعدين للصبر أعواما فإن صدام لم يعد يحتمل الصبر لهم أكثر!
صارت مهرجانات الزيارات الصدامية لمناطق العراق البرنامج الطويل الممل المقرر على مشاهدي التلفزيون، يرونه يوميا في زياراته المفاجئة للبيوت وللمدارس، حيث يميل على الاطفال مبتسما متجسسا: «إيش دا يقول بابا؟ إيش دا تقول ماما؟» ـ يعني ماذا يقول بابا وماذا تقول ماما ـ ليتحسس من براءة الأطفال وتلقائيتهم من يعاديه ومن ينتقده! ومع هذه المهرجانات استمرت وجبات الاعدام في تزايد متصاعد ومتكثف ترهق القلب والصدر والضمير وتحيط النائم بكوابيس لا ينطبق معها جفن، حتى جاء يوم أول ابريل 1980 عندما تربص طالب بكلية العلوم بالجامعة المستنصرية عند مدخل الجامعة منتظرا مع تجمع طلابي لاستقبال الوزير طارق عزيز ومجموعة من زمرة صدام، وعندما كان الوزير يتهيأ للنزول من سيارته ألقى الطالب قنبلة قاصدا قتل الوزير، انتقاما للمجازر اليومية، لكن الوزير لم يصب إلا باصابة طفيفة وهلع كبير جعله يجري في طرقات الجامعة لا يلوى على شيء، وقتل طالب وطالبة للأسف، وتولى الحرس اطلاق الرصاص على الطالب فقتل بدوره على الفور، وقال الناس ان صدام لما علم بالخبر أصدر أوامره لفرقة من عساكره بالتوجه الى بيت الطالب بشارع فلسطين القريب من الجامعة وتم نسفه بمن فيه من أهله وضيوفه وحيواناته ودواجنه. وكان هذا الحادث مبررا لعهد قطعه صدام على نفسه في خطبة قالها في فناء الجامعة المستنصرية: «والله والله والله، لأقتص لكل نقطة دم من الدماء الزكية التي سالت على أرض المستنصرية!» وبدأت مرحلة جديدة من الجنون المسعور.