من صندوق الجواهر
أم أبيها: فاطمة بنت محمد
تأخذني سيرة الزهراء؛ "فاطمة بنت محمد"، إلى جوف بحر الحزن
المتلاطم، وترميني هناك أغالب الموج العاتي لججا من الشجن، والوجع، يخلع القلب
الذي تستبد به الذكرى، وتعصره الآلام. وأقف سيدتي، أقف جدتي، أقف بين أيامك
الخالدات، ترجفني الدموع، أرقب نحولك وضعف جسدك الذي كان عليه أن يتحمل ما لو ذقت
طرفا منه، وقد ذقت الكثير، لتضعضعت وتفتت وذابت مني العظام، لكن هذا كان قدرك يا
فاطمة بنت محمد مرسوم مدبر بحكمة شاءها الله فكانت، وكان قدرك أن تكوني المثال،
والكمال، والتكامل، والقدوة لسرب وراءك لم ينقطع من المسلمات الرساليات، جئن على
مدار ومرور وتعرجات الزمن الإسلامي، ناظرات إليك، متأسيات بك، متواسيات، يعرفن
عندك عزة المسلمة، ويتعلمن صبرك. سرب وراءك يا فاطمة، لن ينقطع ما دامت ذكراك
بازغة أبدا، ومواقفك تستحضر بقوة، كلما هم باطل تأخذه حمية الجاهلية ليعلو بصلف
وغرور فما يلبث حتى يقذف الله بالحق عليه فيدمغه فإذا هو زاهق؛ أولست النموذج الإسلامي
الذي نشأته البيئة النبوية لتترسخ فيه شمائل من أدبه ربه فهو على خلق عظيم؟ أولست
فاطمة؟ فاطمة البتول الزهراء الطاهرة المتعبدة الزاهدة التي كلما قرصها الجوع
سجدت، وكلما هدها التعب ذكرت، وكلما ألمت بها الحمى قالت: "يا حي يا قيوم
برحمتك أستغيث، اللهم أصلح لي شأني كله ولا تكلني طرفة عين إلى نفسي ولا إلى أحد
من الناس".
إبنة محمد وخديجة وأخت الباسلات،
زينب ورقية، صاحبة الهجرتين، وأم كلثوم. رفيقة عليّ بن أبي طالب، صاحب طفولتك الذي
كرم الله وجهه، فلم يسجد كما لم تسجدي أبدا لوثن، عليّ زوجك فتى الفتيان وفارس الفرسان،
وفقيه الفقهاء، والصلب الطاهر الذي خرجت منه ذرية نبينا الهادي: "جعل الله
ذرية كل نبي من صلبه، وجعل ذريتي من صلب عليّ". أم الحسن والحسين،
وزينب وأم كلثوم، وفوقهم يناديك نبينا الحبيب: "فاطمة أم أبيها"، فتحملت
بهذا وطأة المجد، ودفعت ثمن التميز، وحفظت بالحرمان والصبر أمانة مسئولية كونك
ابنة الرسول المفدى، الذي أدّبك ورباك لتكوني النموذج للرسالية المسلمة.
ولدت مع بشائر النبوة، ومحمد الأمين يفض خصام القبائل في مكة عند إعادة
بناء الكعبة وتنازُعها شرف حمل الحجر الأسود ووضعه في مكانه، في 20 من جمادى الآخرة
في العام الثامن عشر قبل الهجرة. تعلمت الخطو وأبوها في غار حراء يتطهر ويتعبد وتأتيه
الرؤى الصادقة كانبلاج الصبح، وتشربت منذ ذلك الحين، روح أمها الحانية، الطوافة
حول الأب، الذي لم تعرف قريش مثله صدقا وطهرا وسموا.
ومع تنزيل الآيات على المبعوث رحمة للعالمين، رددت وهي بنت خمس سنوات: "اقرأ بسم ربك الذي خلق"، ونطقت:
"أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله"؛ نطقتها حفظا
ووعتها معنى، وحملتها مسئولية كاملة، وعاشتها حياة متصلة، شهيقا وزفيا، على مدى
ثلاثة وعشرين عاما.
دخلت شعب أبي طالب، وهي في الثانية
عشرة، عندما ضربت قريش بعتوها الجاهلي الحصار الباغي على الرسول وأهله، وصحابته
ومن يواليه، فلا بيع ولا شراء ولا مصاهرة ولا مكالمة ولا طعام ولا ماء، وقطع
الطريق على من يبغي التسلل بزاد أو نجدة، فهي المعركة الضارية لإكراه المؤمنين على
ترك اختيارهم العقائدي الحر بالإيمان بمحمد، رسولا ونبيا، ولا رسول ولا نبي بعده،
والإسلام لوحدانية الله سبحانه، أو الموت جوعا وظمأ في الشعب الموحش في الجبل!
ورأت في هذه السن المبكرة كيف جاع المسلمون من كبيرهم حتى طفلهم، وكيف
أكلوا ورق الشجر وما دونه، صامدين بالروح الشبعى بدين الله الحق، وينضج إيمانها
ليصير سمة شخصيتها الرئيسية، وتتفتح روحها تحت الحصار الكافر بقوة وعناد يثقلان
جسدا أكسبته سنوات الجوع الثلاث النحول والضعف، لازمانها إلى نهاية عمرها الكادح،
الذي لم يتجاوز الثامنة والعشرين ربيعا، يوم تحققت لها بشرى اللحاق بأبيها الرسول
المفدى بالجنة في الثالث من رمضان في العام الحادي عشر من الهجرة.
وتأكل الأرضة المخبأة في الكعبة
صحيفة تعاهد الكفار على الحصار فلا تترك منها إلا اسم الله، كما ينبئهم الرسول،
لتخسأ قريش أمام الإرادة الإلهية التي أذنت بإنهاء الحصار بعد أن فتن فيه الظالمون،
وامتحن المؤمنون إيمانهم فكان لهم فيما كرهوه الخير، رغم القرح، والله "فعال
لما يريد". وتخرج "فاطمة" الصبية من الحصار فتاة في الخامسة عشرة
قد حان أوان زواجها، لكن لا مجال، فقد اختبر قلبها الغض أولى جرعات الحزن الغائر
حين يختار الله أمها خديجة السكن الرؤوم لتكون من شهداء ذلك الحصار، الذي باءت
قريش بإثمه، فينتهي ذلك الدور الفذ الذي قدره الله بمقدار لخديجة، وليتاح لفاطمة،
صغرى البنات، مواصلته ظلا لخديجة وامتدادا لها، في ترتيب إلهي عجيب، ولم يكن من
المنظور أن تقوم زينب الكبرى بهذا الدور، فقد رسم الله لها حياة لا تقود لذلك، وقد
توفيت في السنة الثانية للهجرة، ولم يكن من المشيئة أن تكون رقية أو أم كلثوم،
والأولى صاحبة هجرتين، واحدة إلى الحبشة والأخرى إلى المدينة، وكلتاهما قد تزوجتا
عثمان بن عفان صاحب النورين، فقد توفيت رقية في السنة الثالثة للهجرة وحلت أم كلثوم
مكانها بعدها في بيت عثمان، ثم توفيت في السنة التاسعة للهجرة. وهكذااختص قدر الله
فاطمة بين شقيقاتها الباسلات المحبات لتمتاز،
ومن البداية، ولتكون لائقة لشرف إنجاب الذرية لنبينا الهادي؛ أخذ الله من خديجة
القاسم والطيب مختبرا رسولنا بوجع الثكل، بعد وجع اليتم، وليعود فيعطيه عبر فاطمة
وعليّ: الحسن والحسين رحمة ومنّة. ولا يخفيها الرسول، فيقول صلوات ربي وسلامه
عليه: "جعل الله ذرية كل نبي في صلبه، وجعل ذريتي في صلب علي". (أخرجه
أبو الخير، والحاكمي، مذكور في زينب، الأستاذ علي أحمد شلبي، المجلس الأعلى للشئون
الإسلامية، ص 65). وانفردت مبكرة باستكمال دور الحدب والذود الذي كانت تتبع به
خديجة الرسول، حيثما ذهب، في طرقات مكة وأنحاء
البيت العتيق.
خبرت كثافة الباطل حين يهيش، ويحدق
بالحق ويبدو لوهلة من الزمن كأن لا نهاية له فالكلمة تبدو كلمته والصوت صوته
والأمر بيده وكأنه الغالب أبدا، رأت كيف يستهين أهل الباطل بالحق، كيف يقفون أمام
نوره في صمم وعمى، "وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة
وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون"، الزمر 45.
تهرول هالعة: "وا كرب أبتاه"، والحنق يثقله العجز والقهر فلا
تملك كبت شهقاتها وإخفاء نحيبها وهي ترى النبي المفدى، ساجدا في الكعبة، للذي لم
يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، وقد وضع السفهاء على ظهره كرش بعير، وفق مؤامرة
غليظة رسمها إمام الكفر والحقد أبو جهل عمرو بن هشام، ونفذها التعيس عقبة بن أبي
معيط، وسط ملأ ساخر يضحك، وقد طابت أنفسهم الفظة لمشهد الأذى بالرسول، روحي فداه.
وتزيح فاطمة عن أبيها الأذى فيأخذها إلى قلبه يهدئ من روعها، "يا بنية لا
تبكي فإن الله مانع أباك"، ثم يرفع رأسه الشريف وهو يدعو: "اللهم عليك
بقريش، اللهم عليك بأبي جهل وعليك بعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة
وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط و..." وسابع نسى راوي الحديث اسمه ويرى الناس
كل هؤلاء في قليب بدر قتلى ومعهم خزي الدنيا والآخرة، وقد شفى الله صدور المؤمنين وأذهب غيظ قلوبهم، ومع تصاعد
الأذى وضراوة المكر الجاهلي تتعلم فاطمة الصبر وتعرف يوما بعد يوم كيف تروض نفسها
على كظم الغيظ أمام استهزاء قريش
واستكبارها فالله يسمع ويرى ويربط علىقلب مختاره ومصطفاه: " وإن يكاد الذين
كفرو ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر
للعالمين"،القلم 51،52.
وتتربى فاطمة بالقرآن وتقرأ وراء الرسول: "ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما
كانوا به يستهزئون"، الأنعام 10.
ثم تقرأ: "وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما
يشعرون"،الأنعام26.
ثم تقرأ: "قد نعلم إنه ليحزنك
الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على
ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله..."، الأنعام 33، 34.
ثم تقرأ: "فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا
فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون"، الأنعام 44.
وتتمكن الحكمة من قلب فاطمة وصدرها وهي توالي حفظ كلام الله، وتتأمل آياته
متبتلة خاشعة قانتة لا تعرف لغوا ولا هذرا متخلقة بخلق أبيها الذي كان خلقه
القرآن، وتشهد السيدة عائشة أم المؤمنين بعد سنوات فتقول: "ما رأيت أحدا من
خلق الله أشبه حديثا ومشيا برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة"، وتقول: "ما
رأيت أحدا أصدق في لهجة من فاطمة إلا أن يكون الذي ولدها صلى الله عليه وسلم".
ويكسبها الورع والتقى مع الطقس الجهادي الرسالي الذي تعيشه كاملا وقارا
ومهابا وثقلا لم يعرف لامرأة في مثل عمرها، وتشهد لها السيدة عائشة مرة أخرى: "
ما رأيت أفضل من فاطمة" و "....إن كنت لأظن أن فاطمة من أعقل
نسائنا....".
وتعيش سنوات العُسرة الثلاث، ما بين وفاة السيدة خديجة وهجرة الرسول وقبل
زواجه، مؤكدة للرسول بثباتها وإلزام نفسها الصبر والتحمل الهادئ، أنها الرسالية
الجديرة بأن تكون السكن الباقي أثرا من ظل أمها الرؤوم فيجتمع فيها، مع تشابهها
التام بالرسول المفدى، بيت النبوة كاملا، ولا يجد الرسول ما يصف به موقعها الفريد
هذا إلا أن يدعوها: فاطمة أم أبيها.
يأمر الله رسوله بالهجرة، فيهاجر
ومعه الصدّيق أبو بكر إلى يثرب، المدينة المنورة، وسط ملابسات خطرة تتهددهم، وينام
علي بن أبي طالب مكان الرسول في مكة ليغشي الله أبصار الكافرين فلا يرون النبي
المفدى وهو يمر من أمامهم وقد جاءوا عصبة يمثلون القبائل لقتله. وتتوالى هجرة
المؤمنين من بعده وتهاجر فاطمة بصحبة أم كلثوم إلى حيث يجمع الله شمل المسلمين
ويكوّنون دولتهم بالمدينة المنورة يثرب، ويتزوج الرسول إبنة صاحبه في الغار، عائشة،
وغيرها من بعدها ويتهيأ المجال لتتزوج فاطمة؛ خطبها أبو بكر فقال الرسول: يا أبا
بكر أنتظر بها القضاء، وخطبها عمر بن الخطاب فقال الرسول: يا عمر أنتظر بها
القضاء، فقالوا لعليّ: اخطب فاطمة إلى رسول الله، فقال: بعد أبي بكر وعمر؟ ثم
خطبها. فقال صلى الله عليه وسلم: قد أمرني ربي عز وجل بذلك. وقال النبي لفاطمة: إن
عليّا يذكرك. فسكتت فعرف موافقتها، وكانت قد بلغت الثامنة عشرة.
قال أنس بن مالك: "ثم دعاني صلى الله عليه وسلم بعد أيام، فقال لي: يا
أنس اخرج وادع لي أبا بكر الصدّيق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وسعد
بن أبي وقاص وطلحة والزبير وبعدتهم من الأنصار. قال فدعوتهم فلما اجتمعوا عنده صلى
الله عليه وسلم وأخذوا مجالسهم وكان عليّ غائبا في حاجة النبي صلى الله عليه وسلم،
قال النبي: الحمد لله المحمود بنعمته المعبود بقدرته المطاع بسلطانه المهروب إليه
من عذابه ...إلى أن قال: ثم إن الله تعالى أمرني أن أزوج فاطمة من عليّ، وإني
أشهدكم أني قد زوجتها إياه على أربعمائة مثقال من فضة، إن رضي علي بن أبي طالب
بذلك، على السنة القائمة والفريضة الواجبة". وعندما دخل علي تبسم الرسول في
وجهه وقال: "إن الله أمرني أن أزوجك فاطمة على أربعمائة مثقال فضة إن رضيت
بذلك، فقال: رضيت بذلك يا رسول الله، ثم خر لله ساجدا". وباع عليّ درعه
الحطمية وكان الرسول قد أهداها له وباع بعيرا له فتجمع له أربعمائة وثمانون فقال
له النبي اجعل ثلثين في الطيب وثلثا في المتاع. وجهزها الرسول بقطيفة ووسادة من
الجلد حشوها ليف، ورحيين وسقاء وجرتين. وتقول السيدة عائشة زوجة الرسول: "أمرنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجهز فاطمة حتى ندخلها على عليّ فعمدنا إلى البيت
ففرشناه ترابا لينا من أعراض البطحاء، ثم حشونا مرفضتين ليفا، فنفشناه بأيدينا، ثم
أطعمنا تمرا وزبيبا وسقينا ماء عذبا وعمدنا إلى عود فعرضناه في جانب البيت ليلقى
عليه الثوب ويعلق عليه السقاء، فما رأينا عرسا أحسن من عرس فاطمة"! (مذكور في
مناقب علي والحسنين وأمهما فاطمة الزهراء دكتور عبد المعطي أمين قلعجي، دار الوعي،
حلب 1979).
هكذا كان جهاز بنت رسول الله وهكذا كان عرسها! ويدعو الرسول لهما: "
اللهم إنهما أحب الخلق إلي فأحبهما وبارك في ذريتهما"، ويتم هذا الزواج الذي
أمر به الله وتولاه ليكون أصحابه بما هم عليه وما ينجبانه أهل بيت الرسول. عن صفية
بنت شيبة قالت: "قالت عائشة: خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداة وعليه مرط
مرحل، أي كساء منقوش، من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل
معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء عليّ فأدخله، ثم قال: إنما يريد الله ليذهب
عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا". أخرجه الإمام مسلم في صحيحه.
والشاهد من هذا الحديث أن صفة أهل بيت الرسول تعني فاطمة وعليا والحسن
والحسين. من أجل هذا لم يأذن الرسول لعليّ بإدخال زوجة ثانية على فاطمة حفاظا على
خصوصية هذا البيت وتميزه، لكونه يضم النماذج الإسلامية الرسالية التي تربت على يد
الرسول فنشأها لتأتم بها أجيال المسلمين عبر القرون وتتمثلها.
جاءت فاطمة تقول للرسول: "إن قومك يتحدثون أنك لا تغضب لبناتك. وهذا
عليّ ناكحا ابنة أبي جهل، وكان أهلها يريدون أن يزوجوها بعد دخولها الإسلام بمن يليق
بكبريائها، فقام الرسول إلى المنبر يقول: إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها
ويؤذيني ما آذاها وإني لست أحرم حلالا ولا أحل حراما ولكن والله لا تجتمع بنت رسول
الله وبنت عدو الله عند رجل واحد أبدا". ويقول: "إن بني هشام بن المغيرة استأذنوا
في أن ينكحوا ابنتهم عليّ بن أبي طالب، فلا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن، إلا أن يريد
ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم". ويتراجع عليّ عن الخطبة التي تم
السعي بها إليه ولم يكن هو ساعيا إليها. ولا تؤثر هذه الحادثة في خصوصية هذا البيت
الطاهر، الذي ظل للرسول سكنه بل لعلها سجلت جانبا في الحلال يمكن أن يبغضه القلب
وينفر منه الذوق وتؤذى منه النفس.
ويستمر الرسول المفدى في إغداقه
الحب والود وطيب الكلم لفاطمة وعليّ وأولادهما حتى تقول السيدة عائشة: "أحب
الناس إلى قلب الرسول فاطمة وزوجها"، رغم أن السيدة عائشة قد أغاظت فاطمة
يوما بقولها: "أنا البكر الوحيدة التي تزوجها رسول الله". فقال الرسول
المحب لابنته: "قولي لها وأمي خديجة الوحيدة التي تزوجت أبي وهو بكر".
وكان هذا التلطف ومعه المواساة كل ما يملكه الرسول المفدى لابنته البتول، إذا أتى
من سفر بدأ بالصلاة في المسجد، ثم يذهب إليها ثم إلى نسائه، إلا أن هذا الحب المغدق
كان معه التنبيه النبوي المتصل:
" لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها" و "يا فاطمة بنت محمد
اعملي فلن أغني عنك من الله شيئا" و "ليست الدنيا من محمد ولا من آل
محمد، ولو كانت الدنيا تعدل عند الله من الخير جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة
ماء". ويرى في يد فاطمة يوما سوارين من الفضة، فلا يدخل بيتها حتى تخلعهما
وتبعث بهما إليه قائلة: "ابنتك تقرأ عليك السلام وتقول لك اجعل هذا في سبيل
الله". فيفرح النبي المفدى: "قد فعلت فداها أبوها". ويراها بلال
وهي تطحن وجسدها الضعيف لا يساعدها والصبي يبكي، فيطحن عنها ويقول له الرسول: "فرحمتها
رحمك الله". لكن عندما يذهب عليّ ليسأله، وقد جاءه سبي، أن يعيطهما منه من
يساعدهما لإن عليا سقى حتى اشتكى صدره، وفاطمة طحنت حتى كلت يداها واخشوشنتا، يرفض
صلوات الله عليه: "والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم، لا أجد ما
أنفق عليهم، ولكني أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم". ثم ما يلبث أن يذهب إليهما
وقد دخلا في قطيفتهما إذا غطت رأسيهما تكشفت أقدامهما وإذا غطيا أقدامهما انكشف
رأسهما، وقال لهما: "ألا أخبركما بخير مما سألتماني؟ قالا: بلى بلى، فقال:
كلمات علمنيهن جبريل عليه السلام، فقال: تسبحان في دبر كل صلاة عشرا وتحمدان عشرا
وتكبران عشرا، وإذا آويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثا وثلاثين واحمدا ثلاثا وثلاثين
وكبرا أربعا وثلاثين ..." وتتابع الروايات وتتوالى الصفحات ولا نرى فاطمة إلا
عاملة مجهدة مثقلة بالأعباء، تمر الأيام ولا يكاد يدخل جوفها طعام وجسدها الضعيف
يرهقها بالمرض أو الحمى، ويسألها نبي الله عن حالها فتقول: "إني لوجعة"،
ثم تقول: "وإنه ليزيدني أني مالي طعام آكله". وتدمع عين النبي المفدى: "يا
بنية أما ترضين أنك سيدة نساء العالمين؟" وحين يمر عليها وهي تطحن بالرحى
وعليها كساء خشن يبكي لمرآها وهو يقول: "تجرعي يا فاطمة مرارة الدنيا لنعيم
الآخرة".
همس الرسول في أذنها وهو في مرضه الأخير فبكت ثم همس ثانية فضحكت، فسألتها السيدة
عائشة تفسير الضحك والبكاء في لحظتين متقاربتين فقالت فاطمة: "ما كنت لأفشي
سر رسول الله". فلما توفاه ربه أعادت عائشة سؤالها، فأخبرتها فاطمة بأن الرسول
كان قد أنبأها بأن الأجل قد اقترب فبكت، ثم أنبأها بإنها أسرع أهله لحوقا به فضحكت.
وعاشت الزهراء بعد وفاة الرسول ستة أشهر تترقب متلهفة لحظة تحقيق النبوءة
لتلحق به ولم يرها أحد تبتسم بعد رحيل النبي المفدى. يزيد من حزنها غضبها النابع
من رؤيتها أن الحق يؤخذ من أصحابه وكان موقفها واضحا حاسما جابهت به أبا بكر وعمر،
لا طمعا في دنيا وهي تعلم أنها على بوابة الرحيل ولكن إحقاقا لما شهدت أنه حق
ومصلحة للإسلام والمسلمين. وحين استشعرت قرب الرحيل سألت صاحبتها أن تسكب لها
غسلا، قالت صاحبتها فسكبت لها فاغتسلت كأحسن ما كانت تغتسل ثم طلبت ثيابها الجديدة
ولبستها ثم قالت: قد اغتسلت فلا يكشف لي أحد كتفا.
ثم شاءت أن توارى في شيء فقالت لها صاحبتها أسماء بنت عميس، إني رأيت في
الحبشة يعملون السرير للمرأة ويشدون النعش بقوائم السرير، فأعجبها ذلك وقالت:
سترتموني ستركن الله. واستقبلت القبلة وهي تبتسم لأول مرة منذ وفاة الرسول المفدى
والأب الحبيب، وحملها عليّ ليلا كما أوصته ليدفنها ومن دون أن يخبر بجنازتها أحدا
والحسن لم يتجاوز الثامنة والحسين لم يتجاوز السابعة وزينب تتعثر في الخامسة وأم
كلثوم دون ذلك.
* فاطمة سيدة نساء أهل الجنة إلا
مريم ابنة عمران،
* إذا كان يوم القيامة نادى مناد: يا معشر الخلائق طأطئوا رؤوسكم حتى تجوز
فاطمة عليها السلام،
* إذا كان يوم القيامة نادى مناد من وراء الحجاب: غضوا أبصاركم عن فاطمة
بنت النبي محمد حتى تمر.
فديتك عمري يا فاطمة بنت محمد، وسلام عليك يا ابنة رسولنا المفدى، يا
زهراء، ومازال أبناء الإسلام يأتون
مرابطين إلى يوم القيامة، يغضبهم سيدتي ما يغضبك، ويريبهم جدتي ما رابك، لأنهم
يعلمون أن ما يغضبك يغضب الرسول وما يغضب الرسول يغضب الله سبحانه وتعالى، الذي أرسل أباك بالهدى ودين الحق مبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله
بإذنه وسراجا منيرا.