الخميس، 30 يونيو 2011

يارمضان بسطاوي :حاولت ترك تعليقي في مدونتك الطيبة ولكني لم أنجح!

ويا سواح: أشكرك على إهتمامك ومتابعتك، ولم أعرف كيف أستخدم الرابط الذي تركته لي؛ أنا في الحاسوب على قدّي جدا ياشباب فلا تؤاخذوني!
الوحش الآلي
 أبشع أنواع الإرهاب هو ذلك الذي يستند إلى قوة السلطة، التي تكون أجهزة الدولة بإمكانياتها الضخمة تحت يدها مجرد أداة طيعة، تتحرك من فورها بلا عقل كالوحش الآلي المبرمج على السحق ببرود، منفذاً الأوامر الشاذة لمن بيدهم ضغط أزراره أو إدارة مفاتيحه.

  نعرف أن إرهاب الدول درجات: فمنها من تكتفي بالسجن والتعذيب ومنها من لا يشبع بأقل من أكل لحم مواطنيه أحياء حتى ينطبق المثل: "من يرى الموت يفرح بالسخونة"، أي من يرى الإبادة والتصفيات الجسدية يحمد الله على الاعتقالات والسجن فقط، إلا أن إرهاب الدولة يظل إرهاباً مركباً أكثر جوراً وتعقيداً، ذلك لأن الدولة ـ وهي الملجأ الذي يلوذ به المواطن لحفظ حقوقه ـ تصبح بالعة لأبسط الحقوق الإنسانية لمواطنيها، تصبح نافية لحق أن يعيش المواطن آمناً مطمئناً محفوظ الحرمات تحت ظل قانون، يعرف المواطن أنه بقدر ما يحميه يحمي البلاد منه، وفق قواعد وأصول مرعية. وحين تعصف الدولة، المفترض أنها الأعقل والأرصن والمالكة لغضبها لأنها مجموع العقل القيادي، حين تعصف بأمن مواطنيها وتسلط عليهم وحوشها الآلية وفق أهواء وغضبات مسؤولين كبار، من المحليين أو "العولميين"، فيجب أن نعرف أن هناك من المواطنين من يشبهون، في أهوائهم وغضباتهم وانفعالاتهم، هؤلاء المسؤولين.

وإذا كان إطلاق الأعيرة النارية غيلة على السائرين في الطرقات جريمة نكراء تستحق العقوبة في حدّها الأقصى، فإن اطلاق الأعيرة النارية والكلاب المتوحشة لتعذيب أو قتل المعتقلين، الأسرى العزل الأمانة في عنق الدولة، جريمة مماثلة، إن لم تكن أكبر، وهي تستحق أيضاً العقوبة في حدّها الأقصى.

إن ممارسة التعذيب على المعتقلين هي شروع في قتل، والقاعدة الإسلامية تقول: "لا حد على معترف بعد ابتلاء"، أي لا عقوبة على من يعترف تحت وطأة التعذيب، ناهيك عن هؤلاء الآلاف الذين ألقوا خلف الأسوار لسنوات من دون تهمة أو قضية أو أحكام قضائية، هؤلاء ضحايا فلسفة: "الضربة الأمنية الاستباقية"، التي تعني: "أنا أسجنك على شأن يمكن تقل أدبك!"، والقتل بالمناسبة، لا يعني فقط القتل بالرصاص، فهناك جرائم قتل واغتيال وتفخيخ بالقلم والكلمات، وهذه الجرائم يمارسها بعض كتابنا  بلا روية ولا رحمة؛ أجل! هناك من يحرض صراحة على نخب  من مفكرين وقياديين وناشطين من ذوي التوجه الإسلامي، فوابل رصاص الكلمات لم ينقطع؛ انهمر وينهمر على التيار الاسلامي كلما أراد أن يقول: إني هنا في شارع الناس ولي ثقلي وعندي للوطن أحلام ورؤية ووجهة نظر. هناك بين العلمانيين كتاب: "قتلة بالنوايا"، يمارسون الإرهاب بالكلمة ويستعدون السلطات على تيار في الأمة راسخ، ويسدون النصيحة، للمسؤولين المحليين و"العولميين"، أن أبطشوا، واجهضوا، ولاحقوا، وأقلقوا المضاجع ولا تتوانوا.

ان كلمة "الإرهاب" كلمة مطاطة، ألقاها الأعداء كرة مسمومة على المسلمين، ليشوهوا الجهاد في فلسطين أولاً، وسائر بقاع الأرض التي تحاول فيها الأغلبية المسلمة الإفلات من ذيل التبعية، ليستعيدوا لرحمة الإسلام موقعها وثقلها الإنساني والسياسي على مائدة المجتمع الدولي.

أيوه أيوه، تفضلوا وخذوا راحتكم بالصدق أو بالإفتراء و احكوا لنا عما حدث والشريعة الإسلامية تحكم، على مدار الزمن الإسلامي، وقولوا الحكايات والنوادر عمن قتل وعمن ظلم، لكن لا تنسوا، حضراتكم بذات الوقت، أن تسهبوا في ذكرالذي حدث، من خرائب ومذابح وانتهاكات التوحش من دون رادع، عندما لم تحكم!


السبت، 25 يونيو 2011

  
  أخذني الحماس فهتفت:   إن الفلافل مصرية خالصة!

  تداعت الذكريات وأخذتني إلى مشهد طريف في حفل الطلبة العرب السنوي بجامعة نيويورك عام 1964 ، أو لعله 1965، وكنت ضمن الفريق الطلابي الذي اختار اسم "أرابيسك" ليعرض فنون الوطن حبيبي الوطن الأكبر، ويتكون من طلبة الدراسات العليا نحو الدكتوراه والماجستير، فهذا قدري غريب العربي على العود، وهذا رجاء علام على الكمان، وهذا فيصل مع الطبلة، وهذا غازي خنكان يقود "الدبكة" الواثقة الشامخة العربية الأبية صائحا: كتف ع الكتف يا شباااااب! وحضرتي في غناء "طلعت يا محلا نورها شمس الشموسة"، و"تحت الرمانة حبي حاكاني....".

كانت هناك، في تلك الآونة، ضجة مناقشات وغضب بيننا بسبب ما كنا نطالعه عن سرقات الكيان الصهيوني وادعاءاته ثقافتنا و إنتحاله فنوننا وتراثنا الشعبي، ومنها محاولاته في نسبة "الدبكة" وباقي الرقصات الشعبية ـ حتى هز الوسط ـ إلى أصوله وتراثه، حتى صار الأمريكان يتصورون أننا نحن الذين أخذنا عنهم وليس العكس، وكانت "الفلافل" موضوع واحد من هذه المزاعم المغيظة، التي تقول في صياغتها السياحية: "تعال إلى إسرائيل وتمتع بأكل الفلافل"، مما دفعني، قبل الغناء، إلى أن أتقدم أمام الميكروفون تحدوني الغيرة الوطنية لأقول: " سيداتي سادتي :إن إسرائيل  تدعي أن الفلافل إسرائيلية، ولكن سيداتي سادتي دعوني أؤكد لكم بكل أمانة أن الفلافل التي هي الطعمية مصرية خالصة!"، ووجدتني عند هذه الفقرة الأخيرة و قد تهدج صوتي بالبكاء ونبرة الخطابة الحماسية العالية: ".. ذا فلافل إز بيورلي إيجيبشاااااااااان ن ن!".

كان الوقت، كما ذكرت، عام 1964، أو لعله 1965، قبل فاجعة خمسة يونيو 1967، وكانت أحاديثنا حول "مؤامرة" تحويل نهر الأردن.. و.. و.. و.. إلى آخر ما كنا نتابعه من قضايا مطبوعات مركز الدكتور العلامة فايز صايغ، المتبتل في دق نواقيس الخطر، وهو يشرح ما يتهددنا في فلسطين وسائر بلاد الأمة العربية!

 آآآآآآآآآآآآآآآآآه، وعلى رأي صديقتي الشامية: "شو مرت على قلبنا أحلام"، كان الوجع فيها هو ما صرنا نصبو إليه اليوم، ونراه حلولا عادلة وأملا عزيزا!

***
من دفتر ملاحظات ألبير كامي مازلت أتذكر، "صفق له الناس طويلا فتساءل: هل قلت شيئا غبيا؟". وعند وليام شكسبير مشهد في مسرحيته "يوليوس قيصر" لغوغاء تحلقوا حول الشاعر سينّا يريدون الفتك به رغم صياحه:" أنا لست سينّا السياسي أنا سينّا الشاعر"، وهم  على إصرارهم: "حسنا اقتلوه لرداءة شعره"!، وفي تصوير الأخطاء المركبة يضرب العراقيون هذا المثل "خسان خوسين بنات معاوية"، شارحين "أولا إسمهما الحسن والحسين وليس خسان خوسين، ثانيا هما أبناء علي بن أبي طالب وليسا بنات معاوية بن أبي سفيان"!، أما الطريف عندنا فهو منطق البليد الذي يطلب بكل بجاحة من الشاطر عدم دخول الإمتحان "عشان أنا مش مذاكر"!، والأكثر طرافة مشهد إثنين يقبع كل واحد منهما في صندوق قمامة ويعاير الآخر بـ "ياقذر"!، ولا يدهشنا تنطع أبو عيون وقحة، الذي يتناسى، ولم ننس، أنه هو الذي كان يطل، إلى جانب الكثيرين من أصدقائه ونخبته، من كل شبابيك عصر حكم مبارك وسوزان، و مع ذلك لا يخجل حضرته أن يأتي اليوم منددا بمن كانوا من "المقرّبين"، كأنه لم يكن منهم، منشدا: "وفي شرفات (ذاك) العصر قد وقف الرجال الزائفون ملمعين مهفهفين، ليلفتوا كل العيون، مثل البغايا حين يقطعن الطريق على وقار العابرين، لكنه زمن ويمضي وسننتصر  وسننتصر وسننتصر........." إلخ إلخ، من مسرحية "الفتى مهران" لعبد الرحمن الشرقاوي التي تم عرضها موسم 1966 من القرن الماضي في شنّة ورنّة!




الخميس، 23 يونيو 2011

ياسيد أبو هاجر: بؤرة الموضوع هي أن الإسلام "هو الميزان" وليس "الموزون". ولا تدخلني في رواقك ولا في رواق غيرك.

سبحان الله!

الأربعاء، 22 يونيو 2011

تأملات في حديقة فيها شجرة وفيها عصفورة
ضاق صدري فأخذت نفسي إلى الحديقة التي أرتاح فيها. وحدي جلست مع العصافير التي راحت تتشاقى من حولي تتنافس في إلتقاط ما تراه ملائما لذائقتها الغذائية تخطفها برشاقة وتجري بها مرحة كيّادة تغيظ من سبقت من لدّاتها العصافير هاربة إلى أعلى الشجرة، مراقبة للهوها تارة ولتموجات النيل حبيبي تارة أخرى إنفرجت أساريري فحمدت الله على شفائي، ولو مؤقتا، من عادم "التوك شو" ونشع الكثير مما تسطره الأقلام، وهدأت بالتأمل فيما جرى وما يجري وما تتجاذبه الأطراف ليجري، ووجدتني العصافير مثلها ألتقط ما يحلو لي من خاطرات وأدونها وأنا تحت الشجرة:

#  دأب كثير من العلمانيين على التأفف من تفاهة القضايا التي يشغل المسلمون بها بالهم، بينما ينشغل الغرب بالتقدم العلمي وجولات الفضاء إلى زحل والمريخ والمشتري! ويتهكم هؤلاء العلمانيون على قضايا المسلمين من مثل مسألة تحليل الربا وتحريمه، وزي المرأة إلى آخر ما يزعمون.

# والرد على هذا التأفف العلماني طويل ومليء بالزوايا لكننا نختصر ونقول ببساطة إنه من غير الصحيح أن كل ما يشغل الغرب هو الفضاء وهموم التقدم العلمي فلحضرته مسائل تافهة مساوية لذلك في الاهتمام وضرب الأمثلة على ذلك لا يعد ولا يحصى،  وكذلك غير صحيح أن ما يعطلنا نحن عن ارتياد الفضاء وتحقيق الإنجازات العلمية الباهرة هو مناقشاتنا في تحليل الربا وتحريمه وزي المرأة المسلمة وما إلى ذلك، بحيث أننا لو كففنا عن هذا الكلام سينطلق بنا الصاروخ فورا إلى عين الشمس.

# منذ مطلع القرن العشرين والعلمانيون يدقون رؤوسنا، يهدمون ثقتنا بشخصيتنا الإسلامية السوية لنصبح، بدعاوى التغريب، مسخا مشوها متخلفا فاقدا خط الرجعة إلى الصحة التي تولد الإبداع والنهضة والتقدم والتغلب على الفقر والجهل والمرض. فلم تكن دعوى التغريب هذه تتضمن أبدا برنامجا ينهضنا على شاكلة النهضة العلمية الحقة المفيدة التي حققتها اليابان والصين وحتى كوريا. ولم يكن هذا الإغفال سهوا بل كان خطة يعرف العلمانيون جيدا أنها كانت مرسومة بدقة. لم يكن مسموحا لمصر ولا لأي بلد عربي وإسلامي أن يرتفع عن مستوى مسح أحذية سيده الغرب. وأمامنا هذا الرفض الهستيري لبرنامج إيران النووي وغض البصر في الوقت نفسه عن النشاط النووي السري والعلني للكيان الصهيوني، فهل يتصور العلمانيون حقا أن إباحة الربا وإغماض العيون عن تعرية شعور وأبدان المسلمات سوف يجلي عنا غمة التخلف العلمي، ويكون بإمكاننا الإمساك بالخيط السحري للصعود إلى القمر؟ أم سيواصل الغرب سلسلة اغتيال علماءنا كلما لاحت من بينهم عبقرية يفاجئهم بريقها خارج سيطرتهم؟

#  أجد هنا من المناسب التنويه عن كراسات المستشار الأمين الفاضل "طارق البشري" التي نشرها منذ سنوات تحت عنوان موحد "في المسألة الإسلامية المعاصرة"، وهي تجميع لعدد من أبحاثه ومقالاته التي ألقاها في ندوات لجمهور محدود، أو نشرها في مجلات وصحف لا تصل إليها كل يد، فهذا التجميع مع التصنيف يتيح الفرصة لجمهور أوسع التحرك عقليا، والانتعاش ذهنيا مع مناقشته موضوعات مختلفة تصور البعض أن أبواب مناقشتها قد أغلقت بأحكام نهائية، مثل موضوع "المعاصرة" و"الوافد والموروث" و"الإصلاح" و"التحديث" و"التطور" و"الغلو" و"هل غابت الشريعة بعد عهد الراشدين"، إلى آخر كل هذه العقد المربوطة في حناجر العلمانيين بحبال المقولات المستهلكة التي "تزغطوها" بلا نظرة ثانية لمراجعة أو تفكير ويواصلون "تزغيطها" لأجيالهم الشابة، يزمرون بها في كل مجال للنشر أو الكلام أو التعليقات. و"التزغيط" كلمة تعني دفس الطعام بالقوة داخل الجوف.

 #  يقول المستشار الفاضل طارق البشري في كراسة "ماهية المعاصرة": "إن أهم ما يواجه العالم العربي الإسلامي يرد من المواجهة بين أصول الحضارة العربية الإسلامية، التي سادت حتى بدايات القرن التاسع عشر دون منازع، والحضارة الغربية التي وفدت مع تغلغل النفوذ الغربي السياسي والاقتصادي والعسكري منذ بداية ذلك القرن. والتاريخ العربي الإسلامي يرتبط، خلال القرنين الأخيرين، بهذه المواجهة في كل جوانبه. وعلى مدى القرن التاسع عشر، فإن المواجهة السياسية والعسكرية قد شحذت همم المفكرين والقادة السياسيين العرب والمسلمين، يفتشون عن مكامن القوة في الغرب ويحاولون نقلها وعن مكامن الضعف في أنفسهم ويعملون على تلافيها. ثم كان للثورة العسكرية والسياسية الغربية المؤيدة بالتفوق العلمي والتنظيمي، ما اختل به ميزان التقدير في أيدي هؤلاء المفكرين والقادة؛ من ناحية مدى الجبر والاختيار في تحديد ما يأخذونه من الغرب وما يدعون من نظمهم وأفكارهم وأصول حضارتهم وعقائدهم. وجاء الاقتحام العسكري والسياسي فاضطربت تماما معايير الانتقاء لما يفيد العرب والمسلمين من منجزات الغرب، وشلت القدرة على التمييز بين النافع وغير النافع، وطمست الفروق بين التجديد والتقليد وبين النهوض والتغيير والإصلاح والاستبدال".

#  في هذه الكراسة نلحظ غضب طارق البشري شديدا لكنه هادئ يعبر عنه بالفصاحة والحجة والدليل والتدقيق في التصويب، والحرص البالغ في انتقاء الكلمات، التي يضطر أحيانا إلى نحتها، فهو لا يفور طاعنا ضيق الصدر بل يسدد مصطلح الرؤية ليذهب إلى موقعه مرتاحا، يقول: ".. نحن نتساءل الآن عما نستدعي من التراث، بعد أن كان آباؤنا يتساءلون عما يأخذون من الوافد..." ويقول عن "الإسلام" مصححا لمنهج التناول عند العلمانيين بأزيائهم المتنوعة والمختلفة: "... فهو الميزان وليس الموزون في ما تأخذ الجماعة وما تدع"، ويقول: "... وما يتعين الحذر منه بداءة هو هذا الترادف والتلازم بين الوافد والعصري، وبين الموروث والرجعي...". ثم ينحت هذا التعبير الحاسم والجريء الذي لم أقرأه عند أحد غيره: "الإصلاح الضار" ليعبر به عن فكرة الاندفاع، الذي شهده تاريخنا الحديث نحو كل لافتة براقة تحمل كلمة إصلاح بينما تكون هذه اللافتة في أحوالنا ضلالا بعيدا عن الإصلاح الحق، ليس لأن اللافتة مزيفة فحسب، ولكن لكونها إعلانا عن دواء لا يلائم حالة مريضنا فيقتله!


السبت، 11 يونيو 2011

 

حضرة النمل


«حضرة النمل»: أعني بها حضوره الدائم المرادف لكلمة «كاريزما» الأجنبية التي شاع استعمالها للتعبير عن الشخصيات ذات الحضور الطاغي المؤثر في الجماهير.

«النمل» طبعا لديه «كاريزما» لا تتأتى لمخلوق آخر ـ لم يمكنني إطلاق تصنيف حشرة عليه لتداعياتها السلبية ـ النمل مجموع، كتلة، هيئة، منظمة، حكومة، دولة، أمة، لا يمكن أن نراه فردا، فحتى عندما نرى نملة ندرك على الفور أن وجودها المفرد دلالة على وجود الجمع، الحشد، المجموع. معجبة أنا بالنمل. شديدة الإعجاب. هذا مخلوق لا يكتئب، ولا يحبط، ولا ييأس، ولا يخاف. تقتله بالمئات، بالآلاف، بالمليون، بالبليون، وهو غير مكترث. تعوق مساره وتسد منافذه وهو غير مكترث، لأنه شديد التركيز في الهدف مستوعب في مهامه، واثق الخطوة يمشي جنديا جادا ملتزما. لا يهتم بالعدوان الخارجي: لا معاتبة، ولا أخذ على الخاطر، هدفه تعويض الخسائر فورا لمتابعة مهامه.

يدخل مفتاح الإضاءة في سرب طويل صاعد وسرب هابط. أضع صمغا ليسد المنافذ ثم شريطا لاصقا يؤكد الغلق. يتوقف السرب الصاعد ويعود نازلا مع النازل. أبتسم: ها قد انتصرت! أذهب وأعود لأجد دائرة من خبرائه تدور حول المفتاح ثم تتلامس رؤوسها كأنها تتشاور في كيفية اختراق التحصين الجديد. لا غضب، لا عصبية، ولا ارتباك. مواجهة للواقع الجديد ومشاورة في تغييره أو البحث عن بدائل. عندما تلسعني نملة وجدتها تسير على يدي أنظر إليها، فأتأكد من براءتها من الحقد والانتقام، لقد كانت تبحث فقط عن فائدة لها على جلدي من منظور موضوعي بحت، مثلي مثل أي جدار أو أرض أو أي سطح آخر تستكشف فيه فائدة لتدعو إليه حشدها: «يا أيها النمل تعال هنا!»

النمل لا يبكي ولا يضحك. دؤوب. العمل وسيلة وغاية. لعله كذلك لا ينام ولا يسكن ـ ولو في بياته الشتوي ـ هو حركة دائمة. قال لي سائق التاكسي: إن النحل يغضب إذا ازداد عليه الحر، فيترك المكان ويرحل إلى حيث المكان الرطب، لينجز عمله ويفرز العسل. النحل مدلل. النمل شيء آخر: لا تهمه أية ظروف بيئية، ولو كانت الزلازل والبراكين والعواصف، هذا ما يتبدى لي في ملامح شخصيته. النمل مخلوق لا يثير تقززي حتى لو وجدته في سكر أو عسل أو طعام. ما فائدته للإنسان؟ لا أعرف. له أضراره بالتأكيد لكن ربما كانت فائدته تأتي من كونه قدوة تحتذى في العمل والدأب والصبر.

ماذا يفعل داخل الموقد الكهربائي، عند الأسلاك الخطرة؟ يكمن عند سلك الغلاية، فأضع بودرة «البوريك» لتعوق تقدمه. «البوريك» يصده ولا يبيده، وأنا لا أود قتله عمدا إلا اضطرارا. كيف استقر بداخل تلك الأدوات الكهربائية متصورا الأمان عند الأسلاك والحرارة. ألا تلسعه درجة الغليان؟ ألا يتعظ من شهدائه القتلى الذين أدى بهم المسار إلى الغرق في ماء وعاء الغلاية؟ يوميا أسكب الماء وأنظف الوعاء منه، وأسد المنافذ التي أتصورها سبيله في الزحف، ولا تأخذني أية رحمة في قتل فلول الهاربين، ومع ذلك فهو لا يفتأ يعاود المقاومة بهدوء، ومن دون أية تصريحات صاخبة حماسية تتحداني، أو وقوف حدادا على الصرعى. لا بكاء. لا صراخ. لا نهنهة. ما أغربه! ألا تؤلمه أبدا الضحايا التي تؤلمني أنا: جلادها وسفاحها؟، أنا أساسا لست في دائرة اهتمامه. لا يعبأ بي ولا يرجو مني رجاء، هو في وشوشته مع خبرائه، كأن ليس في الوجود سواه، وهو في مسيرته وانصياعه لجدوله الزمني الأبدي في العمل الذي لا ينتهي.

الأربعاء، 8 يونيو 2011

فيلم الفاجومي وصنعة تشويه المحترمين

يوم أُعلنت الهزيمة باسم النكسة في يونيو 1967 وجد الشاعر أحمد فؤاد نجم نفسه يتقيأ دما ومع هذه الحالة الجسمانية المفاجئة جلس يكتب قصيدته الشهيرة "الحمد لله خبطنا تحت باططنا"، التي كلفته 1968 قرارا بالإعتقال مدى الحياة، إذ حين سمعها عبد الناصر قال غاضبا لشعراوي جمعة وزير الداخلية: "في ناس تقول الكلام ده ولسّه واقفة على رجليها؟"، قاصدا ما تضمنته القصيدة من جرأة التشخيص: "يا أهل مصر المحمية بالحرامية\ الفول كتير والطعمية\ والبر عمار\والعيشة معدن وآهي ماشية آخر آشية مدام جنابه والحاشية بكروش وكتار.............................إيه يعني شعب ف ليل ذله ضايع كله\ ده كفاية بس أما تقول له إحنا الثوار\ وكفاية أسيادنا البعدا عايشين سعدا\ بفضل ناس تملا المعدة وتقول أشعار\ أشعار تمجّد وتماين حتى الخاين\ وإن شاالله يخربها مداين عبد الجبار!". كان طبيعيا أن تخرج القصيدة الترجمة الفورية لقدر عنيف من الغضب والألم أحسّه الشعب المصري واستنزف من جوف الشاعر الدم. وعندما تسللت القصيدة إلى الناس تسللت معها عشرات القصائد السياسية المُغنّاه من مثل: "بقرة حاحا"، "ميكي"، "يعيش أهل بلدي"، "يا مرحرح"،( وهي صورة ساخرة للشريحة الملاصقة للسلطة السياسية الناصرية من مؤيدي الحل السلمي "تموت ف الدبلوماسية وتخاف م الفدائيين")، "القضية"، (صورة دقيقة ومؤلمة لإرهاب السلطة السياسية ومنهجها في تلفيق القضايا ضد المواطنين، " والقضية يا قضايا\ بالمكايد والوشاية\ دبروها وفصلوها\ بالمقاس لبست قفايا....\ الحكاية إن البلد مش ملك ناسها\ والخلايق ف البلد مش مالكة راسها\ والبلد أصلا بلدنا مش عليلة\ البلد علّتها جاية من خرسها").

مع القصائد فاجأ الناس بنيان فني باهر الوعي والجمال مكوّن من شاعر وموسيقي مغن، وبدأت دوائر المثقفين تردد "إمام\نجم" بدهشة وتعجب؛ كيف تأتّى لهذا الكيان الفني أن يقول ببساطة ورونقٍ ما يجب أن يقال وكما يجب أن يقال وتماما في توقيته المطلوب من دونٍ حسابات خوف أو وجل؟

 كانت حلقات الإستماع تتجمع في بيوت من يملكون أجهزة تسجيل ومنديل الأمان من السلطة، (كان إمتلاك جهاز تسجيل وقتها يلخص على الفور النوعية القادرة ماليا على هذا الإمتلاك مضافا إليه امتلاك منديل أمان السلطة الذي لم يتوفر إلا للحلقات الثقافية والإعلامية المتاخمة لها والمتعاونة مع وزير الداخلية، وكانت السلطة، بواسطة هؤلاء، تريد أن تُشبع حب استطلاعها عن هذا الكيان الفني الذي "قب" من تحت الأرض، مصرّحا بنبض الشعب، خارج إرادتها لتكون في موقع يمكنها من السيطرة عليه والخسف به تحت الأرض مرّة أخرى عندما ترى أن الوقت قد آن لفعل ذلك. وهكذا إستأثر بالفرصة الأولى للإستماع إلى الكيان الفني "إمام\نجم" جمهور كان في معظم الأحيان يستحق أول من يستحق السياط الملتهبة التي كانت تتهاوى في جلال ودأب من صوت الشاعر نجم والموسيقي المغني الشيخ إمام، فتقع واثقة في مكانها حيث كان يجب أن تكون. قليل جدا من هذا الجمهور الذي اعترف لنفسه بأن إمام ونجم  يقدمان المواجهة الصادقة بنقاء تام واستبسال كامل وأن عليهم أن يتقبلوا هذه المواجهة بالعرفان ويدعمونها إلى حد الفداء أو يناصبونها العداء ويبذلون ما في وسعهم للقضاء عليها. وانقسمت تلك القلة بالفعل إلى قسمين: المدعّمون والمقوّضون، الذين بعد فشل مصائد الإغراء إشتدّت حملاتهم للتهوين من قيمة البنيان الفني الراسخ، وأفردت الصفحات لمقالات الضرب والهجوم والتشويه والإتهامات الشخصية في الصحف والمجلات كافة، وضُرب الحصار الإقتصادي بقصد التجويع، رغم أن الجوع كان زميلا ملازما لهما متآلفا معهما يزيحانه بأقل زاد وأبسط احتياج، لايقيم زهدهما أدنى إهتمام له، (كان محمد حسنين هيكل قد نصح في البداية بإشباعهما باعتبار أن فنهما صرخة جوع!)، فالحقيقة أن أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام عيسى برزا من تحت طحن الرحى ليعكسا رؤية النبض الشعبي بكل روعته وفصاحته وبلاغته من دون مواربة.

عندما تفجرت الحركة الطلابية في يناير 1972 كان الشيخ والشاعر خارجين لتوّهما من معتقل عبد الناصر، ( بعد قضاء ثلاث سنوات فحسب من قراره حبسهما "مدى الحياة"  فشاء الله أن يكون "المدى" هو  مدى حياة عبد الناصر!)، وفوجئا بأغنياتهما شعارات يرفعها الطلاب: "ماتقوليش ماتعيدليش\ حرب الشعب وغيرها ما فيش!"، ووجدا الفرق الشاسع بين هذه الجمهرة من ضمير الشعب المصري وبين تلك الجماعات الزنخة التي كانت تحوطه قبل الإعتقال ولا يجد بينهم سوى "اليويو"؛ الذي " أستك لسانك فارد ولامم حسب الأبيّج يامهلباتي!" و"الحلاويلا" الذي "يتمركس بعض الأيام ويتمسلم بعض الأيام ويصاحب كل الحكام وبستاشر ملّه" و "القواد الفصيح" المستعد دائما لبيع وعرض بنات أفكاره تحت الطلب!

وإذا كانت جمهرة النبض الشعبي الصادق قد وجدت في شعر وغناء الكيان الفني "نجم\إمام" كل ما افتقدته في أجهزة الإعلام  فنا وصدقا، على طول العهد الناصري والعهد الساداتي وعهد المخلوع محمد حسني مبارك، فقد وجد أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام عيسى في النبض الشعبي المتبدي والمتصاعد والمعبر عن نفسه ببطولة فذة رغم البروج المشيّدة: "فرحة هلّت واحنا حزانى!".

***
قدم الشاعر أحمد فؤاد نجم في سيرته الذاتية "الفاجومي" فنا مكتوبا محكما مجدولا باللباقة والذكاء، يسرد النزوات، عرضا، مستعينا بظرف الصياغة لتهوينٍ الشائن، ملفلفا النقائص في براءة العفوية مستورة بصدق المعترف، غير متنصل وغير متباه، من أجل ذلك أجد فيلم "الفاجومي"، الذي ألفه وأخرجه عصام الشماع، منوها أنه مأخوذ من مذكرات الشاعر أحمد فؤاد نجم ومتسميا بعنوانها، لا يعدو كونه نهشا في قامة لم يفلح في الإرتقاء إليها، ولا يجوز أن نرى فيه، بكل مشاهد المضاجعات الجنسية الفجة وزوايا الإثارة الرخيصة والإنفلات القبيح غير المبرر وغير الأمين وغير المتوافق مع اللقطات الأرشيفية المقحمة عن الثورة والثوار، سوى شئ حقير فاجر وكاذب، ولقد خسر بطله خالد الصاوي كل ماجمعه من نجاح عن دوره في أهل كايرو، وظهر في هذا القرف المهين زاعقا فظا بشعا سميك الظل لا يمت، بكل كتلته الدهنية، بأي صلة بشاعر نحيف كما ورقة السيجارة كبير القيمة كما أهرامات الجيزة. والقول ينطبق إلى حد بعيد على الممثل صلاح عبد الله الذي توهم دور الشيخ إمام فلم ير من هذا الفنان العظيم سوى فقدان البصر!




الخميس، 2 يونيو 2011

فيلم الفاجومي هو: صنعة تشويه المحترمين.
شئ حقير وفاجر وكاذب، ولقد خسر خالد الصاوي كل ماجمعه من نجاح عن دوره في أهل كايرو، وظهر في هذا القرف فظا بشعا سميك الظل لا يمت، بكل كتلته الدهنية، بأي صلة بشاعر نحيف كما ورقة السيجارة كبير القيمة كما أهرامات الجيزة. والقول ينطبق إلى حد بعيد على الممثل صلاح عبد الله الذي أدى دور الشيخ إمام فلم ير من هذا الفنان العظيم سوى فقدان البصر!

ما أبشعهم من فرقة رخيصة غبية يتزعمها فاشل ينتحل "التأليف" بمعناه "التحريف والتخريف" و "الإخراج" بمدلوله المقزز!

مرض الجّـــنكزة!
 أستغرب جدا التوق إلى أساليب الإستبداد والتوحش تحت زعم إستعادة هيبة الدولة؛ هذا الذي أسميه "مرض الجنكزة"، نسبة إلى السفاح التاريخي الشهير جنكيز خان!
المدهش أن هذا التوق يصدر معظمه، بإلحاح وتحريض، من كتاب ومثقفين يرفضون توخي الحذر (وهو مطلوب) من سوء التقدير وظلم الناس ويسمونه: "رخاوة"! فنرى هذا يهيب  برئيس الوزراء أن يظهر "العين الحمراء"، وتلك تنادي بالإعدام العلني وتطبيق قانون الطوارئ، وذاك ينظر في المرآة ويصافح نفسه مبديا المصالحة مع "الآخر"، بينما هو في نداء متواصل للضرب "بيد من حديد" لقمع "الآخر" الفعلي الكائن خارج مرآته!

 الحزم شئ و"العين الحمراء" شئ آخر فهي: الترويع، و تطبيق القانون غير"الضرب بيد من حديد" الذي هو: تجاوز عدل القوانين؛ ومثل هذا التوجه الإجرامي هو ما إقترفه حبيب العادلي بالمشاورة مع رموز الزمن الإستبدادي وقد رفضته جموع الشعب المصري منذ 25 يناير حتى أسقطته 11 فبراير 2011.

 "العين الحمراء" و "الضرب بيد من حديد" هي التي شنقت بجبروتها  الشابين الشهيدين العاملين المعدمين "خميس" و "البقري" في 17 أغسطس 1952 بتهمة تزعم مظاهرة عمالية ( وإن كانت لتأييد حركة الضباط والقائد العام محمد نجيب)!،"العين الحمراء" و"الضرب بيد من حديد" هي التي سمحت لجمال عبد الناصر الإفتخار بإعتقال 18 ألف مواطن في ليلة واحدة عام 1965، وهي التي زيّنت لمحمد أنور السادات إعتقال 1536 شخصية في فجر واحد، من أقطاب الثقافة والسياسة والدين والرأي فيما اشتهر بمصطلح "هجمة إعتقالات سبتمبر 1981"، وكانت عاقبتها قتل فاعلها بعين أشد إحمرارا ويد أثقل حديدا!

 فالإفساد والبربرية والدموية، قلّت أو كثرت جرم وظلم وحرام، ومن قتل نفسا بغير حق فكأنما قتل الناس جميعا، وإذا كان هناك من يرفع  صوته افتخارا بفرعون وقورش والحجاج، ويعظم نابليون بونابرت، ويحتفي بمحمد علي باشا، الذي ذبح ضيوفه من المماليك على مائدة طعامه، وهم عزل بعد أن خلعوا أسلحتهم احتراما لعهد الأمان، ونجد في ذكرى مرور 200 سنة على عهده الأسود، من يبرر له جريمته الشنعاء ويسميها "الجريمة الرائعة" ليعطيه الحق والعذر مع لقب باني مصر الحديثة التنويرية، وإذا كان هناك من لا يزال يرى في صدام حسين وعبد الناصر وحسني مبارك ايجابيات تعوض جرائمهم ضد الإنسانية، وتخول لهم اغتيال كرامة الوطن والمواطنين واهدار فرص النهضة والتحرر الحقيقي من ذل التبعية والجهل والفقر والمرض، وتبرئتهم من مسؤولية ما كنا قد وصلنا إليه من خنوع واستسلام وانسحاق، وضياع وخراب والتباسات وانكسار تحت أقدام احتلال الهيمنة الأميركية المتوحشة، التي توغلت في حشايانا مثل الإيدز والسرطانات المفترسة، ترى الظلم فينا عدلاً، والاستباحة أمنا، والانتهاكات أمانا، ولا تفتأ تذكّرنا بأن عصابة الكيان الصهيوني هم أبطال السلام وصنّاعه، فلماذا لا يبرز وجه جنكيز خان ، بل ومعه قريبه هولاكو وجها رائدا في منهج المطالبين بالعين الحمراء وسياسة الضرب بيد من حديد في مواجهة الشعب المصري و مطالبات أبناء ثورته؟

لقد كان جنكيز خان، 1155 ـ1227م، وثنيا همجيا لم تهذبه عقيدة سماوية عليا، ولم يدّع انتماء لأفكار حضارية حرة ثوريه ديمقراطية مدنية تنويرية حداثية إنسانية.. الخ الخ.

لقد تربى جنكيز خان على قيم مجتمعه القبلي الجاهلي البربري ليكون وحشا كاسرا، يعلو قدره كلما اثبت قوة ساعده في البطش والسحق وسفك دماء من يعارضه أو يعترض طريقه. وعندما اجتاح ديار المسلمين منهيا دولة خوارزم الإسلامية الكبرى، كان يسأل الناس ما هو دينكم وماذا يقول؟ وعندما يسمع منهم الإجابة: «ديننا الإسلام الذي هو كذا وكذا»، يتلفت حوله ويرد متهكما: «لا أرى أنكم تقيمون دينكم، أنا نقمة ربكم عليكم»!

عندما كنت، في العهد الساداتي، معتقلة ظلما في سجن القناطر للنساء يناير 1975، مأخوذة بقسوة من رضيعتي،" نوارة الإنتصار أحمد فؤاد نجم"، قبل الفطام، سمحوا لنا باستعارة بعض الكتب من مكتبة السجن، ووقع في يدي كتاب رائع عن جنكيز خان، نسيت عنوانه واسم مؤلفه، وهالني، أو عزاني، ما جاء فيه من تفاصيل عن السياسة التي اتبعها لينجز ابادته لأهل خوارزم، وهو يجوس خلال ديارها، إذ كانت كل قرية تسمع أخبار المذابح التي تحدث في القرية الملاصقة، تحكيها وتأسف لها، لكنها كانت لا تفعل أكثر من مصمصة الشفاه، وتعقد العزم على «حكمة» عدم المقاومة لتتجنب الإبادة، حتى يأتي دورها، فيفعل بها السفاح تماما مثلما فعل بجارتها السابقة من افساد وقتل وذبح وهدم للمساجد وتدنيس للمصاحف.. وهلم جرا... إلى ان زهق السفاح من جهد القتل والإبادة بنفسه فقرر ان تتكفل كل قرية بقتل نفسها بنفسها، فكان يدخل القرية ويستدعي سادتها وكبراءها وأعيانها (ومثقفيها وكتابها وشعرائها بالطبع) ويطلب منهم ارشاده على كنوز القرية المخبوءة، ثم يكلفهم بذبح أهلها، فيسارع هؤلاء السادة والكبراء بالاستجابة، ومن فورهم يذبحون أهل قريتهم بأيديهم مع التفنن والإتقان وابتكار منطق لتبرير الجرائم، حتى يحظوا باعجاب جنكيز خان، متصورين أنهم بهذه الطاعة الفاسدة سوف ينجون من بطشه، ولكنهم ما يكادون يفرغون من عملهم الإجرامي البشع، حتى يبتسم جنكيز خان في رضا، ثم يأمر جنوده بالاجهاز على هؤلاء السادة، الذين بقتلهم ذويهم يكونون قد اختصروا لجنود جنكيز خان مهمة القتل الشاقة إلى قتل عددهم الضئيل!

ولقد امتدت الموجة المغولية وابنة عمها التترية، بعد جنكيز خان على يد هولاكو، 1217 ـ 1265م، تهلك الحرث والنسل حتى أوقفها «قطز»، بطل دولة المماليك المصرية، بانتصار عين جالوت عام 1260م.

اعتنق المغول والتتار الإسلام فيما بعد، لكن «الجنكيزية» بقيت رمزا للتوحش والهمجية، لا نراها فقط في طغيان الدول وجبروت الحكام، لكننا نجدها نزعة ظلم غاشم موجودة عند الكثيرين بنسب متفاوتة، بل ونلاحظها عند بعض المثقفين والكتاب والأدباء والمفكرين الذين يزعمون في ندواتهم ،من دون حياء،  رفضهم الصارخ للظلم وكبت الحريات بينما طفح مرض "الجنكزة" يغطيهم من الرأس إلى القدم!