الثلاثاء، 17 ديسمبر 2013



حكاية أديبة فرّت إلى الله

يوم الخميس 4 يناير 1996 كان رحيل الكاتبة الأديبة "أليفة رفعت" عن دنيانا ونشرت أسرتها نعيها في صفحة الوفيات باسمها الأصلي "فاطمة عبدالله رفعت" فلم ينتبه أحد.

قرأت اسمها "أليفة رفعت" لأول مرة في عمود يوميات الأستاذ أحمد بهاء الدين،رحمه الله، حين نوّه بحماس عنها بعد أن قرأها مترجمة إلى الإنجليزية، فحرصت أن أقرأها  بأصلها في اللغة العربية، فكثيرا ما تعطي الترجمة رونقا وطلاوة لأعمال نجدها ركيكة جدا في لغتها الأصلية، وحين وجدت في أحد أعداد مجلة الهلال قصة بقلمها فرحت. بدأت أقرأ والسطور تشدني بشغف، كانت القصة  حول امرأة متزوجة من رجل متزوج في بيئة بدوية. لم يهمني الموضوع بقدر اللغة والأسلوب والإيقاع وكل هذه الأشياء التي نسميها "الأدوات الفنية" في الكتابة؛ لغة قوية طيعة سلسة تتنقل رشيقة عبر مفارقات تبعث على الإبتسام والضحكة الخافتة حتى في أشد المنحنيات ألما ووجعا. بعدها واظبت على قراءة ماتنشره لها مجلة الهلال وما زلت أذكر قصتها البديعة "عيون بهية"، هلال أكتوبر 1990، التي تدور على لسان فلاحة عجوز مريضة اسمها بهية تملي خطابا إلى إبنتها تحكي في سياقه كل المظالم التي انهالت عليها والقهر الذي عانت منه لمجرد كونها أنثى، ومهما أتى الصوت يملؤه الحزن والصورة مريرة والتجربة موجعة  لايمكن أن نغفل عن الروح المازحة واللقطات الفكهة واللمسات المتهكمة التي تمثل الأرضية الثابتة لفن أليفة رفعت. المؤسف أن فن أليفة رفعت تم تجنيبه وأصبحت تتلخص في كونها شاهدة على حرمان المرأة العربية ومن هذا المنطلق كان السعي الحثيث لترجمتها.

كان من الطبيعي أن أسعى لمقابلتها، هاتفتها قبل وفاتها بشهور ردت بصوت واهن حين سألتها: حضرتك الأستاذة أليفة رفعت؟ وقلت إنني أبحث عن كتبها ولا أجدها، أجابتني :" أدب إيه؟ قُطُع! أنا تبت خلاص عن الكتابة واستغفرت ربنا أمام الكعبة..."، قلت: "لا أفهم!"، تدفقت:"الكتابة جرت عليّ المصائب والكوارث...الرجل الإنجليزي الذي ترجم كتبي ضربني في لندن وبهدلني، كان عايزني أكتب عن شذوذ النساء وأنا رفضت لأن الجنس في كتابتي وسيلة للتعبير مش غاية قذرة، أنا أردت الدفاع عن المرأة لكن هم كان لهم غرض آخر، غرض استغلالي لطعن أهلي وديني، معقول أنا أطعن الإسلام؟ خطفوا مني جواز سفري لإرغامي على السفر إلى إسرائيل لإلقاء محاضرة أهاجم الإسلام، قلت: لأ! أنا كنت بكتابتي أحارب تقاليد غلط ده كان هدفي بس، أرهبوني وعشت أيام رعب وأنقذتني السفارة المصرية، ماصدقت وصلت مصر سافرت للكعبة فرارا إلى الله أستغفره وأتوب إليه....".

سألتها موعدا للقائها قالت: "لا..لا.. أرجوك أنا لا أقابل أحدا أنا مريضة جدا..."، وعن كتبها: "أهم تحت رجلي متكومين بس ماأقدرش أمد يدي، لا أستطيع الحركة وآلامي شديدة....".

عبرت عن لهفتي بصدق وعبرت عن رفضها تدخلي لمد يد العون، لكنها تحت إلحاحي رضيت أن أطلبها بعد فترة لعلها تستطيع ترتيب لقاء. طلبت رقمها مرة ومرات حتى أجابني صوت إبنها: "البقاء لله"، فتمتمت: رحمها الله.


للقاصي والداني:

سدد مجدي الجلاد اليوم مديونيته المستحقة لي، والباقية منذ إبريل 2013 وقدرها 3 آلاف جنيه؛ وذلك بواسطة الكاتب الشاب محمد فتحي، الذي إستطاع بلطفه أن ينقذ مجدي الجلاد من ذنب إغتصاب الحق. والحمد لله رب العالمين.
                                                       صافي ناز كاظم
                                                    الثلاثاء 17 ديسمبر                                                                 2013

الأحد، 15 ديسمبر 2013

النعمة الكبرى:


كان أحد السلف أقرع الرأس أبرص البدن أعمى العينين مشلول القدمين واليدين وكان يقول: "الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به كثيراً ممن خلق، وفضلني تفضيلاً ".


فمر به رجل فقال له: مما عافاك؟ أعمى وأبرص وأقرع ومشلول فمما عافاك؟

فأجابه: ويحك يا رجل؛ جعل لي لساناً ذاكراً، وقلباً شاكراً، وبدناً على البلاء صابراً.


إبتسام الهواري:

 ذكريات الصبا الغالي

لايمكن إقتران اسمها مع الموت فهي إبتسام الهواري ، النموذج الصالح لمولودة تفتتح بميلادها ، 23 يولية 1935  ، برج الأسد : الحركة الدائبة والتلفت مفتوح العينين بحثا عن مستغيث لإغاثته وطالب عون لإعانته وتائه في حيرته لتكون مصباح هدايته إلى السبيل النافع. صاحبة قلم فصيح تتكلم لغته بالعقل وبالإختصار مغلبا الفائدة على الزركشة. إيثار بلا حدود ، تتشبث بالعطاء كأنه طوق نجاتها من الغرق في بحار الأنذال الأشحاء  الناكرين الناس في ساعة العسرة ، المولين أدبارهم للحق والعدل والمواساة.

إبتسام الهواري تخطفها لحظة إنتهاء الأجل بسرعة إقبالها على الخير. يا إلهي كانت معي على الهاتف فكيف.....؟

أستغفر الله!

تأتي إلينا ، في أخبار اليوم ، من الإسكندرية متخرجة لفورها في جامعتها من كلية الآداب قسم اللغة العربية عام 1957 ، تقتحمنا بصوتها المفوّه ، في إجتماعات مجلة الجيل برئاسة موسى صبري ، تشارك بحماس في الإضافات والتقييمات والإقتراحات ، يفرح بها من يراها متعاونة في العمل الجماعي ويغتاظ منها من يراها مُتريّســة. أتآلف مع شخصيتها المستقيمة الصريحة الأمينة التي لاعوج فيها ولاخبث ولا لؤم ولا ضغينة وتصبح منذ ذلك الحين صديقتي في قلب القلب، على حد وصف هاملت لصديقه هوراشيو.

تسافر أول رحلة صحفية لها إلى السويد 1958 وتعود بنجاح وتوفيق، وأظل أشاكسها بنطق السويد لإسمها "إبتسن" ،أناديها به حتى آخر مكالمة هاتفية بيننا ، نعم ! مكالمات هاتفية هي كل زياراتنا التي حرمتني من رؤيتها منذ 2009 ، حين كانت لي آخر زيارة خاطفة لها ، فلم تعد الزيارات متاحة باليسر القديم بين بيتها في برج الزمالك وبيتي في مساكن أساتذة جامعة عين شمس عند قصر الزعفران ، يحجزني عن زيارتها توتري المتصاعد من وحشية الطرقات، وتأخذها مشاغلها المعطاءة ومسؤولياتها نحو الآخرين.

 1960 تسافر إلى زوجها ، صديقنا وزميلنا حسن رجب ، الدارس للدكتوراة في ألمانيا ، وأسافر إلى أمريكا ونظل على تراسل لاينقطع على مدى 6 سنوات؛ حريصة على الصداقات لا تبيعها عند أول منحنى بأبخس الأثمان، فعهد الصبا الغالي لا يتعوض.

كانت فرحتنا المشتركة هي رؤية أسماءنا "بحروف الطباعة" تذيل كتابتنا بعد أن نحارب من أجل نشرها، في مواجهة مدرسة عدم التسرع في نشر أسماء المحررين الصغار عمرا وإن أنجزوا عملا يستحق تألق صاحبه، وكان نصيرنا في تلك المعركة أصحاب الدار أنفسهما: علي ومصطفى أمين ومعهما موسى صبري رحمهم الله أجمعين.


حين قرأت اسمها بالجريدة ، الأهرام 8 يناير 2010 ، تحت حقيقة " البقاء لله توفيت إلى رحمة الله الكاتبة الصحفية إبتسام الهواري....." ، حدث لي ما أنا فيه حتى الآن: دمع لايكفكف، فليست هذه حروف الطباعة التي أحبها لإسمك يا "ابتسن"!

"سطوح" الشاعر نجم



فوبيا "سطوح نجم" في كتابات أكادميين تنقصهم فضيلة الدقة؛ بعيدا عن الخشونة التي أقاومها أعود لأصحح لحضرة الدكتور سليمان عبد المنعم وأمثاله معلومات خاطئة في كتاباتهم عن الشاعر أحمد فؤاد نجم، فقد تفضل حضرة الدكتور سليمان عبد المنعم في مقاله المنشور اليوم بجريدة الأهرام تحت عنوان: "رحيل طفل ثمانيني مشاكس" بهذا القول العجيب عن الشاعر نجم: "عرفناه في خوش قدم في غرفة السطوح حيث كتب أروع القصائد و أطلق أنبل الصرخات ......إلخ، من هنا أناشد وزير الثقافة د. صابر عرب أن يهتم بأمر خوش قدم (؟!) ليبقى مكانا أو مكتبة أو مزارا يحفظ فيه للتاريخ ذكرى أحد شعراء مصر الكبار، فنحن لا نعرف شاعرا مصريا كبيرا كانت غرفته فوق السطوح (؟!) مكانا يؤم عبر السنين كل هؤلاء البشر على اختلاف مشاربهم ......إلخ، مثلما حدث في خوش قدم التي سكنها أحمد فؤاد نجم، (الحمد لله لم يكرر هنا "السطوح")، وسكنت أشعاره وقصائده."

تعالوا هنا الآن يا حضرات: أولا لم يحدث أن سكن نجم أي سطوح لا في خوش قدم ولا في أي بولاق من البواليق، و هذا التكذيب ليس من باب الحط من قدر "سكن السطوح" ولكن من باب الحقيقة التي يجدر بنا أن نتوخاها في كلامنا بصفة عامة. حوش قدم وخوش قدم لافتتان تتجاوران واحدة "عطفة" والأخرى "حارة" متفرعتان من الغورية، والسكن الذي كان نجم يسكنه مع إمام ومحمد علي ليس به "سطوح" أصلا، وظل به نجم حتى أتيح له الإنتقال إلى "غرفة عيد" بمدخل خاص غير مدخل بيت محمد على وإمام، ثم جاء الزلزال 12 أكتوبر 1992 على حين غفلة فطربق البيت والغرفة وأصبح الثلاثة في عراء خوش وحوش قدم، وبواسطة الطيبين إستطاع الرسام محمد على أن يحصل على سكن تعويضي في الدويقة وإستطاع الشيخ إمام أن يجد له شقة في جوار الغورية وإستطاع نجم أن يحصل على شقة في مساكن الزلزال بالمقطم، (إذا لم أكن ناسية ساعده محمود السعدني رحمه الله في الحصول عليها من المحافظة بواسطة المحافظ)، هنا دخلنا في أصل حكاية "السطوح"! إنتقل نجم وأسرته إلى شقة مساكن الزلزال بالمقطم التي كانت عبارة عن غرفتين وصالة و "عفشة مية"، يعني مطبخ وحمام. الشقة كانت بالطابق الأخير وفوقها "السطوح"! تفتق ابتكار نجم على سلم خشبي من داخل شقته تدخل زحام زواره إلى "السطوح" الذي زرعه وجمّله بكتابات عشوائية من أشعاره وجعل به غرفة خشبية مضيفة لكل فاجومي من زواره لا يجد مأوى يأويه! و كنا نمزح ونقول "روف جاردن نجم الفاجومي"، فمتى يا دكتور بعد هذا السرد لحكاية "السطوح" عرفت حضرتك الشاعر الذي تقول بعظمة لسانك :" عرفناه في خوش قدم في غرفة السطوح" وتريد من صابر عرب أن يخلدها حيث أنها أول غرفة سطوح لشاعر مصري؟

أمنع نفسي بالعافية من كلام خشن أدعو الناس أن يتجنبوه، لكني والله في غاية التقزز من مقال الدكتور بأكمله، وليس بسبب جزئية "السطوح" فحسب.


الجمعة، 13 ديسمبر 2013

الأستاذ الدكتور حسن رجب في ذمة الله


  1. البقاء لله.اليوم قرأت بالأهرام نعي واحد من أعز أصدقائي الذي لا أنسى أبدا أفضاله؛ الأستاذ الدكتور حسن رجب الكاتب بأخبار اليوم وأستاذ الصحافة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وزوج صديقة غالية هي الكاتبة الصحفية إبتسام الهواري التي سبقته إلى رحمة الله منذ أربع سنوات، رحمهما الله. معرفة زمالة وصداقة لإبتسام وحسن منذ 1957 في دار أخبار اليوم، ظلت على مدى السنوات رابطة لا تنقطع؛ بلاد تشيلنا وبلاد تحطنا وإبتسام وحسن إلى جواري مهما بعدت بيننا المسافات. تتوهج في ذاكرتي الآن لقطة تعود إلى نوفمبر 1976 وإبتسام وحسن يأخذاني ونوارة إلى المطار عائدة إلى عملي بالجامعة المستنصرية ببغداد؛ وكنت قد حضرت لتوديع والدتي التي توفاها الله 11 نوفمبر 1976 رحمة الله عليها، في خضم الألم وشوشتني نوارة البالغة من العمر ثلاث سنوات: "ماما حاوسه أسوف بابا"! حقّها قلت لنفسي، من يا ترى يمكن أن يأخذها لوالدها؟ بسبب ارتباكي خطرت لي محسنة توفيق وزوجها أحمد خليل؛ "ممكن يا محسنة تاخدوا نوارة لنجم عشان إنتوا عارفين السكّة و الوقت ضيق وظروفي لا تسمح بالإستعانة بأي أحد"؟ (كنت مقاطعة مجموعة من البشر بسبب ملابسات زواج نجم وطلاقي منه)، لم أندهش لإعتذار محسنة فهي لم ترزق بدهية النجدة والإنقاذ، هكذا خلقها الله وهذا عذر مقبول. سكتت نوارة حتى ركبنا سيارة حسن رجب وإبتسام الهواري وفي منتصف الطريق إلى المطار نظرت لي بتجهم معاودة طلبها بإصرار مزّق قلبي: "ماما حاوسة أسوف بابا"! قلت: "حسن ممكن تاخد نوارة لنجم؟"، بشهامة منقطعة النظير قال: "طبعا ولازم حتى لو فاتتك الطيارة"! دار بنا حسن إلى شارع الأزهر وركن السيارة أمام مدخل الغورية، شرحت له الحودة إلى حوش قدم حيث يجد نجم. حمل حسن نوارة وقال: سأعرف طريقي. من حُسن الطالع؛ كان نجم متوفّر في مكانه بالفعل! بعد قليل رأينا حسن ومعه نجم يعبران الطريق إلينا، نجم يحمل نوارة وهي شابطة في صدره كأبو جلمبو!. كان نجم يبكي. إشترى حسن جملا صغيرا من الجلد المحشو وقدّمه لنوارة يحايلها حتى تفك كلابشاتها من صدر والدها: "خدي يا نوارة دي هدية من بابا". قال لها نجم : "تعالي بكرة"! قلت: "لا يانوارة مافيش بكرة"! وقلت له: "الكدب كده ماينفعش حرام البنت تتعشم"! وسافرنا وبدأت كوابيس نوارة وبكاؤها الليلي يوميا.

    في حفظ الله يا حسن رجب بيض الله وجهك عند المسألة في القبر وعند العرض عليه.
    Like ·  · Promote · 

تنويه


معظم وقتي الآن على صفحتي الفيس بوك التي عنوانها

Safynaz Kazem

وأهلا وسهلا بمن يحب الزيارة وفقا لشروطي: لا للنزاع والتنازع وإثارة الفتن وغليظ الكلام وكل ما يؤذي الإنسان.

وشكرا.


الثلاثاء، 10 ديسمبر 2013



...من ريح الجنة

أسمع هسهســة من ريح الجنة ،
نسمات الحق السامق،
مع عبق المسك يأتي الشهداء، يتنادون بوجوه كفلق الإصباح،
يأتونني: هل أنت حزينة ؟
أضحك.
هل أنت حزينة ؟
ضحكي يزداد وأومئ: نعم نعم نعم نعم!
يبتسمون. يربتون على كتفي. ذاهبون مع الضوء كما جاؤا.

يأتون من قلبي كلما استشعروا لي القنوط. يصعدون إلى حيث أراهم:
شموسا بنداء الفجر: "فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لايوقنون...".

يهبط صدري ويرتاح الزفير. يحممني نهر الحزن الأخضر: يقتلع أعشاب القنوط السوداء. أغتسل كالمّرات من قيد اليأس الملتف.

منتعشا يطفو قلبي جذلا: أما رأيتكم تخرجون كأسراب البجع المسحورة تنتفضون أناسا ؟

يقينا كنت أراكم بأعناق الحق الناصعة ، وكنت منحنية إلى قلبي وهو يتفطر إليه: إن الباطل كان زهوقا ، إن الباطل كان زهوقا.

الصباح ولا أنهض. أعود إلى الحلم: كنت في قبو أخذتني إليه امرأة أجنبية. في القبو غيري والمرأة شريرة تكره الشمس والضوء والماء، تغتسل بالزيت : تستحم به وتأكله فأستنكر: كيف أتوضأ بالزيت؟
الشمس والماء محظوران: كيف التوضؤ ؟ لو يتهرب بعض ماء إلى القبو!

أعود إلى الحلم. أقذف المرأة بالماء فتحترق وأقرأ: بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق. أصحو. أنهض. أفتح النافذة. تغرق الغرفة بالشمس. الحمد لله: أستنشقها حتى تشبع رئتاى بالحمد.


تسطع فينا الشمس. يسطع فينا الحق. يسطع فينا الحب. يسطع فينا ضفيرة بلّور، وكيف يمكن أن يسطع فينا ولا يكون الميلاد سطوعا مشابها ؟

الاثنين، 9 ديسمبر 2013

كلام من شهر فبراير 2011:

مصر بعد ثورة 25يناير

*مر شهر تقريبا على إندلاع الثورة المصرية.. كيف ترى مصر الآن؟ وهل أنت متفائلة بالمستقبل؟
صافي ـ  أولا دعيني أقول أن هذه ثورة الشعب المصري المدّخرة عبر السنوات (59 سنة)  والتي آن آوان إنطلاقها من القمقم، الذي نزع غطاءه شباب مصر،بداية من 25 يناير 2011، بشجاعة وبسالة لم تتوخ حسابات التجار في الربح والخسارة، ولذلك فهي واضحة لكل المخلصين لهذا الوطن من البداية، وغامضة وغير مفهومة من قِبل من سولت لهم أنفسهم حبس هذا الشعب في قمقم الخوف والترويع والإهمال عبر السنوات الثلاثين في حكم مبارك بل وعبر السنوات السابقة عليه، وأعني العهد الناصري والساداتي. هذه ليست ثورة بروليتاريا ولا ثورة جياع ولا ثورة طائفية ولا عرقية ولا قبلية، إنها ثورة شعب مصر كله، ردد فيها الجميع نداء واحدا خرج من قلب قلب القهر يرفض المهانة والمذلة والإهمال وينتفض عملاقا ينتصر لكرامته قبل كل شئ.
إذن فمصر اليوم التي أراها هي مصر المُحرّرة التي تمناها ثوار القاهرة الكبرى ضد الإحتلال الفرنسي أكتوبر عام 1798،والتي تمناها أحمد عرابي في مواجهة أسرة محمد علي المستبدة، ومحمد فريد ومصطفى كامل وطلعت حرب في مواجهة الإحتلال الإنجليزي ، وشباب مظاهرات الأربعينات في مواجهة الفساد السياسي و نكبة فلسطين في العهد الملكي، و شهداءالمقاومة الشعبية في مدن القناة ضد الإنجليز. ولا بد لنا أن نتفاءل بالمستقبل وهذا يكون بالحرص على هذا الحاضر البديع.
*متى تأكد لك أن نظام مبارك تهاوى وسقط للأبد؟ وهل كنت تتوقعى هذا السيناريو للنهاية؟
صافي ـ  منذ خيانته لقسم المحافظة على النظام الجمهوري، بمحاولته توريث ابنه الحكم، وباستمراره في الحكم أكثر مما يبيحه النظام الجمهوري وذلك بالتحايل الآثم على القانون بمساعدة ترزية القوانين. وما حدث ليس سيناريو: إنها مشيئة إلهية حققها الله سبحانه وتعالى لشعب إنتفض بصدق وإخلاص لينتصر لنفسه، ولنتذكر الآية 39 من سورة الشورى التي تقول في تعريف المؤمنين: "والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون".
*بعد سنوات من الفساد, أصبح هناك حاجة لتطهير مؤسسات حيوية بالدولة مثل المؤسسة الأمنية, المؤسسات الصحفية المؤسسات الدينية, وغيرها...برأيك أى من هذه المؤسسات –بالترتيب- يجب أن نعطيه الأولوية للتطهير؟ ولماذا؟
صافي ـ كلها لها الأولوية في ضرورة التطهير، والتطهير لا يعني التنكيل ولكن يعني إزاحة الفاسدين والمناوئين لمصالح الوطن من طريق تحقيق المطلب الشعبي للتغيير والنهضة ومداوات جراح الوطن والمواطن؛ لابد من عدالة إجتماعية، لابد من إستعادة أموال الوطن المنهوبة، لابد من تثبيت روح الثورة وإبعاد من يسيئ الأدب ضد المواطن، وأنا ارى الكثير منهم في سياق مايكتبونه في الصحف ويقذفونه في وجهنا من قنوات التلفزيون المصري.
*هل تأسيس أحزاب (إخوانية وسلفية) يخدم العمل السياسى فى دولة مفترض أنها دولة مدنية ؟
صافي ـ لا أفهم السؤال.
*يعيش العالم العربى حاليا موجة من الثورات ومظاهرات الغضب.. كيف ترى المشهد؟
صافي ـ تسونامي ثوري أدعو الله سبحانه أن يحقق به الخير للناس ويزيح به القذى والقاذورات التي تراكمت حتى تتحقق عزة  الأمة العربية بيد أبنائها.
*ما هو تقييمك للدور الأمريكى فى تعامله مع الثورة المصرية؟
صافي ـ لا محل عندي لهذا السؤال.
*بماذا تفسرين رعب إسرائيل رغم أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة أكد إلتزامه بالإتفاقيات الدولية؟
صافي ـ الكيان الصهيوني مرتعب منذ إغتصابه للأرض المباركة فلسطين ولا مجال لذهاب الرعب عنه سوى برحيله.
*كانت نوارة نجم واحدة من الأيقونات المفجرة للثورة.
صافي ـ نوارة الإنتصار، وهذا اسمها المدون في شهادة ميلادها مع إنتصار أكتوبر المجيد 1973، واحدة من الملايين الذين تحققت بخروجهم آمالنا وأحلامنا والحمد لله الذي كرّمني وكرّمها بهذه المشاركة.
 - كيف كان رد فعلك كأم تجاه مشاركتها؟
صافي ـ  فرحاااااااانة!
- وهل مرت بك لحظة شعرت بخوف عليها وندم على تأييدك لها؟
صافي ـ حاشا لله!  كنت أدعو الله بالنصر للجميع وأتضرع إلى الله سبحانه أن يربط على قلوب أمهات الشهداء الأبرار: الأحياء عند ربهم يرزقون.
- كم مرة ترددت على ميدان التحرير خلال الثمانى عشرة يوما للثورة؟ وكيف كانت رؤيتك للمشهد؟
صافي ـ  لم أذهب إلى ميدان التحرير إلا يوم الجمعة 4 مارس 2011، كان يجب أن أظل بالبيت حتى لا "ألخم" نوارة بكبر سني (73 سنة ونصف) وأحوالي الصحية (سكر وضغط ووجع الركبتين)، حرمت نفسي من الذهاب وكانت تضحية كبرى مني!
*عرفت الثورة المصرية فى العالم بثورة "الطبقة الوسطى" و"ثورة المثقفين".. فى رأيك, ما هو الدور المنوط للمثقفين فى المستقبل كى ننهض بفكر ووعى شباب الأمة؟
صافي ـ هذه تسميات الغافلين عن حقيقة هذه الثورة، لقد أظهرت هذه الثورة بلاغة المصريين وذكائهم وتوهج وعيهم، الأمي منهم ومتوسط التعليم والمثقف والمتعلم، وقفوا كلهم جنبا إلى جنب وتكلموا لغة واحدة وأسقطوا كل الحواجز المفتعلة بينهم، أهم شئ أنها ثورة تكلمت بـ (العربي) واختفت منها الفرنجة وعوج اللسان.
*أخيرا, نصيحة تتوجهى بها لشباب مصر .
صافي ـ استمروا شبابا حرسكم الله وأذهب عنكم شر أصحاب الأقوال الشائخة.
 




في الدين والأخلاق

*الأستاذ الدكتور توفيق الطويل،( 15\3\1909 ـ 12\2\1991 )، من الأسماء التي تلمع كلما خضنا في ذكر الدراسات الأكاديمية للفلسفة في بلادنا، آخر منصب تولاه قبل وفاته كان رئيس قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة، معرفتي به تعود إلى عام 1954 عندما دخلت قسم صحافة رغم معارضة والدتي التي كانت تريد لي قسم اللغة الإنجليزية أو الفلسفة! كان قبولي بقسم اللغة الإنجليزية بجامعة عين شمس على غير مرامي لأن مبناها،وقتها، كان بحي شبرا وأنا أريد جامعة القاهرة بموقعها الجميل بين حديقة الحيوان وحدائق الأورمان وقبتها العريقة وبرج ساعتها الشهير شهرة البج بن اللندنية. لم يكن أمامي، إرضاء لوالدتي، سوى أن أحاول التحويل إلى قسم فلسفة فذهبت إلى الدكتور توفيق الطويل، رئيس قسم الفلسفة أرجوه: يادكتور أريد الإنتقال من صحافة إلى فلسفة، فسألني: مالها الصحافة ألا تحبينها؟ قلت: أحبها بس ماما تحب الفلسفة! فضحك مؤكدا: أنا مستعد أقبل ماما عندنا في فلسفة لكن يجب أن تظلي أنت بقسم الصحافة!

بعدها ارتبطت أسرتانا بصلة نسب سعيد، وأصبحت ألتقي بالدكتور توفيق الطويل اجتماعيا في مناسبات كثيرة يملأها بالبشاشة والأحاديث الراقية الشيقة، وفي عام 1986 تفضل وأهداني بحثا من أبحاثه بعنوان: " دور الدين والأخلاق في بناء الثقافة في مصر المعاصرة". قرأت البحث في حينه وظل في بؤرة اهتمامي أرجع إليه كلما إحتجت ضاربة ذباب أهش بها تزوير اللادينيين الذين لم يعودوا مكتفين بعلو نفيرهم بل صاروا يطالبون بكتم التنفس الإسلامي ، بمنطق قوم لوط الضائقون ذرعا بسيدنا لوط وآله لأنهم أناس يتطهرون!

يبدأ البحث بتعريفات عديدة منها تعريفه للثقافة: " كل ما يتضمن استنارة للذهن وتهذيبا للذوق وتنمية لملكة النقد والحكم لدى الفرد والمجتمع، وتشمل المعتقدات والمعارف والفن والأخلاق......"، إلى آخره حتى يصل إلى قوله: " ..عن الثقافة تنشأ عند الفرد رؤية خاصة يرى بها الكون ويفسر بها مشاكل الحياة.." ، وأحب هنا أن أضيف أنا من جيبي أنه مع تكوين الرؤية الخاصة للكون وتفسير مشاكل الحياة تتحدد كذلك القرارات التي تنظم علاقاتنا مع الآخرين، دولا وأفرادا، ونعرف رأسنا من أرجلنا فلا ننحاز لمصالح الأعداء ضد مصالحنا ولا نتبنى مفرداتهم ومصطلحاتهم ومسمياتهم التي ترى حقنا باطلا وباطلهم حقا، من هنا نتبين الأهمية القصوى لخطط التكوين الثقافي وأهمية الكشف المبكر عن المنابع التي تستمد منها تلك الخطط لتجري في القنوات والروافد الموصلة لعقولنا وخلايا أمخاخنا وأمخاخ أولادنا من بعدنا.  هذه الأهمية القصوى للثقافة عرفها كل الذين احتلوا أرضنا منذ القرن 18 الميلادي حتى الآن ولذلك واصلوا إحتلالنا عن طريق فك عرانا بثقافتنا الإسلامية تدريجيا لنصبح بجعا مسحورا مسلوب الإرادة يسبح في بحيرة التغريب مجندا ضد نفسه! وعندما هب الأمناء منا لإعادة البجع المسحور إلى آدميته بنداء "اعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا" لم يعجب اللادينيون التزويريون الكلام ورأوا في إنقاذ الأمة ، بإعادة الشهيق والزفير إسلاما ، ماسموه:"ردة إلى عصور الجهل والظلام" وبذلوا جهدهم ، بدعوى "التنوير"، في تلويث الثقافة بكل مايؤدي إلى التخبط والتيه والإنسحاق وغيبوبة تبدو غيبوبة الطاعون وأنفلونزا الخنازير إلى جوارها صحة وعافية!

أصل وفصل اللادينية

*يقول الدكتور توفيق الطويل، في ضرورة الدين للفرد وللمجتمع، أن استقراء التاريخ من قديم الزمان يشهد بأن الشعوب لا تحيا بغير دين تعتنقه ، ومن ثم اهتم الملحدون من المفكرين والفلاسفة بالدين رغم رفضهم له ، وفي سعيهم للتوفيق بين رفضهم للدين مع اعترافهم بأهميته للإنسان أنكروا الدين المنزل بوحي إلهي وأنشأوا أديانا سموها حينا بالدين الطبيعي وحينا بالديانة الإنسانية.

يستعرض بحث الدكتور الطويل زعماء هذه الديانات المطروحة بديلة عن الدين الحق المنزل على أنبياء الله عز وجل، ومن بينهم المدعو أوجست كونت الذي يرى أن المجتمع في حاجة ماسة إلى مجموعة منظمة من العقائد تكون موضع اتفاق بين الأفراد جميعا، ولا يتيسر هذا إلا بإلغاء الأديان القائمة وصهرها في دين جديد يتمثل في عبادة الإنسانية من حيث هي فكرة تحل مكان الله في الديانات المنزلة!  وهنا يجب أن نلحظ الكم الهائل من الخبث الذي تنطوي عليه أحاديث عن الإنسانية تمر من تحت أنف بعض السذج من دون أن يتشككوا في كونها وثنا معبودا إلى جانب أوثان أخرى ما أنزل الله بها من سلطان تعج بها مفردات اللادينيين.

*تحت كلمة جميلة مثل "الإنسانية"، التي صنع منها الفيلسوف الملحد أوجست كونت ديانة ادعى أنها تحقق وحدة دينية للبشرية يتلاشى معها الشر والمنازعات...الخ ، يتبين لنا كيف تفوح رائحة العنصرية المنتنة من الكلمات المنمقة والشعارات المبهرة فحضرته يقسم البشرية إلى أجناس ثلاثة : الأبيض ويمثل الذكاء ، والأصفر ويمثل العمل ، والأسود ويمثل العاطفة! هذا الكلام العفن يعني بصريح العبارة سيادة وزعامة الجنس الأبيض متمثلا في العنصر الأوروبي وتراث حضارته الغربية سواء سكن أوروبا أو الأمريكتين أو أستراليا أو "الشرق الأوسط"!

هذه الرؤية الشوهاء التي ترى في الصين واليابان حمار شغل، وترى في الجنس الأسود ـ الذي يضم إفريقيا والهند ـ الطبل والزمر والرقص وشهوات العاطفة ، لاترانا نحن العرب ، بأغلبيتهم المسلمة ، جنسا أبيض إنها ترانا خليطا لا يرقى للتصنيف من واجبه   فحسب أن يكون بطانة تغني معزوفات الرجل الأبيض العنصرية اللادينية بإعجاب شديد ، هذا بينما يقول لنا نبينا محمد بن عبد الله :" اتركوها إنها منتنة " ، قاصدا العصبية القومية والقبلية والجنسية مؤكدا القاعدة التي ترتكز عليها النظرة الإسلامية للبشرية وللإنسانية: "كلكم لآدم وآدم من تراب ، لافضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي ، ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى!"

"التقوى": أي مخافة الله الذي خلقنا سواسية بالعدل والقسط والميزان ، للجميع الذكاء ، وللجميع قدرة وأدوات العمل ، وللجميع عاطفته ومشاعره ووجدانه. لاعذرلمن لايعمل، ولاعذر لمن لايحس ويشفق ويحب ويرحم ويتراحم. هذه النظرة الإسلامية الكلية للبشر والإنسانية تقودها كلمة الله "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، فنعلم أنه ليس هناك شعب مختار ولا جنس أرقى  ولا بطاقة مكتوب عليها التفوق لأحد أبد الآبدين.
*أنتجت النظريات العنصرية لفلاسفة الإستخراب الغربي، القائلة بتفوق الجنس الأبيض ،نموذج هتلر فخرج بحربه العالمية ـ 1939 \1945 ـ يدمر براية تفوق الجنس الآري، يريد أن يخضع العالم لتفوقه العرقي الموهوم ، وذاق العنصريون الغربيون طعم لحمهم المر المسموم.

أنضج هتلر على وقود أفرانه ، التي زج فيها معارضيه من يهود وغيرهم ، خرافة الشعب المختار، وفي قاع المذلة التي وجد الرجل الأبيض ، المنتمي إلى اليهودية ، نفسه فيها تولدت عنده هلوسات جنون العظمة.  لقد رأى أنه أوروبي وأبيض لكنه مرفوض ليهوديته ممن هم في الواقع أهله وجنسه وأبناء وطنه، عاش في أحياء منعزلة، سخروا منه في آدابهم وفنونهم وممارسات حياتهم اليومية، لفظوه بقسوة رغم وحدة اللون والملامح والجنس والأرض، وكان حتما أن تركبه مركبات النقص التي كان لابد أن تتولد منها صيغة مرضية للعظمة مشابهة للصيغة العنصرية ، التي تقول بتفوق الجنس الأبيض، غير أنها بالغت في الجنون بقولها: أنا شعب الله المختار، وهذا العالم كله بناسه ومخلوقاته خلقه الله من أجلي ليخدمني بصفتي السيد وهو العبد!

إتفقت المصالح الغربية ،بعنصريتها، على إتاحة المجال لإنطلاق الحركة الصهيونية ودعمت منطقها، الذي اعتمد صيغة شعب الله المختار وحقه فيما سمته أرض الميعاد على أرض فلسطين، وزورت لها الوثائق والحكايات والأساطير، ونبشت لتسرق تراث الجنس البشري كله وتنسبه لنفسها ، ولعلنا لم ننس بعد لغة النصب والإحتيال التي تكلم بها اسحق رابين وهو يتسلم جائزة نوبل ويسرد بها المساهمات الثقافية والعلمية والفنية التي أثرى بها، ماسماه الشعب اليهودي، تراث الإنسانية على مر الأزمان ذاكرا من تلك الإسهامات "الأهرامات" و "أشجار الزيتون والبرتقال" على أرض مصر وفلسطين!

إرتفع النداء لتجميع يهود العالم لينسلخوا عن أوطانهم وأجناسهم المختلفة ويصطفوا خلف الفكرة الصهيونية العنصرية في وحدة ترسخهم بزعم أنهم شعب الله المختار بينما كانت السكاكين تنزل من كل جانب تقطع أرحام المسلمين ليتفرقوا عن حبل الله تحت رايات قومية وعرقية ما أنزل الله بها من سلطان.  هذا رغم أن البون شاسع بين غاية تجميع المسلمين في أمة واحدة، تحتضن بين جنباتها كل الأجناس وكل الأديان، تساوي بين الأجناس وتعترف بكل دين سماوي، وبين غاية الصهيونية في تجميع يهود العالم لتصنع منهم شعبا مختارا لايعترف بـ "الآخر" ولا بأي دين أو عقيدة تخالفه، يسرق الأرض ويأكل الحقوق ولا يبالي بعهد أو ذمة وينتهج القمع والإرهاب بوقاحة وحرية وحوش الغاب. نعم! تجمعت المصالح الدولية ليكون لليهود الحق في إقامة دولة "دينية يهودية" بينما تتسيد العلمانية لفرض اللادينية على المسلمين لتحرمهم التمتع بالعيش في كنف شريعتهم وقرآنهم يقول في الآية 65 من سورة النساء: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما".


*لم تحاول اللادينية \ العلمانية ، واسمها الحركي الآن للعلم والتحذيرهو"الدولة المدنية"، أن تتسيد في بلادنا في الحكم والمحاكم فحسب بل حاولت وتحاول وتستميت في المحاولات لتتمكن من تشكيل الوجدان ببث ثقافتها وفنونها وقيمها وقياساتها فيما هو صواب وخطأ وجميل وقبيح وضروري وغير ضروري في كل شؤؤن الحياة، وعلى رأسها التربية والتعليم، تحت شعارات:  التحديث والعصرية والتنوير والنقلة الحضارية، وكلها، كما رأينا وسنرى، أقنعة لرسالة التغريب التي تريدنا أن نزدري أنفسنا ونخجل من كل مايمت إلينا بصلة عربا ومسلمين ، ومارست النخب العلمانية \ اللادينية المسروقة من إسلامها دورها المرسوم في اضطهاد ذات الأمة ، وأصبح من المعتاد أن نقرأ عبارات مثل:"لـَيْ عنق الواقع والعودة إلى الوراء، إلى القرن السابع الميلادي، إلى عصور الجهل والظلام..إلخ". وحين يتساءل متسائل لماذا القرن السابع بالتحديد؟ يكتشف أنه القرن الموافق لبعثة الرسول النبي خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم!

*لم ينس الدكتور توفيق الطويل أن يشير في هامش بحثه إلى أن دعوة أوجست كونت لديانة "الإنسانية" تتمثل في " مجموعة من الأبطال والعظماء والعقلاء الذين أسدوا إلى الإنسانية أجل الخدمات فاستحقوا من أجل ذلك التقدير والإعجاب...." ولذلك شرعوا في إقامة التماثيل لعظمائهم إذ أن السيد كونت "...قد رسم لديانة الإنسانية طقوسا ونظما ينبغي أن يتجه إليها الجنس البشرى لعبادتها..."!

ولاشك أن هذا يجعلنا نراجع العقلية والرؤية الثقافية، المفتونة في بلادنا، التي تحمست جدا منذ مطلع القرن 19 م لإقامة التماثيل أسلوبا من أساليب التكريم للحكام والمشاهير من الساسة وأهل الأدب والشعر والثقافة، وكان هذا في معظمه محاكاة من دون وعي أو فهم أو إدراك لحقيقة كونها مظهر وحصيلة فنية وثقافية لديانة لا نؤمن بها ولاتعبر عنا، فالمعروف أن ثقافتنا النابعة من الإسلام لاترحب بتعظيم الأفراد ناهيك عن إقامة تماثيل لهم، كما أن أسلوب التجسيم والتجسيد المادي لا يتفق مع منهج التجريد الذي يدربنا عليه الإسلام، وإذا كنت مخطئة في تصوري هذا فليصححني عالم من علماء ديننا ، فتلك المسماة ديانة "الإنسانية"، اللاغية للديانات الإلهية المنزلة، كان لابد أن تدفع أتباعها لإقامة تماثيل أبطالهم لتكون بمثابة أوثان معبودة تمتلئ بها ميادينهم ترنو إليها عيونهم في إعجاب وتقديس لـ "الرموز" تطفر معه الدموع.

لابأس!

لكن مالنا نحن ولماذا نحاكيهم؟


الأحد، 8 ديسمبر 2013

جاذبية صدقي

ونعود نحيي ذكراها رغم أنف المُزوّرين:

في مثل هذا الشهر ديسمبر منذ 12 سنة،  رحلت عن دنيانا الأديبة الرائدة جاذبية صدقي التي غمطوا حقّها ورفضوا تتويج مشوارها الأدبي المخلص ولو بجائزة تشجيعية بينما كان الكيل يُكال إغداقا وسرفا وسَفَها بالتكريم لمن لا يستحق؛ لاقت الجحود والجور في التقدير وبلعت مثل الكثيرين غيرها من كرام مصر الغُصّة بالأمل في أن يعتدل ميزان النقد يوما ما حين يخاف، من يجب أن يخاف، غضب الله.

كتبت بشغف وسعت بنفس الشغف إلى نشر ما تكتب من دون انتظار  لمقابل، وتألقت  على صفحات الصحف والمجلات والدوريات، سنوات الخمسينات والستينات حتى نهاية الثمانينات من القرن الماضي، إلى أن ثقلت خطواتها  بما استشعرته من خذلان لرائدة بحجمها قدمت للمكتبة العربية ما يربو عن أربعين كتابا بين القصة والرواية والتحقيق والبحث، أذكر منها "بوابة المتولي"، "الموسكي إلى الحسينية والبلدي يوكل"، "مملكة الله"، "آخر الأرض"، "ليلة بيضاء"، "ستُار يا ليل"، "ليالي القمر".

صعدت جاذبية صدقي منصة النشر الأدبي في النصف الثاني من أربعينات القرن الماضي  وأخذت مساحتها في الصفحة الأخيرة من جريدة المصري تنشر قصصها القصيرة برسوم جذابة، لعلها كانت للفنان حسن هاشم، تشد القارئ إلى قراءة اسمها الجديد في عالم الأدب، الذي وقف ندا راسخا إلى جانب كتاب شباب آخرين مثل سعد مكاوي وعبد الرحمن الشرقاوي وعبد الرحمن الخميسي، الذين تناوبوا نشر باكورة إنتاجهم الأدبي في موقع الصفحة الأخيرة من جريدة المصري.

ولدت جاذبية صدقي 9 يناير 1920، صغرى أبناء وبنات وزير الأشغال محمود باشا صدقي، و كان قد أنجب قبلها 14 ولدا وبنتا من زوجة واحدة! تخرجت في كلية البنات الأمريكية، (أمريكان كوليج)، نالت بعدها شهادة الماجستير في الآداب، أجادت الإنجليزية والفرنسية وتملّكت ناصية اللغة العربية حتى اكتملت بين يديها جوهرة متألقة بالألوان والإيحاءات تشكّلها بين صريح الضوء وغموض الظلال، تصوغها في الكتابة كما تتكلّمها بجزالة وفصاحة وإحكام، فبدت كتابتها صوتية نابضة متشابهة مع صوتها تحمل مميزات نبراته ذات البحّة والإيقاع الدرامي؛ يخفت حتى لا تكاد تسمعه ثم يعلو تدريجيا حتى يصل به حماسها إلى الخطابة العالية ثم ما تلبث حتى تسحبه إلى الخفوت الكلّي كمن يلملم عاصفة في منديل.

جابت الآفاق طوافة بمعظم بلاد الكرة الأرضية تحاضر عن الأدب العربي والفرعوني بوعي مشهود بثقافة العالم الشرقية والغربية؛ يزكيها نهرو لعبد الناصر بما كتبته بالإنجليزية عن الهند وأطربه، وتترجمها اليابان، وأسمع بأذني في ولايات أمريكا الوسطى من يحدّثني عن استمتاعه بما سمع منها في محاضرة أو قرأ من قصصها مُترجما من العربية.

أغمضت جاذبية صدقي عينيها واستسلمت لنوم عميق، إلى جوارها كانت وحيدتها بهية يوسف زكي ، خريجة آداب القاهرة قسم اللغة العربية، تتهيأ للإستيقاظ لتعطيها دواء الساعة السابعة صباحا، نادتها بصوت خفيض: " ماما ... حبيبتي ...موعد الدواء... "، لكن جاذبية صدقي كانت قد أسبلت عينيها وانسحبت بهدوء وسافرت إلى البلاد التي لا يمكن لأحد أن يعود منها إلى أرض الدنيا، وكان ذلك صباح السبت 22 ديسمبر 2001.


الجمعة، 6 ديسمبر 2013

من صندوق الجواهر
أم أبيها: فاطمة بنت محمد
                
تأخذني سيرة الزهراء؛ "فاطمة بنت محمد"، إلى جوف بحر الحزن المتلاطم، وترميني هناك أغالب الموج العاتي لججا من الشجن، والوجع، يخلع القلب الذي تستبد به الذكرى، وتعصره الآلام. وأقف سيدتي، أقف جدتي، أقف بين أيامك الخالدات، ترجفني الدموع، أرقب نحولك وضعف جسدك الذي كان عليه أن يتحمل ما لو ذقت طرفا منه، وقد ذقت الكثير، لتضعضعت وتفتت وذابت مني العظام، لكن هذا كان قدرك يا فاطمة بنت محمد مرسوم مدبر بحكمة شاءها الله فكانت، وكان قدرك أن تكوني المثال، والكمال، والتكامل، والقدوة لسرب وراءك لم ينقطع من المسلمات الرساليات، جئن على مدار ومرور وتعرجات الزمن الإسلامي، ناظرات إليك، متأسيات بك، متواسيات، يعرفن عندك عزة المسلمة، ويتعلمن صبرك. سرب وراءك يا فاطمة، لن ينقطع ما دامت ذكراك بازغة أبدا، ومواقفك تستحضر بقوة، كلما هم باطل تأخذه حمية الجاهلية ليعلو بصلف وغرور فما يلبث حتى يقذف الله بالحق عليه فيدمغه فإذا هو زاهق؛ أولست النموذج الإسلامي الذي نشأته البيئة النبوية لتترسخ فيه شمائل من أدبه ربه فهو على خلق عظيم؟ أولست فاطمة؟ فاطمة البتول الزهراء الطاهرة المتعبدة الزاهدة التي كلما قرصها الجوع سجدت، وكلما هدها التعب ذكرت، وكلما ألمت بها الحمى قالت: "يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، اللهم أصلح لي شأني كله ولا تكلني طرفة عين إلى نفسي ولا إلى أحد من الناس".

 إبنة محمد وخديجة وأخت الباسلات، زينب ورقية، صاحبة الهجرتين، وأم كلثوم. رفيقة عليّ بن أبي طالب، صاحب طفولتك الذي كرم الله وجهه، فلم يسجد كما لم تسجدي أبدا لوثن، عليّ زوجك فتى الفتيان وفارس الفرسان، وفقيه الفقهاء، والصلب الطاهر الذي خرجت منه ذرية نبينا الهادي: "جعل الله ذرية كل نبي من صلبه، وجعل   ذريتي من صلب عليّ". أم الحسن والحسين، وزينب وأم كلثوم، وفوقهم يناديك نبينا الحبيب: "فاطمة أم أبيها"، فتحملت بهذا وطأة المجد، ودفعت ثمن التميز، وحفظت بالحرمان والصبر أمانة مسئولية كونك ابنة الرسول المفدى، الذي أدّبك ورباك لتكوني النموذج للرسالية المسلمة.

ولدت مع بشائر النبوة، ومحمد الأمين يفض خصام القبائل في مكة عند إعادة بناء الكعبة وتنازُعها شرف حمل الحجر الأسود ووضعه في مكانه، في 20 من جمادى الآخرة في العام الثامن عشر قبل الهجرة. تعلمت الخطو وأبوها في غار حراء يتطهر ويتعبد وتأتيه الرؤى الصادقة كانبلاج الصبح، وتشربت منذ ذلك الحين، روح أمها الحانية، الطوافة حول الأب، الذي لم تعرف قريش مثله صدقا وطهرا وسموا.

 ومع تنزيل الآيات على المبعوث رحمة للعالمين، رددت وهي بنت خمس سنوات:  "اقرأ بسم ربك الذي خلق"، ونطقت: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله"؛ نطقتها حفظا ووعتها معنى، وحملتها مسئولية كاملة، وعاشتها حياة متصلة، شهيقا وزفيا، على مدى ثلاثة وعشرين عاما.

 دخلت شعب أبي طالب، وهي في الثانية عشرة، عندما ضربت قريش بعتوها الجاهلي الحصار الباغي على الرسول وأهله، وصحابته ومن يواليه، فلا بيع ولا شراء ولا مصاهرة ولا مكالمة ولا طعام ولا ماء، وقطع الطريق على من يبغي التسلل بزاد أو نجدة، فهي المعركة الضارية لإكراه المؤمنين على ترك اختيارهم العقائدي الحر بالإيمان بمحمد، رسولا ونبيا، ولا رسول ولا نبي بعده، والإسلام لوحدانية الله سبحانه، أو الموت جوعا وظمأ في الشعب الموحش في الجبل!

ورأت في هذه السن المبكرة كيف جاع المسلمون من كبيرهم حتى طفلهم، وكيف أكلوا ورق الشجر وما دونه، صامدين بالروح الشبعى بدين الله الحق، وينضج إيمانها ليصير سمة شخصيتها الرئيسية، وتتفتح روحها تحت الحصار الكافر بقوة وعناد يثقلان جسدا أكسبته سنوات الجوع الثلاث النحول والضعف، لازمانها إلى نهاية عمرها الكادح، الذي لم يتجاوز الثامنة والعشرين ربيعا، يوم تحققت لها بشرى اللحاق بأبيها الرسول المفدى بالجنة في الثالث من رمضان في العام الحادي عشر من الهجرة.

 وتأكل الأرضة المخبأة في الكعبة صحيفة تعاهد الكفار على الحصار فلا تترك منها إلا اسم الله، كما ينبئهم الرسول، لتخسأ قريش أمام الإرادة الإلهية التي أذنت بإنهاء الحصار بعد أن فتن فيه الظالمون، وامتحن المؤمنون إيمانهم فكان لهم فيما كرهوه الخير، رغم القرح، والله "فعال لما يريد". وتخرج "فاطمة" الصبية من الحصار فتاة في الخامسة عشرة قد حان أوان زواجها، لكن لا مجال، فقد اختبر قلبها الغض أولى جرعات الحزن الغائر حين يختار الله أمها خديجة السكن الرؤوم لتكون من شهداء ذلك الحصار، الذي باءت قريش بإثمه، فينتهي ذلك الدور الفذ الذي قدره الله بمقدار لخديجة، وليتاح لفاطمة، صغرى البنات، مواصلته ظلا لخديجة وامتدادا لها، في ترتيب إلهي عجيب، ولم يكن من المنظور أن تقوم زينب الكبرى بهذا الدور، فقد رسم الله لها حياة لا تقود لذلك، وقد توفيت في السنة الثانية للهجرة، ولم يكن من المشيئة أن تكون رقية أو أم كلثوم، والأولى صاحبة هجرتين، واحدة إلى الحبشة والأخرى إلى المدينة، وكلتاهما قد تزوجتا عثمان بن عفان صاحب النورين، فقد توفيت رقية في السنة الثالثة للهجرة وحلت أم كلثوم مكانها بعدها في بيت عثمان، ثم توفيت في السنة التاسعة للهجرة. وهكذااختص قدر الله فاطمة بين شقيقاتها الباسلات  المحبات لتمتاز، ومن البداية، ولتكون لائقة لشرف إنجاب الذرية لنبينا الهادي؛ أخذ الله من خديجة القاسم والطيب مختبرا رسولنا بوجع الثكل، بعد وجع اليتم، وليعود فيعطيه عبر فاطمة وعليّ: الحسن والحسين رحمة ومنّة. ولا يخفيها الرسول، فيقول صلوات ربي وسلامه عليه: "جعل الله ذرية كل نبي في صلبه، وجعل ذريتي في صلب علي". (أخرجه أبو الخير، والحاكمي، مذكور في زينب، الأستاذ علي أحمد شلبي، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، ص 65). وانفردت مبكرة باستكمال دور الحدب والذود الذي كانت تتبع به خديجة الرسول، حيثما ذهب، في طرقات مكة وأنحاء  البيت العتيق.

 خبرت كثافة الباطل حين يهيش، ويحدق بالحق ويبدو لوهلة من الزمن كأن لا نهاية له فالكلمة تبدو كلمته والصوت صوته والأمر بيده وكأنه الغالب أبدا، رأت كيف يستهين أهل الباطل بالحق، كيف يقفون أمام نوره في صمم وعمى، "وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون"، الزمر 45.

تهرول هالعة: "وا كرب أبتاه"، والحنق يثقله العجز والقهر فلا تملك كبت شهقاتها وإخفاء نحيبها وهي ترى النبي المفدى، ساجدا في الكعبة، للذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، وقد وضع السفهاء على ظهره كرش بعير، وفق مؤامرة غليظة رسمها إمام الكفر والحقد أبو جهل عمرو بن هشام، ونفذها التعيس عقبة بن أبي معيط، وسط ملأ ساخر يضحك، وقد طابت أنفسهم الفظة لمشهد الأذى بالرسول، روحي فداه. وتزيح فاطمة عن أبيها الأذى فيأخذها إلى قلبه يهدئ من روعها، "يا بنية لا تبكي فإن الله مانع أباك"، ثم يرفع رأسه الشريف وهو يدعو: "اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بأبي جهل وعليك بعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط و..." وسابع نسى راوي الحديث اسمه ويرى الناس كل هؤلاء في قليب بدر قتلى ومعهم خزي الدنيا والآخرة، وقد شفى الله صدور المؤمنين وأذهب غيظ قلوبهم، ومع تصاعد الأذى وضراوة المكر الجاهلي تتعلم فاطمة الصبر وتعرف يوما بعد يوم كيف تروض نفسها على كظم الغيظ أمام استهزاء  قريش واستكبارها فالله يسمع ويرى ويربط علىقلب مختاره ومصطفاه: " وإن يكاد الذين كفرو ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين"،القلم 51،52.

وتتربى فاطمة بالقرآن وتقرأ وراء الرسول:لقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون"، الأنعام  10.

ثم تقرأ: "وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون"،الأنعام26.

ثم تقرأ: "قد  نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات  الله يجحدون ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله..."، الأنعام 33، 34.

ثم تقرأ: "فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون"، الأنعام 44.

وتتمكن الحكمة من قلب فاطمة وصدرها وهي توالي حفظ كلام الله، وتتأمل آياته متبتلة خاشعة قانتة لا تعرف لغوا ولا هذرا متخلقة بخلق أبيها الذي كان خلقه القرآن، وتشهد السيدة عائشة أم المؤمنين بعد سنوات فتقول: "ما رأيت أحدا من خلق الله أشبه حديثا ومشيا برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة"، وتقول: "ما رأيت أحدا أصدق في لهجة من فاطمة إلا أن يكون الذي ولدها صلى الله عليه وسلم".

ويكسبها الورع والتقى مع الطقس الجهادي الرسالي الذي تعيشه كاملا وقارا ومهابا وثقلا لم يعرف لامرأة في مثل عمرها، وتشهد لها السيدة عائشة مرة أخرى: " ما رأيت أفضل من فاطمة" و "....إن كنت لأظن أن فاطمة من أعقل نسائنا....".

وتعيش سنوات العُسرة الثلاث، ما بين وفاة السيدة خديجة وهجرة الرسول وقبل زواجه، مؤكدة للرسول بثباتها وإلزام نفسها الصبر والتحمل الهادئ، أنها الرسالية الجديرة بأن تكون السكن الباقي أثرا من ظل أمها الرؤوم فيجتمع فيها، مع تشابهها التام بالرسول المفدى، بيت النبوة كاملا، ولا يجد الرسول ما يصف به موقعها الفريد هذا إلا أن يدعوها: فاطمة أم أبيها.

 يأمر الله رسوله بالهجرة، فيهاجر ومعه الصدّيق أبو بكر إلى يثرب، المدينة المنورة، وسط ملابسات خطرة تتهددهم، وينام علي بن أبي طالب مكان الرسول في مكة ليغشي الله أبصار الكافرين فلا يرون النبي المفدى وهو يمر من أمامهم وقد جاءوا عصبة يمثلون القبائل لقتله. وتتوالى هجرة المؤمنين من بعده وتهاجر فاطمة بصحبة أم كلثوم إلى حيث يجمع الله شمل المسلمين ويكوّنون دولتهم بالمدينة المنورة يثرب، ويتزوج الرسول إبنة صاحبه في الغار، عائشة، وغيرها من بعدها ويتهيأ المجال لتتزوج فاطمة؛ خطبها أبو بكر فقال الرسول: يا أبا بكر أنتظر بها القضاء، وخطبها عمر بن الخطاب فقال الرسول: يا عمر أنتظر بها القضاء، فقالوا لعليّ: اخطب فاطمة إلى رسول الله، فقال: بعد أبي بكر وعمر؟ ثم خطبها. فقال صلى الله عليه وسلم: قد أمرني ربي عز وجل بذلك. وقال النبي لفاطمة: إن عليّا يذكرك. فسكتت فعرف موافقتها، وكانت قد بلغت الثامنة عشرة.

قال أنس بن مالك: "ثم دعاني صلى الله عليه وسلم بعد أيام، فقال لي: يا أنس اخرج وادع لي أبا بكر الصدّيق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة والزبير وبعدتهم من الأنصار. قال فدعوتهم فلما اجتمعوا عنده صلى الله عليه وسلم وأخذوا مجالسهم وكان عليّ غائبا في حاجة النبي صلى الله عليه وسلم، قال النبي: الحمد لله المحمود بنعمته المعبود بقدرته المطاع بسلطانه المهروب إليه من عذابه ...إلى أن قال: ثم إن الله تعالى أمرني أن أزوج فاطمة من عليّ، وإني أشهدكم أني قد زوجتها إياه على أربعمائة مثقال من فضة، إن رضي علي بن أبي طالب بذلك، على السنة القائمة والفريضة الواجبة". وعندما دخل علي تبسم الرسول في وجهه وقال: "إن الله أمرني أن أزوجك فاطمة على أربعمائة مثقال فضة إن رضيت بذلك، فقال: رضيت بذلك يا رسول الله، ثم خر لله ساجدا". وباع عليّ درعه الحطمية وكان الرسول قد أهداها له وباع بعيرا له فتجمع له أربعمائة وثمانون فقال له النبي اجعل ثلثين في الطيب وثلثا في المتاع. وجهزها الرسول بقطيفة ووسادة من الجلد حشوها ليف، ورحيين وسقاء وجرتين. وتقول السيدة عائشة زوجة الرسول: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجهز فاطمة حتى ندخلها على عليّ فعمدنا إلى البيت ففرشناه ترابا لينا من أعراض البطحاء، ثم حشونا مرفضتين ليفا، فنفشناه بأيدينا، ثم أطعمنا تمرا وزبيبا وسقينا ماء عذبا وعمدنا إلى عود فعرضناه في جانب البيت ليلقى عليه الثوب ويعلق عليه السقاء، فما رأينا عرسا أحسن من عرس فاطمة"! (مذكور في مناقب علي والحسنين وأمهما فاطمة الزهراء دكتور عبد المعطي أمين قلعجي، دار الوعي، حلب 1979).

هكذا كان جهاز بنت رسول الله وهكذا كان عرسها! ويدعو الرسول لهما: " اللهم إنهما أحب الخلق إلي فأحبهما وبارك في ذريتهما"، ويتم هذا الزواج الذي أمر به الله وتولاه ليكون أصحابه بما هم عليه وما ينجبانه أهل بيت الرسول. عن صفية بنت شيبة قالت: "قالت عائشة: خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداة وعليه مرط مرحل، أي كساء منقوش، من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء عليّ فأدخله، ثم قال: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا". أخرجه الإمام مسلم في صحيحه.

والشاهد من هذا الحديث أن صفة أهل بيت الرسول تعني فاطمة وعليا والحسن والحسين. من أجل هذا لم يأذن الرسول لعليّ بإدخال زوجة ثانية على فاطمة حفاظا على خصوصية هذا البيت وتميزه، لكونه يضم النماذج الإسلامية الرسالية التي تربت على يد الرسول فنشأها لتأتم بها أجيال المسلمين عبر القرون وتتمثلها.

جاءت فاطمة تقول للرسول: "إن قومك يتحدثون أنك لا تغضب لبناتك. وهذا عليّ ناكحا ابنة أبي جهل، وكان أهلها يريدون أن يزوجوها بعد دخولها الإسلام بمن يليق بكبريائها، فقام الرسول إلى المنبر يقول: إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها وإني لست أحرم حلالا ولا أحل حراما ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد أبدا".  ويقول: "إن بني هشام بن المغيرة استأذنوا في أن ينكحوا ابنتهم عليّ بن أبي طالب، فلا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن، إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم". ويتراجع عليّ عن الخطبة التي تم السعي بها إليه ولم يكن هو ساعيا إليها. ولا تؤثر هذه الحادثة في خصوصية هذا البيت الطاهر، الذي ظل للرسول سكنه بل لعلها سجلت جانبا في الحلال يمكن أن يبغضه القلب وينفر منه الذوق وتؤذى منه النفس.

 ويستمر الرسول المفدى في إغداقه الحب والود وطيب الكلم لفاطمة وعليّ وأولادهما حتى تقول السيدة عائشة: "أحب الناس إلى قلب الرسول فاطمة وزوجها"، رغم أن السيدة عائشة قد أغاظت فاطمة يوما بقولها: "أنا البكر الوحيدة التي تزوجها رسول الله". فقال الرسول المحب لابنته: "قولي لها وأمي خديجة الوحيدة التي تزوجت أبي وهو بكر". وكان هذا التلطف ومعه المواساة كل ما يملكه الرسول المفدى لابنته البتول، إذا أتى من سفر بدأ بالصلاة في المسجد، ثم يذهب إليها ثم إلى نسائه، إلا أن هذا الحب المغدق كان معه التنبيه النبوي المتصل:

" لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها" و "يا فاطمة بنت محمد اعملي فلن أغني عنك من الله شيئا" و "ليست الدنيا من محمد ولا من آل محمد، ولو كانت الدنيا تعدل عند الله من الخير جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء". ويرى في يد فاطمة يوما سوارين من الفضة، فلا يدخل بيتها حتى تخلعهما وتبعث بهما إليه قائلة: "ابنتك تقرأ عليك السلام وتقول لك اجعل هذا في سبيل الله". فيفرح النبي المفدى: "قد فعلت فداها أبوها". ويراها بلال وهي تطحن وجسدها الضعيف لا يساعدها والصبي يبكي، فيطحن عنها ويقول له الرسول: "فرحمتها رحمك الله". لكن عندما يذهب عليّ ليسأله، وقد جاءه سبي، أن يعيطهما منه من يساعدهما لإن عليا سقى حتى اشتكى صدره، وفاطمة طحنت حتى كلت يداها واخشوشنتا، يرفض صلوات الله عليه: "والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم، لا أجد ما أنفق عليهم، ولكني أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم". ثم ما يلبث أن يذهب إليهما وقد دخلا في قطيفتهما إذا غطت رأسيهما تكشفت أقدامهما وإذا غطيا أقدامهما انكشف رأسهما، وقال لهما: "ألا أخبركما بخير مما سألتماني؟ قالا: بلى بلى، فقال: كلمات علمنيهن جبريل عليه السلام، فقال: تسبحان في دبر كل صلاة عشرا وتحمدان عشرا وتكبران عشرا، وإذا آويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثا وثلاثين واحمدا ثلاثا وثلاثين وكبرا أربعا وثلاثين ..." وتتابع الروايات وتتوالى الصفحات ولا نرى فاطمة إلا عاملة مجهدة مثقلة بالأعباء، تمر الأيام ولا يكاد يدخل جوفها طعام وجسدها الضعيف يرهقها بالمرض أو الحمى، ويسألها نبي الله عن حالها فتقول: "إني لوجعة"، ثم تقول: "وإنه ليزيدني أني مالي طعام آكله". وتدمع عين النبي المفدى: "يا بنية أما ترضين أنك سيدة نساء العالمين؟" وحين يمر عليها وهي تطحن بالرحى وعليها كساء خشن يبكي لمرآها وهو يقول: "تجرعي يا فاطمة مرارة الدنيا لنعيم الآخرة".

همس الرسول في أذنها وهو في مرضه الأخير فبكت ثم همس ثانية فضحكت، فسألتها السيدة عائشة تفسير الضحك والبكاء في لحظتين متقاربتين فقالت فاطمة: "ما كنت لأفشي سر رسول الله". فلما توفاه ربه أعادت عائشة سؤالها، فأخبرتها فاطمة بأن الرسول كان قد أنبأها بأن الأجل قد اقترب فبكت، ثم أنبأها بإنها أسرع أهله لحوقا به فضحكت.

وعاشت الزهراء بعد وفاة الرسول ستة أشهر تترقب متلهفة لحظة تحقيق النبوءة لتلحق به ولم يرها أحد تبتسم بعد رحيل النبي المفدى. يزيد من حزنها غضبها النابع من رؤيتها أن الحق يؤخذ من أصحابه وكان موقفها واضحا حاسما جابهت به أبا بكر وعمر، لا طمعا في دنيا وهي تعلم أنها على بوابة الرحيل ولكن إحقاقا لما شهدت أنه حق ومصلحة للإسلام والمسلمين. وحين استشعرت قرب الرحيل سألت صاحبتها أن تسكب لها غسلا، قالت صاحبتها فسكبت لها فاغتسلت كأحسن ما كانت تغتسل ثم طلبت ثيابها الجديدة ولبستها ثم قالت: قد اغتسلت فلا يكشف لي أحد كتفا.
ثم شاءت أن توارى في شيء فقالت لها صاحبتها أسماء بنت عميس، إني رأيت في الحبشة يعملون السرير للمرأة ويشدون النعش بقوائم السرير، فأعجبها ذلك وقالت: سترتموني ستركن الله. واستقبلت القبلة وهي تبتسم لأول مرة منذ وفاة الرسول المفدى والأب الحبيب، وحملها عليّ ليلا كما أوصته ليدفنها ومن دون أن يخبر بجنازتها أحدا والحسن لم يتجاوز الثامنة والحسين لم يتجاوز السابعة وزينب تتعثر في الخامسة وأم كلثوم دون ذلك.

* فاطمة سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم ابنة عمران،

* إذا كان يوم القيامة نادى مناد: يا معشر الخلائق طأطئوا رؤوسكم حتى تجوز فاطمة عليها السلام،

* إذا كان يوم القيامة نادى مناد من وراء الحجاب: غضوا أبصاركم عن فاطمة بنت النبي محمد حتى تمر.


فديتك عمري يا فاطمة بنت محمد، وسلام عليك يا ابنة رسولنا المفدى، يا زهراء، ومازال أبناء الإسلام  يأتون مرابطين إلى يوم القيامة، يغضبهم سيدتي ما يغضبك، ويريبهم جدتي ما رابك، لأنهم يعلمون أن ما يغضبك يغضب الرسول وما يغضب الرسول يغضب الله سبحانه وتعالى، الذي أرسل أباك بالهدى ودين الحق مبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا.

الخميس، 5 ديسمبر 2013

أكلة لحوم البشر

رؤيا صافي ناز كاظم

ساحة لا تفصح عن دلالة محددة، قد تكون فناء سجن أو فناء معسكر أو فناء لأي تجمهر ما. الفناء ملئ بالناس وهم كذلك غير محددين؛ خليط رجال ونساء، يمكن أن يكونوا مثقفين وسجناء سياسيين ويمكن أن يكونوا من عامة الناس مجتمعين بسبب مولد أو مهرجان أو معسكر تجمع شعبي، يبدون جميعا متساوين في الأهمية وفي الحقوق والواجبات لكن هناك الشعور بأن مجموعة من بينهم هي المسيطرة في الحقيقة وهي التي تملك تحريك الدفة وحدها بإرادتها الخاصة، وهي مهيمنة بالفعل بشكل كامل إلى درجة البراعة في إخفاء حقيقتها المهيمنة وناجحة في الإختفاء التام بحيث لا يمكن التعرف بسهولة على أفرادها أو أعضائها وقادرة على ترسيخ الثقة لدى الجميع بأنهم أحرار يجتمعون ويتفرقون ويتصرفون وفق إرادتهم وأنهم يمرحون تحت حماية طقس ديموقراطي خالص.

لقطة شاملة تؤكد الانطباع السائد بالمساواة بين الجميع؛ حيث لا علامات مميزة ولا وجوه بارزة على نحو خاص. تتحدد اللقطة تدريجيا: تقترب وتشمل قطعا جزئيا من التجمهر يتبين فيه وجهي ووجه إمرأة شابة كستنائية الشعر المصفف بعناية مع درجة إحمرار زائدة في بعض تموجاته بسبب إستعمالها للصبغة؛ منمقة الملبس والملامح، تعطي إنطباعا مقصودا بأنها متحضرة وتعرف اللياقة والأصول، تبدو ودودا طيبة لكن تحت طيات عينيها تكمن قسوة باردة. تظهر في اللقطة كذلك وجوه غير محددة تتناول طعاما بلذة فائقة. الطعام شئ أبيض مفروك مطبوخ بالخل والثوم ويأكلونه بالملاعق من أطباق مقعرة مثل أطباق الكشري اللذيذ في مطاعم القاهرة المتخصصة في تقديمه.

اللقطة مستمرة لكنها تزداد تحديدا ويشحنها شعوري الصامت الداخلي بالتخوف من المرأة ذات الشعر المصبوغ. يتعاظم خوفي عندما تنظر إلي بنظرة لا تستغرق نصف ثانية. يشملني خاطر فوري يتحول إلى يقين بأنها واحدة من الجماعة المهيمنة وأنها مكلفة بمراقبتي، وهنا يتحول تخوفي إلى مقت شديد لها يتبدى على وجهي على الرغم مني، في اللحظة ذاتها يبدو أن المرأة قد أدركت ما يعتريني فتنظر إلي وتبتسم محاولة أن تطمئنني فيتزايد مقتي لها. طوال هذا التحول الداخلي الصامت الذي يشغلني ألاحظ عملية الأكل المستمرة والتي تتم بشهية وتلذذ كبير يغمر الآكلين. فجأة يقول لي أحد الآكلين بتلقائية وكرم: ألا تتناولين معنا الغداء؟ أجيب بمودة وتشكك: أخاف يكون لحم خنزير. يجيب الرجل بظرف ورقة بالغة مع تقوى واضحة: أستغفر الله العظيم ياشيخة؛ لحم  الخنزير حرام لكن هذا لحم بني آدم. تفلت مني صرخة وأنا أدق صدري: ماذا؟ تأكلون لحما بشريا؟ هنا تتدخل المرأة ذات الشعر المصبوغ قائلة ــ ( متخذة أسلوب الإنسان الناضج العلمي واسع الأفق الذي انتهى منذ وقت طويل من مناقشة التفاصيل الصغيرة والذي يجد نفسه مضطرا أحيانا لمناقشة عقول غبية ما زالت تتمسك بالشكليات!) ــ : نعم؟ هل ستخرجين ببدعة أن لحم البشر حرام أيضا؟ أقول باندفاع وثورة غالبة تلون كلماتي: طبعا وأقول بكل ثقة إن لحم البشر محرم دينيا! ترد المرأة بهدوء وصبر العالم المدرب على مناقشة الجهلاء: هاتي لنا آية من القرآن! أجيبها بقوة وحماس تغالبه الدهشة لأن علي أن أجلب الأسانيد لإثبات بدهية تحريم أكل لحم البشر: "أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه؟". هنا تضحك المرأة براحة من انتصر أخيرا بسلاح أعدائه، ومن دون أن تفقد قدرتها على إعطاء الانطباع بأنها علمية ومتحضرة وتعرف اللياقة والأصول تقول: طبعا الميتة والدم ولحم الخنزير حرام، لايجادل أحد في ذلك، لكن هذا اللحم الذي نأكله ليس ميتة، نستغفر الله، هذا ياسيدتي لحم ناس ذبحناهم بأيدينا!

تتركز اللقطة على وجهي وتعكس حالة جزع كامل وغثيان، وأصمت تماما حين أقرر داخليا الامتناع عن مواصلة المناقشة. ألاحظ أن الآكلين على الرغم من استمرارهم في الأكل قد فقدوا جزءا من شهيتهم كأنه قد طرأ على ذهنهم فجأة احتمال أن أكون أنا التي على حق ويكون لحم البشر محرما حقا!

اللقطة عامة وتظهر بها المرأة وهي تنصرف عني باسمة تقول: ألم تقرئي أن ألذ لحم مطبوخ هو لحم البشر؟ ــ (أتذكر أنني قرأت ذلك منذ سنوات في مجلة ريدرزديجسيت الأمريكية) ــ تنتهي مرحلة الأكل وأعرف أن الجميع يتهيأ لمرحلة غلق الأبواب. أفكر بسرعة: لابد أن أهرب قبل أن تغلق الأبواب. يقين كامل بأن محاولتي للهرب ستكون فاشلة؛ فأنا مراقبة والمجموعة المهيمنة مسيطرة تماما لدرجة أنها لا تتدبر أمر احتمال بأن هناك من قد يفكر في الهرب. اللقطة على وجهي وقراري حاسم نهائي: سأحاول الهرب مهما كان اليقين بأني سأفشل. أجري وأفلت في اللحظة التي ينغلق فيها الباب ــ (الباب ضخم ويشبه باب سجن القناطر للنساء).

طريق مفتوح خلاء. أجري أجري أجري وأنا متأكدة أن يدا ستمتد في كل لحظة للقبض على كتفي. بعد فترة من الجري الفزع بلا وعي أتمالك نفسي وأجرؤ على النظر خلفي ولدهشتي أجد أنني نجحت في الهرب وقد أفلت تماما من خطر السيطرة علي واستعادتي.

سوق كبيرة مكتظة بالناس أدخله وأنا ألهث من الجري والفزع وأبادر بالسؤال: بالذمة أليس أكل لحم البشر حرام؟ الناس مجتمعة حولي وأنا أستفتيهم في أكل لحم البشر وأتعجب إذ أجدهم متفقين معي بلا مجهود: طبعا أكل لحم البشر حرام!
يجيئ دوري لألتقط أنفاسي وأرتاح، وباطمئنان أشير إلى جهة المكان الذي يأكلون فيه لحم البشر: هناك يذبحون الناس ويطبخون ويأكلون لحم البشر!

تأتي معي مجموعة مستطلعة الأمر الذي حكيت عنه. نصل المكان الذي كنت به وأنا واثقة أن المرأة عنيدة وقوية ولن تتنازل عن اقتناعها بأن ذبح البشر وأكلهم حلال، أشير إليها وإلى الآكلين مستعدة لمعركة: هؤلاء يذبحون ويأكلون لحم البشر بالخل والثوم! أتفاجأ بالمرأة ترتبك وتتخاذل وتقول: غير صحيح.. غير صحيح! قبل أن أتهيأ لتكذيبها يواجهها الآكلون بشجاعة تأتيهم بغتة: لاااااااااااااااااااااااه قفي ! تتحدد اللقطة على وجوههم كشهود: نعم؛ نحن نذبح ونطبخ ونأكل لحم البشر وافتحوا الثلاجات بالداخل تجدونها مليئة بخزين من لحم البشر المجمّد!

يتولى الناس أمر المرأة واستجوابها بينما أنصرف أنا إلى الآكلين وأسألهم: هل لاحظتم غيابي توا؟ قبل أن يجيبوني يقرع أذني صوت المرأة حديديا مع لقطة مكبّرة لوجهها وقد اختفت منه المودة والطيبة وتأكدت فيه القسوة الباردة: لقد بحثنا عنك شهرين كاملين! تساءلت: من أنتم؟ قالت: العجلة الداخلية!

تتركز اللقطة هذه المرّة على يديها وألحظ  نقشا دقيقا، بخاتم صغير في إصبع المرأة البنصرفي يدها اليسرى: الدائرة وبداخلها المثلثين معشقين في شكل نجمة سداسية بقلب عجلة روتارية.