الخميس، 30 ديسمبر 2010

عام التطاول اللاديني على الإسلام

ذهب 2010 والحمد لله، وسيكون حضرته الشاهد على الإفراط في التطاول اللاديني على الإسلام؛ الذي "تفهلو" بعض عشاق "الفهلوة" بتسميته "الدينوقراطية"!

الحقيقة التي لا لبس فيها هي أن الخلط، الذي اعتمده البعض بالمصطلحات غير الإسلامية ومحاولة إقحامها على "لإسلام"، قاصدين أو جاهلين، مثل "الأصولية"، و"الثيوقراطية"، و"المدني" و"الديني"، حتى صارت مفردات النقد والنقاش والجدال و"المحاور" الثقافية؛ قد أدى بنا، في منطقتنا العربية والإسلامية إلى زياط وهرج ومرج والتباسات شديدة تخلقت معها فتن عظيمة أوصلتنا إلى الالتصاق بظهورنا إلى الحائط لنقول بصوت واهن: "الإرهاب ليس الإسلام، الإرهاب غير المقاومة، يمكننا أن نكون مسلمين وغير إرهابيين... إلخ". وفي هذا الركن المتخاذل المهين، الذي زُجّ بنا فيه، تشجعت عقيرة الأعداء المتوارين ليعلنوها صراحة: "لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين"، كأن "الإسلام" مجرد "دين" وليس، كما تعلّمنا وعلِمنا يقينا أنه: "دين ودولة". كأن رسولنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لم يقرأ علينا تنزيل الوحي الإلهي في سورة "النساء"، آية 65: <فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً>، وكأن الخليفة الراشد أبو بكر لم يقرر "سياسة" حكمه بهذه المقولة الحاسمة: "أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم".

لقد قلت منذ سنوات بعيدة للأستاذ الدكتور لويس عوض، وكان يكتب عن "الثيوقراطية"، أي الدولة الدينية في تاريخ الحضارة الغربية: "يا دكتور نحن لسنا
على استعداد لسداد فواتير أخطاء الكنيسة الغربية وما فعلته بالدول الأوربية!".

العقيدة الراسخة لدى المواطن المسلم، على أرض الإسلام أنه: يجب أن يُحكم بالإسلام وقوانين الإسلام، ومنذ أُرغمنا في بلادنا على صياغة القوانين وفقاً للقانون الروماني تارة، والفرنسي تارة أخرى، وغيرهما، ومحاولة تمريرهما على الناس بكلمة غير فعالة تهادن في الدستور: "دين الدولة الإسلام"، منذ ذلك الحين ونحن في ارتباك شديد وتخليط لا يرضى عنه أحد، فلا هو أراح المواطن المسلم، ولا هو أراح المواطن غير المسلم، ولا هو أشبع طمع العلماني اللا ديني؛المتخفي وراء لافتة الليبرالية، الذي يجهر الآن بالمطالبة بإلغاء ورقة التوت وأعني فقرة "دين الدولة الإسلام" من الدستور المصري، لتكتمل أركان "الدولة المدنية" المزعومة، التي يرونها أملهم المنشود لتكبيل المسلم على أرضه وإغلاق فمه إلى الأبد فلا ينطق بحرف من قانون الشرع الإلهي، وتتحول شهادته: "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، إلى همسة خافتة يتعهد بها في صلاته ويخالفها على مدار حياته اليومية، ويصبح كل معارض لهذا المصير المروّع: أصولياً، إرهابياً، ثيوقراطياً، دينوقراطيا ، متآمراًعلى الدولة المدنية! ومن لا يصدقني يتفضل بقراءة عناوين من نمط: "أبعاد المؤامرة الأصولية على علمانية مصر ومستقبلها الاجتماعي" ، وأمثالها الكثير، فخندق العلمانيين واللادينيين ملآن بما يثلج قلب الكيان الصهيوني وكل مؤازر له في عدائه للإسلام ومتعاون معه لمحاربته؛ هؤلاء، الذين عادوا يجهرون، فيما يجهرون به من عداء صريح للإسلام، بعظمة مصطفى كمال أتاتورك ويرونه البطل الذي ملأ كوب تركيا بالماء النظيف (العلمانية) بعد أن أفرغه من الماء القذر (والمقصود مفهوم)!

وأهلا بـ 2011 فهو لن يضيف الغريب ولا العجيب والله فعّال لما يريد.


الأحد، 26 ديسمبر 2010

علمانية التنوير‏(2-2)‏
بقلم: د.محمد عبدالفضيل القوصى


يتساءل أحد سدنة التنوير تساؤلا مبدئيا فيقول‏:‏ إذا كان الإسلام دنيا ودينا‏,‏ وإذا كانت العلمانية هي الدنيوية‏,‏ فلماذا رفض العلمانية ومعاداتها؟ ثم يتابع قائلا ـ بالنص الحرفي.


إن من يرفض العلمانية وينكرها فإنه يهدف في حقيقة الأمر إلي ارتهان الدنيا لصالح الدين‏,‏ كما يهدف أيضا إلي نفي الإنسان ونفي العالم‏.‏ مما يؤدي في النهاية إلي إحلال الله تعالي في الواقع العيني المباشر‏!!‏
لا يحتاج المرء ـ بادئ ذي بدء ـ إلي جهد كبير ليدرك أن هذا التساؤل المبدئي البرئ‏!!:‏ عن السبب في رفض العلمانية ومعاداتها‏:‏ ليس في حاجة إلي جواب‏,‏ بقدر ما هو باعث علي الدهشة والاستغراب‏,‏ فمن أبجديات المعرفة بالعلمانية أنها ليست مجرد الدنيوية وحدها‏,‏ بل هي الدنيوية التي تحمل في باطنها‏:‏ نفي ما عداها‏,‏ إنها الدنيوية مشروطة بإقصاء تشريعات الدين عن واقع الحياة‏,‏ وإزاحتها كضابط لسلوك البشر‏,‏ وتنحيتها كميزان توزن به تصرفاتهم وأفاعيلهم وأنماط سلوكهم‏,‏ وإلا‏..‏ فهل يتصور من يدرك أبسط بدهيات الإسلام أن يرفض الإسلام‏:‏ الدنيا حين تسترشد بأوامر الدين ونواهيه‏,‏ وتنضبط بتشريعه وتنظيمه؟ هل يتصور أحد يدرك من تلك البدهيات شيئا‏:‏ أن يرفض الإسلام ـ وهو الدين الذي نهضت علي قواعده تلك الحضارة الشامخة التي ازدهرت بها دنيا الناس علما ومدنية ـ‏:‏ تلك الدنيا ويعاديها؟
ثم تتوالي دعاوي علمانية التنوير‏,‏ بعضها فوق بعض‏:‏
ـ فأولي تلك الدعاوي المفتراة أن من يرفض العلمانية فإنه يهدف إلي ارتهان الدنيا لصالح الدين‏,‏ ومن ثم فإن العلمانية هي التي تتكفل ـ طبقا لهذا الزعم ـ بتحرير الدنيا من أن تقع رهينة للدين‏,‏ أو حبيسة في نطاق أوامره ونواهيه‏,‏ أو مضبوطة بضوابط نظمه وتشريعاته‏.‏
لو أنا تابعنا خطوات هذا المنطق التنويري حتي نهاياته القصوي لحق لنا أن نقول ـ بالمثل ـ إن القيم الوضعية البشرية ـ هي الأخري ـ ترتهن الدنيا‏,‏ وتحبسها في نطاقها‏,‏ وتكون قيدا علي حركتها‏,‏ وحينئذ فأي الارتهانين أصدق قيلا وأهدي سبيلا‏:‏ ارتهان الدنيا بقيم البشر النسبية الرجراجة حيث تكال قيم الحق والعدل والخير بمكيالين‏,‏ بل بعدة مكاييل‏,‏ أم ارتهانها بقيم الإسلام الثابتة ومعاييره الراسخة‏,‏ حيث تتصف تلك القيم بالمطلقية والديمومة‏,‏ فلا تميل مع الأهواء‏,‏ ولا تتأرجح مع الأغراض‏(‏ ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن‏)‏
وإذا نحينا حديث الارتهان جانبا فلماذا يترسخ في أذهان العلمانيين جميعا ـ ودون اسثناء ـ أن الدين والدنيا‏:‏ غريمان لدودان‏,‏ وأن أحدهما لا يكتب له بقاء إلا بإقصاء الآخر وإلغائه جزءا أو كلا؟ ألا ينطوي كيان الإسلام ـ تاريخا وحضارة وعمرانا ـ علي حقيقة متجذرة في بنيته العميقة‏,‏ وهي ذلك التآزر المصيري الجوهري بين الدين والدنيا‏,‏ والذي بدونه ـ أعني هذا التآزر ـ ما قامت لهذا الكيان الشامخ قائمة‏,‏ برغم ما اعتراه في بعض فترات التاريخ من عثرات ونتوءات‏,‏ تملك الأمة ـ في مذخورها الذاتي ـ ما يمكنها من تجاوزها وتلافي مسبباتها؟
ـ وثانية تلك الدعاوي التنويرية المفتراة‏:‏ أن من يرفض العلمانية فإنه ـ برفضه هذا ـ ينتهي إلي نفي الإنسان والعالم‏,‏ ومن ثم ـ فإن رفع لواء العلمانية ـ طبقا لهذه الدعوي ـ هو الذي يضمن للإنسان والعالم جميعا أن ينعتقا من هذا النفي‏,‏ وأن يعودا إلي موقعهما في خضم الحياة‏,‏ بعد أن نفاهما الدين وأسقط اعتبارهما‏!!‏
وللمرء أن يتساءل‏:‏ أي إنسان هذا الذي نفاه الإسلام‏,‏ وهو الكائن الذي كرمه الله تعالي وفضله علي كثير من خلقه‏,‏ وأسجد له الملائكة‏,‏ وجعله الخليفة في الأرض؟ وأي عالم هذا الذي نفاه الإسلام‏,‏ وهو الكون الذي جعله الله تعالي مجلي لاسمائه الحسني‏,‏ ومظهرا لصفاته العليا‏,‏ وأتقن صنعه‏,‏ وأحسن تدبيره ؟؟
فهل ينتفي هذا الإنسان وذاك العالم‏,‏ وتذوب حقيقتهما‏,‏ وتذوي كينونتهما حين يطيع هذا الإنسان في رحاب ذلك العالم‏:‏ أمر ربه ونهيه‏,‏ وشرعه وقضاءه؟
وأي عقل رشيد يعـي أبسط مقتضيات الألوهية والربوبية ثم يذهب به الشطط إلي أن الإنسان والعالم كليهما لا يدرءان عن نفسيهما النفي ـ كما تزعم علمانية التنوير ـ إلا بالتمرد علي الأوامر والنواهي الإلهية‏,‏ والتخلص من تبعة الالتزام بها؟
أفليس تمرد الإنسان علي التشريع الإلهي‏,‏ وخلو العالم من أوامر الله تعالي ونواهيه‏:‏ هو الذي يؤدي إلي النفي الحقيقي للإنسان والعالم‏,‏ لأنه يبتر صلتهما بالميزان الإلهي الذي وضعه الحق سبحانه في عمق أعماق الكون‏,‏ وإلي تشويه الغايات القصوي من الوجود‏,‏ وانحصارها في آفاق الحياة الآنية المحدودة‏,‏ بل وإلي اغتراب الإنسان عن عمقه الروحي المتأصل في أعماق ذاته ؟
أي نفي أشقي للإنسان و العالم حين تنحصر غايات ذلك الإنسان في رغائب ذاته‏,‏ وتنحسر تحت سقف دنياه‏,‏ بلا امتداد إلي ما وراءهما‏:‏ أو استشراف إلي ما فوقهما؟‏!‏
وثالثة تلك الدعاوي التنويرية المفتراة أن من يرفض العلمانية ثم يلتزم بعدئذ بشرع الله تعالي‏:‏ فإنه يقوم بإحلال الله تعالي في الواقع العيني المباشر‏.‏
وربما كانت هذه الدعوي أكثر أخواتها جرأة وجسارة‏,‏ لكنها أظهرها تهافتا وبطلانا‏,‏ فاعتقاد المسلم أنه‏(‏ إلي الله ترجع الأمور‏)‏ وأنه تعالي‏(‏ علي كل شيء قدير‏)‏ من جهة‏,‏ ومن جهة أخري بأنه مكلف بالتزام شرع الله تعالي ومنهجه في الكون‏:‏ يشكلان جانبا جوهريا من عقيدته الصحيحة‏,‏ لكن أخطر في الأذهان ـ ولو لبرهة من الزمان ـ أن شيئا من ذلك مؤد إلي إحلال الذات الإلهية في الواقع العيني المباشر‏,‏ أم أن إيمان المسلم بعالم الغيب المفارق لعالم الشهادة يتسامي به عن هذا التصور ويعصمه من الانزلاق إليه والوقوع فيه؟
ثم أي عقل هذا الذي يتوهم أن إرجاع المسلم لشئون الكون كلها إلي الله تعالي غاية ومصيرا‏,‏ أو أن امتثال أوامره واجتناب نواهيه‏:‏ تمثل إحلالا له سبحانه في عالم الحس المباشر‏,‏ وهو الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير؟؟
ومن العجب أن فريقا من الذين ينتمون إلي السلفية المدعاة يشبهون أصحاب هذه الدعوي المفتراة في شيء مما يزعمون‏,‏ ـ برغم تنائي الديار ـ‏!!,‏ وذلك حين يتدني التصور الاعتقادي التنزيهي لديهم إلي أفهام حرفية ضيقة لنصوص الكتاب والسنة تدنو بهم إلي قريب من درك التشبيه والتجسيم‏!!‏
ثم أقول أخيرا‏:‏ أي مصير بائس ستؤول إليه شخصية الأمة حين تصاب بهذا الانقسام الحاد في بنيتها الفكرية الواعية بين دنيا يراد لها أن تنفصل عن الدين‏,‏ وبين دين يراد له أن يفرغ من مضمونه‏,‏ ويجرد عن دوره ؟ والخاسر في ذلك كله هو الإنسان؟‏!‏

الأربعاء، 22 ديسمبر 2010

من أرشيفي


     
أشرح الخبل كله أم من الخبل اختصر؟
يلفون ويدورون ويقومون ويقعدون، ولا يكفون عن التحرش، وكأن الدنيا لم يعد يخربها سوى أن دين دولة مصر هو «الإسلام»، وأن خانة توضيح «الديانة» لا تزال قائمة في الأوراق الرسمية.

يلتصقون بالسلطة، يبتسمون لها ويسبلون لها رموش أجفانهم في عشق القائل: «إنت تؤمر يا جميل»، من أجل أن يبلغوا مأربهم: «محو التدين». وحين تلوي السلطة عنقها عنهم وتحول ناظريها إلى مصلحتها، التي لا تراها في التصادم مع نبض الشارع، يرتفع صراخهم، كأنه معارضة حرة: «السلطة تتملق المشاعر الدينية»، ويهز السيد المواطن رأسه وهو مغمض عين وفاتح أخرى: «طيب وماله؟ سلطة واعية!»

إنهم هؤلاء الذين دأبوا على احتكار لقب «المثقفين»، وأغلبهم لا يعرف من الثقافة سوى عنوان كتاب: «لماذا أنا ملحد»، ينطقونه بتلمظ وفخر، على الرغم من أن معظمهم يخلط دائما في اسم مؤلفه «إسماعيل أحمد أدهم» مع كاتب آخر أكبر منه اسمه «إسماعيل مظهر».

هذا الذي يسمونه كتاب «لماذا أنا ملحد»، لا يعدو كونه كراسا نحيلا لا يزيد عن 13 صفحة، كتبها مخبول عام 1937 وانتحر بعدها بثلاث سنوات في 23 يوليو عام 1940 غريقا في بحر عروس البحر الأبيض المتوسط الإسكندرية، وإسماعيل أحمد أدهم، المولود في 13 يناير سنة 1911، صاحب هذه الأوراق «العبيطة» التي تعود لتطفو هذه الأيام عوامة يتعلق بها حضراتهم في نضالهم المكثف من أجل إنقاذ مصر من «الإسلام» و«التدين» و«الإيمان» والعياذ بالله من شياطين الإنس والجن.

عندي صورة من هذا الكراس تفضل بها علي الأستاذ العلامة الناقد والكاتب الكبير وديع فلسطين، بناء على طلبي، بعد أن صار الكلام عن هذا الكراس نشيدا يتغنى به في كل محفل وناد، ولو من دون قراءة له أو بيانات صحيحة عنه، تبدأ من أول الخطأ كما ذكرنا في اسم مؤلفه.

النسخة المصورة لدي تفيد بأن الكراس منقول «عن مجلة الإمام، أغسطس 1937»، وبها هذا التنويه: «هذا الكراس الذي ظل، وكل فكر أدهم المتشعب الاهتمامات، معتم عليه ما يقرب من نصف قرن، عثرت عليه السيدة س... نقطة شكر يزفها إليها المنسيون».

ولا أدري أنا من أين أبدأ حساب النصف قرن، أمن تاريخ نشر الكراس فتكون إعادته للنشر سنة 1987؟ أم تاريخ موته منتحرا فيكون النشر المجدد سنة 1990؟ ما علينا، حروف طباعة الكراس تدل على أنه صورة من أصل تم نشره 1937، وبه ثبت يزعم أنها مؤلفات أدهم وهي: 1 ـ نظرية النسبية بالألمانية والروسية في ثلاثة مجلدات. 2 ـ الرياضيات والفيزيقا بالألمانية والروسية في مجلدين. 3 ـ حياة محمد ونقدات تاريخية بالألمانية في مجلد. 4 ـ تاريخ الإسلام بالتركية في ثلاثة مجلدات. 5 ـ من مصادر التاريخ الإسلامي بالعربية. 6 ـ أبو شادي الشاعر بالإنجليزية. 7 ـ التوران في مجرى التاريخ بالتركية. 8 ـ الزهاوي الشاعر بالعربية.

هذا الثبت الذي يزعم أن الكتب المذكورة مؤلفات إسماعيل أحمد أدهم، حروف طباعته حديثة، فلعل هذه الكتب كانت المراجع التي استند إليها اسماعيل أدهم في كتابة كراسه وليست مؤلفاته، خاصة وأنه مات وعمره 29 سنة، وأنه يستند في برهانه إلى عقيدته الإلحادية إلى ما يقول هو بنفسه عنه: «.. هذا كلام رياضي صرف ومن الصعب التعبير في غير أسلوبه الرياضي، وليس كل إنسان رياضي عنده القدرة على السير في البرهان الرياضي... أما أنا فلا أجد هذه الصعوبات إلا شكلية، والزمن وحده قادر على إزالتها، ومن هنا لا أجد بدا من الثبات على عقيدتي العلمية والدعوة لنظريتي القائمة على قانون الصدفة الشامل الذي يعتبر في الوقت نفسه أكبر ضربة للذين يؤمنون بوجود الله».

في مطلع الكراس، استشهد إسماعيل أدهم ببيتين من قول جميل صدقي الزهاوي، بعد مطالعته «عقيدة الألوهية» للدكتور أحمد زكي أبو شادي، والبيتان هما:

«لما جهلت من الطبيعة أمرها

وأقمت نفسك في مقام معلل

أثبت ربا تبتغي حلا به

للمشكلات فكان أكبر مشكل»

وفي مقدمته تحت عنوان «توطئة»، نعرف من السيد إسماعيل أدهم، أن والده كان مسلما شديد التمسك بدينه، وأمه مسيحية بروتستانية ابنة البروفيسور وانتهوف «الشهير»، ولكنها ماتت وإسماعيل أدهم في الثانية من عمره، فعاش سنوات الحرب العالمية الأولى مع شقيقتيه في الآستانة وكانتا تلقنانه تعاليم المسيحية، وتسيران به كل يوم أحد إلى الكنيسة، وإن أفاد بعد ذلك بأن الشقيقتين «كانتا قد درجتا على اعتبار أن كل ما تحتويه التوراة والإنجيل ليس صحيحا، وكانتا تسخران من المعجزات ويوم القيامة والحساب، وكان لهذا كله أثر في نفسيتي».

كراس «لماذا أنا ملحد» لا يهدد المؤمنين ولا يستحق جهد الرد الذي بذله في وقت صدوره العلامة محمد فريد وجدي بكتابه «لماذا أنا مؤمن»، فهذا الكراس على العكس، يؤكد قدر الخلل والارتباك والتخبط الذي عانى منه المسكين «إسماعيل أحمد أدهم»، وأتباعه الصارخون بعنوان كتابه والمختلط عليهم اسمه!

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.



الاثنين، 20 ديسمبر 2010

تحالف اللادينية والصهيونية



أنتجت النظريات العنصرية لفلاسفة الإستخراب الغربي، القائلة بتفوق الجنس الأبيض ،نموذج هتلر فخرج بحربه العالمية ـ 1939 \1945 ـ يدمر براية تفوق الجنس الآري، يريد أن يخضع العالم لتفوقه العرقي الموهوم ، وذاق العنصريون الغربيون طعم لحمهم المر المسموم.

أنضج هتلر على وقود أفرانه ، التي زج فيها معارضيه من يهود وغيرهم ، خرافة الشعب المختار، ففي قاع المذلة التي وجد الرجل الأبيض ، المنتمي إلى اليهودية ، نفسه فيها تولدت عنده هلوسات جنون العظمة.  لقد رأى أنه أوروبي وأبيض لكنه مرفوض ليهوديته ممن هم في الواقع أهله وجنسه وأبناء وطنه، عاش في أحياء منعزلة، سخروا منه في آدابهم وفنونهم وممارسات حياتهم اليومية، لفظوه بقسوة رغم وحدة اللون والملامح والجنس والأرض، وكان حتما أن تركبه مركبات النقص التي كان لابد أن تتولد منها صيغة مرضية للعظمة مشابهة للصيغة العنصرية ، التي تقول بتفوق الجنس الأبيض، غير أنها بالغت في الجنون بقولها: أنا شعب الله المختار، وهذا العالم كله بناسه ومخلوقاته خلقه الله من أجلي ليخدمني بصفتي السيد وهو العبد!

إتفقت المصالح الغربية ، بلادينيتها، على إتاحة المجال لإنطلاق الحركة الصهيونية ودعمت منطقها، الذي اعتمد صيغة شعب الله المختار وحقه فيما سمته أرض الميعاد على أرض فلسطين، وزورت لها الوثائق والحكايات والأساطير، ونبشت لتسرق تراث الجنس البشري كله وتنسبه لنفسها ، ولعلنا لم ننس بعد لغة النصب والإحتيال التي تكلم بها اسحق رابين وهو يتسلم جائزة نوبل ويسرد بها المساهمات الثقافية والعلمية والفنية التي أثرى بها، ماسماه الشعب اليهودي، تراث الإنسانية على مر الأزمان ذاكرا من تلك الإسهامات "الأهرامات" و "أشجار الزيتون والبرتقال" على أرض مصر وفلسطين!

إرتفع النداء لتجميع يهود العالم لينسلخوا عن أوطانهم وأجناسهم المختلفة ويصطفوا خلف الفكرة الصهيونية العنصرية في وحدة ترسخهم بزعم أنهم شعب الله المختار بينما كانت السكاكين تنزل من كل جانب تقطع أرحام المسلمين ليتفرقوا عن حبل الله تحت رايات لادينية قومية وعرقية ما أنزل الله بها من سلطان.  هذا رغم أن البون شاسع بين غاية تجميع المسلمين في أمة واحدة، تحتضن بين جنباتها كل الأجناس وكل الأديان، تساوي بين الأجناس وتعترف بكل دين سماوي، وبين غاية الصهيونية في تجميع يهود العالم لتصنع منهم شعبا متعصبا لايعترف بـ "الآخر" ولا بأي دين أو عقيدة تخالفه، يسرق الأرض ويأكل الحقوق ولا يبالي بعهد أو ذمة وينتهج القمع والإرهاب بوقاحة وحرية وحوش الغاب ، بزعم أن من حقه الدفاع عن "أمانه" ضد مقاومة ضحاياه، ويجد من يتعهد بدعمه ، ممن يسمون أنفسهم الدول الكبرى ، تحت مقولة غاشمة لا تتغير أكدها أوباما من على منصة جامعة القاهرة ، كأنها نص مقدس من نصوص الكتب المنزلة : "أواصرنا بإسرائيل غير قابلة للكسر!"

 نعم! تجمعت المصالح الدولية لتؤسس تحالفا عجيبا بين اللادينية والصهيونية من أجل أن  يكون لليهود الحق في إقامة دولة "دينية يهودية" ، بينما تتسيد بطانتهم بين ظهرانينا  لفرض اللادينية على المسلمين لتحرمهم التمتع بالعيش في كنف شريعتهم ، وقرآنهم يقول في الآية 65 من سورة النساء: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما".

وأسأله سبحانه أن يساعدني على مواصلة الكلام مستعيذة به من همزات شياطين الإنس والجن، ومن حضورهم!


الأحد، 19 ديسمبر 2010

إهداء إلى سواح في ملك الله حفظه الله

أصل وفصل اللادينية

يقول الأستاذ الدكتور توفيق الطويل أستاذ الفلسفة، في ضرورة الدين للفرد وللمجتمع، أن استقراء التاريخ من قديم الزمان يشهد بأن الشعوب لا تحيا بغير دين تعتنقه ، ومن ثم اهتم الملحدون من المفكرين والفلاسفة بالدين رغم رفضهم له ، وفي سعيهم للتوفيق بين رفضهم للدين مع اعترافهم بأهميته للإنسان أنكروا الدين المنزل بوحي إلهي وأنشأوا أديانا سموها حينا بالدين الطبيعي وحينا بالديانة الإنسانية ، ( وهي الرسالة المخبأة تحت طيات المناداة بما يسمى "الدولة المدنية" و " المجتمع المدني" التي لايكف الهادفون إليها عن التحرش بالمادة الثانية من الدستور المصري والزعق بهستيريا لتخليص الدستور من المواد الدينية التي تعتبر الإسلام دين الدولة ومصدر التشريع ، خيب الله سبحانه كيدهم آمين!).

يستعرض بحث الدكتور الطويل زعماء هذه الديانات المطروحة بديلة عن الدين الحق المنزل على أنبياء الله عز وجل، ومن بينهم المدعو أوجست كونت الذي يرى أن المجتمع في حاجة ماسة إلى مجموعة منظمة من العقائد تكون موضع اتفاق بين الأفراد جميعا، ولا يتيسر هذا إلا بإلغاء الأديان القائمة وصهرها في دين جديد يتمثل في عبادة الإنسانية من حيث هي فكرة تحل مكان الله في الديانات المنزلة!
 ( وهنا يجب أن نلحظ الكم الهائل من الخبث الذي تنطوي عليه أحاديث عن الإنسانية تمر من تحت أنف بعض السذج من دون أن يتشككوا في كونها وثنا معبودا إلى جانب أوثان أخرى، ما أنزل الله بها من سلطان، تعج بها مفردات اللادينيين).

تحت كلمة جميلة مثل "الإنسانية"، التي صنع منها الفيلسوف الملحد أوجست كونت ديانة إدعى أنها تحقق وحدة دينية للبشرية يتلاشى معها الشر والمنازعات...الخ ، لايتورع الفيلسوف الإبليس عن تقسيم للبشرية تفوح منه رائحة العنصرية المنتنة ، على الرغم من الكلمات المنمقة والشعارات المبهرة ، فحضرته يقسم البشرية إلى أجناس
 ثلاثة : الأبيض ويمثل الذكاء ، والأصفر ويمثل العمل ، والأسود ويمثل العاطفة! هذا الكلام العفن يعني بصريح العبارة سيادة وزعامة الجنس الأبيض متمثلا في العنصر الأوروبي وتراث حضارته الغربية سواء سكن أوروبا أو الأمريكتين أو أستراليا أو "الشرق الأوسط"!

هذه الرؤية الشوهاء، التي ترى في الصين واليابان حمار شغل، وترى في الجنس الأسود ـ الذي يضم إفريقيا والهند ـ الطبل والزمر والرقص وشهوات العاطفة ، لاترانا نحن العرب ، بأغلبيتهم المسلمة ، جنسا أبيض إنها ترانا خليطا لا يرقى للتصنيف من واجبه فحسب أن يكون بطانة، رضي البعض من أهلنا للأسف أن يكونوها، تغني معزوفات الرجل الأبيض العنصرية اللادينية بإعجاب شديد ، هذا بينما يقول لنا نبينا محمد بن عبد الله :" اتركوها إنها منتنة"، قاصدا العصبية القومية والقبلية والجنسية مؤكدا القاعدة التي ترتكز عليها النظرة الإسلامية للبشرية وللإنسانية: "كلكم لآدم وآدم من تراب ، لافضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي ، ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى!"

"التقوى": أي مخافة الله الذي خلقنا سواسية بالعدل والقسط والميزان ، للجميع الذكاء ، وللجميع قدرة وأدوات العمل ، وللجميع عاطفته ومشاعره ووجدانه. لاعذرلمن لايعمل، ولاعذر لمن لايحس ويشفق ويحب ويرحم ويتراحم. هذه النظرة الإسلامية الكلية للبشر والإنسانية تقودها كلمة الله "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، فنعلم أنه ليس هناك شعب مختار ولا جنس أرقى  ولا بطاقة مكتوب عليها التفوق لأحد أبد الآبدين.

وإذ يستمر كلامي إلى فرصة تالية بإذن الله أقرأ من سورة "المؤمنون" الآيتين الكريمتين 97 و98 :" وقل ربّ أعوذ بك من همزات الشياطين، وأعوذ بك ربّ أن يحضرون "، صدق الله العظيم.

لمن تفضل بالسؤال عن العلمانية

العلمانية‏..‏ في ثوب التنوير‏(1‏ ـ‏2)‏
بقلم: د.محمد عبدالفضيل القوصى

لا تكاد رياح الدعوة إلي العلمانية تخبو حتي تنبعث من مرقدها من جديد‏,‏ متدثرة بأردية مستحدثة‏,‏ وأزياء متجددة‏,‏ قد تختلف في مرآها ومظهرها‏,‏ لكن الجوهر المستكن وراء تلك المرائي والمظاهر يظل ثابت الملامح متصلب القسمات‏.‏
بيد أنه ينبغي لنا أن نعترف منذ البدء بأن العلمانية حين ارتدت ثوب التنوير لدي بعض سدنته بدت أكثر حنكة‏,‏ وأمهر أسلوبا‏,‏ ومن ثم أعمق احتياجا إلي مزيد من التأمل والتحليل‏!!‏
لقد كان دعاة العلمانية من قبل‏:‏ يسفرون عن وجوههم علانية ودون مواربة‏,‏ فالعلمانية لديهم تعني ـ ببساطة ـ فصل الدين عن مناحي الحياة‏,‏ وعزله عن واقع البشر‏,‏ فحسب الدين ـ فيما يشتهون ـ أن يقبع في ركن قصي من أركان الحياة البشرية‏,‏ الفردية منها والاجتماعية‏,‏ وأن يغلق علي نفسه دور العبادة ويستغرق في طقوسها‏,‏ ولا بأس عند أكثر العلمانيين سماحة‏!!‏ أن تهتز له المشاعر‏,‏ أو تهفو إليه العواطف‏,‏ أو تخفق له القلوب‏!!‏
بل‏...‏ لا بأس عند أكثر العلمانيين حذقا ومهارة أن تنبعث في دائرة الدين اتجاهات متحجرة تدعي الانتساب إلي السلف الصالح‏,‏ ثم تستخدم هذا الانتساب المدعي في صرف اهتمام جماهير الأمة‏:‏ تارة صوب قضايا كلامية عقدية ما كان ينبغي لها أن تغادر قاعات الدرس ومجالس العلماء‏,‏ وتارة صوب توجيه اهتمام هذه الجماهير إلي فرعيات فقهية لا تكاد تنفذ من المظهر إلي الجوهر في جمود فكري منغلق‏,‏ وشكلية حرفية متزمتة ضيقة‏.‏
لا بأس من ذلك كله‏...‏ متي توقفت خطا دور الدين عند هذه الحدود‏,‏ أما أن يضطلع الدين بدوره في تنظيم حياة البشر‏,‏ أو ضبط واقعهم أو توجيه مناشط سلوكهم‏,‏ فذلك كله ـ عند العلمانيين جميعا ـ هو المحذور المنكور‏!!‏
لكن سدنة التنوير ـ وإن كانوا علي ذلك من المجمعين ـ يتخذون في الدعوة إلي العلمانية والترويج لمبادئها منحي أكثر ابتداعا‏,‏ فبعد أن كانت العلمانية عند الأقدمين تسعي ـ ببساطة وعلانية ـ إلي عزل الدين عن المجتمع والحياة‏,‏ إذا بأحد أولئك السدنة يجهر قائلا‏:‏ من ذا الذي يملك قوة فصم الدين عن المجتمع والحياة ؟ إن العلمانية ـ كما يضيف بالنص الحرفي ـ هي الحماية الحقيقية لحرمة الدين والعقيدة والإبداع‏,‏ بل إن الإسلام ـ كما يقول في جرأة بالغة ـ هو‏'‏ الدين العلماني بامتياز‏,‏ لأنه لا يعرف سلطة الكهنوت‏!!‏
في سبيل التمهيد لهذه الأطروحة المبتدعة يقيم ذلك القائل تفرقة مصطنعة بين‏'‏ الدين‏'‏ من جهة و‏'‏الفكر الديني‏'‏ من جهة أخري‏,‏ فجميع ما سطره علماء المسلمين ومحققوهم‏,‏ فهما من القرآن الكريم والسنة المطهرة‏,‏ واستخراجا لدلالاتهما‏,‏ واستنباطا لأحكامهما‏:‏ يندرج تحت مسمي‏(‏ الفكر الديني‏)‏ الذي لا يمثل ـ في هذا الزعم ـ‏:‏ الدين نفسه وإنما هو عبدء عليه‏,‏ وقيد علي طلاقته‏,‏ بل إن هذا الفكر الديني‏:‏ يحمل إدعاء ضمنيا بالقدرة علي الوصول إلي‏'‏ القصد الإلهي‏',‏ دون إدراك أنه بذلك يدخل في منطقة شائكة‏,‏ هي منطقة الحديث عن الله‏!!‏
والذي تهدف إليه العلمانية ـ حسب هذا الفهم الكليل ـ إنما هو إزاحة هذا‏'‏ الفكر الديني‏'‏ وليس الدين نفسه‏!!‏
لكن هذه الأطروحة التنويرية تتضمن في خبيئتها الخادعة‏:‏ دعوة جهيرة إلي تجريد الدين نفسه ـ ممثلا في القرآن الكريم ـ من كل دور في واقع المسلمين‏,‏ وذلك بإهدار جميع‏'‏ دلالاته‏'‏ التي حملها إلي البشرية من الأوامر والنواهي والتشريعات الاجتماعية والحياتية‏,‏ والتي ضبطت معاقدها‏:‏ جحافل من أفذاذ العلماء والمحققين علي مدي التاريخ الإسلامي‏,‏ بزعم أن ذلك كله يندرج تحت مسمي‏(‏ الفكر الديني‏),‏ لكي يصير هذا الدين ـ بعد تلك‏'‏ التعرية‏'‏ ـ‏:‏ مجردا من مضامينه الدلالية‏,‏ خاوي الوفاض من توجيه المجتمع‏,‏ وضبط حركته‏,‏ قابلا لكل‏'‏ قراءة‏'‏ شاردة‏,‏ أو هوي منفلت‏,‏ ثم تصحو الأمة بعدئذ علي‏'‏ دين‏'‏ قد أفرغ من محتواه إفراغا‏,‏ ولم يبق منه سوي‏'‏ إطارات‏'‏ عامة مفتحة الأبواب‏,‏ لا تستعصم في وجه فكر جانح أو رأي زائغ‏,‏ ثم تكتمل حلقات تلك الهجمة التنويرية المستحدثة بما يلوح به صاحبها ـ ترهيبا وتخويفا ـ بأن هذا‏'‏ الفكر الديني‏'‏ حين يضبط دلالات النصوص الشرعية‏,‏ أو يرسخ في وعي الأمة‏:‏ الأصول المستنبطة من الكتاب والسنة فكأنه ينفذ إلي‏'‏ القصد الإلهي‏'‏ ويتحدث باسم الله‏!!‏
ولا يمكن للمرء في هذا المقام إلا أن تعتريه الدهشة من هذه القدرة الفائقة علي خلط المفاهيم في جرأة بالغة واقتحام جسور‏,‏ فهل يمكن لامرئ تمرس بشيء من المعرفة بالإسلام أن يغفل عن تلك البدهية العظمي من بدهيات الإسلام وهي أن القرآن الكريم ما أنزله الله تعالي إلي البشرية إلا رسالة خاتمة ناطقة‏'‏ بمرادات‏'‏ الله تعالي من البشر‏,‏ أمرا أو نهيا‏,‏ قضاء وتشريعا‏,‏ سلوكا وتطبيقا‏,‏ لكي تحاسب تلك البشرية عليها بعدئذ طاعة أو معصية‏,‏ ثوابا وعقابا؟
وهل يمكن لذي عقل مستقيم إلا أن يفهم أنه لابد لتلك الرسالة الجليلة ذات الخطر العظيم‏:‏ أن تكون كاشفة عن تلك المرادات كشفا لا إبهام فيه ولا إيهام‏,‏ وإلا فكيف يتم إلتزام تلك الطاعة أو اجتناب تلك المعصية إن لم يكونا ـ من الوضوح والبيان ـ علي أتم درجاتهما وأكمل مراتبهما؟
ثم أي فهم إذن هذا الذي يدعي أن هذا الوضوح والبيان الذي نطقت به آيات هذا الكتاب المعجز‏,‏ الذي اضطلعت بتفصيله جهود علماء الأمة إنما هو‏'‏ولوج‏'‏ إلي المنطقة الشائكة وهي الحديث‏'‏ باسم الله‏'‏ ؟
كيف يصح في الأذهان أن ينقلب‏'‏ فهم‏'‏ دلالات القرآن الكريم الذي يسره الله تعالي للذكر‏,‏ وجعله‏'‏ قرآنا عربيا غير ذي عوج‏':‏ إلي حديث‏'‏ باسم الله‏'‏ ؟
أليس القرآن الكريم هو‏'‏ كلام الله‏'‏ سبحانه‏,‏ وأليس هو الله تعالي الذي نزل‏:'‏ أحسن الحديث‏',‏ ألسنا حين نسمع القرآن الكريم فإنما‏'‏ نسمع كلام الله‏',‏ فأين إذن الحديث‏'‏ باسم الله‏'‏ ؟
أما كان الأجدر لو كانت افهام المسلمين للأوامر والنواهي الإلهية في القرآن الكريم‏:'‏ حديثا عن الله‏',‏ ودخولا في تلك المنطقة الشائكة المحرمة ـ كما يقول صاحب هذا الزعم ـ أن يتضمن القرآن الكريم أمرا للناس بالصمت والسكون‏,‏ وتوجيها لهم أن يمسكوا عن كل فهم في الدين حذرا من أن يكون ذلك نفاذا إلي القصد الإلهي‏,‏ أو حديثا عن الله سبحانه؟
ولئن كان الأمر كذلك‏,‏ فما الحاجة إلي تضمين تلك الأوامر والنواهي في القرآن الكريم‏,‏ أصلا وابتداء ؟ أو ما كان الاولي حينئذ أن يكون القرآن الكريم ـ وحاشاه ـ مجرد نصائح عامة فضفاضة لا تحمل أمرا ولا نهيا ولا تشريعا ولا تنظيما ؟‏!‏
ثم أقول أخيرا إن مأساة رهط من التنويريين والعلمانيين تتجسد ـ في بعض جوانبها ـ أنهم مولعون باستعادة تاريخ الكنيسة في العصور الوسطي الأوروبية‏,‏ ثم نسج خيوطه المهترئة ذاتها علي وقائع التاريخ الإسلامي في تبسيط هازل لا يملون من تكراره‏,‏ فهل خطر ببال أحد من علماء الأمة ـ متقدميها ومتأخريها ـ ذات يوم أن يكون رأيه حديثا عن‏'‏ الله‏'‏ وهو يتلو قوله تعالي تعليما لرسوله الكريم‏:(..‏ ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون).



 




 

السبت، 18 ديسمبر 2010

تمهيد للضحك
     
هذا الكلام كان له عنوان مختلف، عنوان متجهم هو: "تكاثرت علينا الخشب المسندة"، ولكنني بعد تأمل، وأنا أستعرض نماذج من بعض تلك الأشياء التي يمكنها أن تثير الغضب أو الاستفزاز، وجدت الابتسامة ترف على شفتي تمهيدا للضحك، ففي مصر الآن صيحات احتجاج هائلة تنطلق من كل اتجاه، ومع ذلك من الصعب تجميع هذه الاحتجاجات في حزمة واحدة، لأننا نرى صراخ الإعتراض يتساوى مع صراخ نقيضه، ولو أردنا تجسيد هذه الحالة نضع "المايوه البيكيني" وسائر نماذج العري أمام النقاب وسائر تنويعات المسدل الساتر من الثياب، ولو صدمتنا "الجود مورننج"، و"ماي آي هلب يو"، في تحيات الفنادق الكبرى وبعض محال السوبر ماركت والمطاعم، فسوف لا ننتظر حتى نسمع التسبيحات وأسماء الله الحسنى وأناشيد الصلاة على النبي في خاصية الانتظار على هواتف محال ومطاعم أخرى، خاصة مطاعم الكباب والأسماك، ولا ننسى الهواتف الجوالة التي انتشرت شعبيا، بين أصحاب الحرف المتنوعة من السباكة والنقاشة والتجارة، وغالبية طلبة وطالبات المدارس والجامعات، وهي هواتف لها "رنات" تتراوح كذلك بين الانفلات والخشوع!

انعكاسا لهذا الواقع كان من الطبيعي أن تعج صفحات الرأي في الصحف بالمقالات والأعمدة التي تتناطح فيها الآراء المتباينة، يلكز بعضها بعضا، كلها في وقفة محلك سر على بساط واحد لا يمكن جذبه لتغليب قوة على أخرى، لعل هذا ما يعطي المشهد طرافته المؤدية إلى الضحكات وإن كان ضحكا هو البكاء بعينه.

لا حراك، محتجزون عند معبر مغلق، الأعجب فيه أن يشكو الإغلاق المتسبب في الغلق. والله لقد قرأت لواحد يطل من كل شرفات السلطة، يستشهد بكلمات تقول: "وفي شرفات هذا العصر قد وقف الرجال الزائفون..."، كتبها عبد الرحمن الشرقاوي منذ مايقرب من نصف قرن، ولم أدر هل هذا الواحد غافل عن إطلالته من الشرفات أم أنه غير قانع بها، أو لعله حنين لهتاف من زمن شبابه نسي وهو يردده أنه يشتم نفسه؟

فكيف بالله لا نضحك ضحك البكاء؟

وبينما يرصد أحدهم "زبيبة الصلاة"، على أساس أنه ضبط ضبطية مهولة لعلامات التدين الذي يهدد السلام الإجتماعي، نرى آخر يخرج بضبطية أشد هولا إذ يرى في تحليله أن انتشار تحية "السلام عليكم" تمييز يفرق بين المسلم والمسيحي، ويذرف دموعه ناعيا التحيات الجميلة مثل: "العواف" و"فتكم بعافية" و"نهارك أبيض" و"صباح الفل" و"صباح الهنا" و"اتمسوا بالخير"، التي قضت عليها الجماعات الإسلامية وصوبت إليها سهامها المسمومة، باعتبار أن "السلام عليكم" سهم مسموم!

فكيف بالله لا نضحك ضحك البكاء؟

 فيما لم يجد رفيق له أي حرج من قوله: "عندما قال الرئيس الراحل أنور السادات أنا رئيس مسلم لدولة مسلمة، اعتبرناه قد قدم استقالته للمسيحيين"!، ولا ننسى أن هذا يأتي في سياق زمن تعلن فيه إسرائيل حقها في اعترافنا بها دولة يهودية، ولا يكفيها أن الكثير من الأقلام قد اعترفت منذ زمن، بهبل شديد ومن دون طلب، أنها الدولة العبرانية، بغفلة عن حقيقة أنها لا يهودية ولا عبرانية، ناهيك من أنها ليست دولة أصلا، فهي كيان صهيوني محتل، وسائله الوحيدة للاستمرار وإثبات الوجود هي الإرهاب والاغتيالات العلنية التي يجهر بها كأنها حقه المشروع!

فكيف بالله لا نضحك ضحك البكاء؟

أما احتفال بعض المجموعات من "أهل كايرو" بليلة رأس السنة الميلادية، التي ستشرفنا خلال هذا الشهر، فلا شك أنه سيكون، كالعادة، الباعث على إخفاء الوجه بالكفين هربا من مشهد "الجينزات" و"البوي والجيرل فريندز" والتصرفات "الألافرانك" في مواجهة تعبيرات الإشمئزاز و الغضب المختلفة التي ترتسم على وجوه "أهل قاهرة المعز لدين الله" نفورا من "الجليطة" التي لا تراعي السلوك المطلوب لقيم وتقاليد وثوابت مصر الدينية والأخلاقية التي تتمثل في التزام أهلها، مسلمين ومسيحيين، بالاحتشام وبالسلام عليكم ولكم!

فكيف بالله لا نضحك، ضحك الخجل والإحراج؟



الخميس، 16 ديسمبر 2010

اليوم العاشر من محرم ذكرى استشهاد الحسين سنة61 هجرية

صوت الحسين يقول لأخته زينب:

"يا أختاه اذكريني في نافلة الليل،
يا أُخيّة لا يذهبن بحلمك الشيطان؛
إني أُقسم عليك فأبري قسمي،
لاتشقّي عليّ جيبا ولا تخمشي عليّ وجها"!

رحمة الله وسلامه عليكم أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم

الثلاثاء، 14 ديسمبر 2010




لماذا يريدون لنا "وهم" حياة نيابية؟

إذا كانت الإنتخابات تؤدي بنا إلى هذا المستوى المتدني في كل إجراءاتها ثم نتائجها؛ فلا بد أن نكون على يقين بأنها ليست الإنتخابات المرجوة لحياة نيابية محترمة وموثوق بها، ولا يمكن أن نحقق معها مانتأمله من إصلاح وتغيير ينهضان ببلادنا بعيدا عن كل بؤر الفساد .

في يوم الأحد 12\12\2010، الذي كثرت زعابيبه واشتدت رياحة وتدنت فيه الرؤية تحت شبورة ترابية كتمت أنفاس القاهرة، وغرقت الإسكندرية ومدن الدلتا  تحت الأمطار الغزيرة متسببة في خسائر في الأرواح والأموال، تم افتتاح الدورة الجديدة لما اصطلح على تسميته "مجلس الشعب"، البرلمان في قول أقدم، ولم تستطع الكلمات الواثقة أن تخفي الوجوم الجمعي، الذي ظهرعلى الوجوه  جليا أمام الجالس من المواطنين يتابع الحدث عبر شاشات المذياع المرئي، ليكون بدوره شبورة أخرى، موازية لشبورة التراب، كاتمة لأي ملمح من ملامح الفرح أوالإنتصار، فيما كان الجمع الغفير من قوى المعارضة متجمهرا في الشارع أمام دار القضاء العالي يرفع هتافات "باطل..باطل"!

لم يكن هناك مجال لتصور آخر غير أن الأمر برمته تسديد خانة: "وهم" اسمه الحياة النيابية، ولم يكن هذا "الوهم" بالشئ الجديد؛ فالذي يجب أن نعترف به أننا لم يكن لدينا حياة نيابية حقيقية منذ أسس محمد علي دولة الإستبداد وحكم مصر بمقتضاها عام1805، وظل "الإستبداد" وتزوير مصالح الناس أساس الحكم في كل العهود؛ ملكية وجمهورية، وإن تزوق في بعضها بالدساتير وملاعب الإنتخابات والخطابات الرنانة في قاعات امتلأت بالأعضاء الذين طالما داعب النوم أعينهم فاستسلموا له من دون أن يحرجهم الغطيط!

الناس تواقة إلى نيل الحقوق وتقديم الواجبات، بل والتضحيات، عبر سعي جاد، لامراوغة فيه ولا تلاعب، يؤدي إلى تمثيل صادق لمصالحهم اليومية والتاريخية، لامنٌ فيه ولا أذى، بعيدا عن هؤلاء الذين "لا يعرفون الحكم غير غنيمة وسعت محاسيب الرجال كما ترى، يتخاصمون إذا المآرب عُطّلت فإذا إنقضين فلا خصام ولا مرا"، على حد تعبير مقولة شاعر في أربعينات القرن الماضي!

مالم يتحقق ذلك فسيظل هتاف "باطل..باطل" النشيد الوطني المتواصل لكل رافض، عن حق، الإستمرار في مهزلة "وهم" حياة نيابية!








الأحد، 12 ديسمبر 2010



إقصاء المذاهب الفقهية‏...‏ لدي التنوير والسلفية المدعاة
بقلم: د.محمد عبدالفضيل القوصى 

قد يكون في هذا العنوان ما يثير الدهشة ويبعث علي العجب‏,‏ فكيف يتفق هذان الطرفان النقيضان ـ التنويريون وبعض أدعياء الانتساب إلي السلف الصالح ـ علي موقف واحد من التراث الاجتهادي الذي تعهدته ثلة باذخة من علماء الأمة بمذاهبه واتجاهاته حتي استوي علي سوقه‏:‏ رافدا من أعمق روافد العلم الإسلامي‏,‏ وأكثرها التحاما بواقع المسلمين؟

أفليس من الغريب أن يجتمع هذان الاتجاهان ـ وبينهما بعد المشرقين ـ علي إقصاء المذاهب الفقهية وإسقاطها من وعي الأمة‏:‏ رغبة في أن يحيدوا بها عن هذا الطريق المعبد الذي شيدته مدارس متعاقبة من المجتهدين والأصوليين والفقهاء ممن شهدت لهم الأمة بالعدالة والضبط‏,‏ والورع والاحتياط‏,‏ أولئك الذين كانوا يوقنون أنهم يتولون مهمة‏'‏ إيقاع‏'‏ حكم الله تعالي علي الناس‏,‏ ثم يضيفون إلي مهمة‏'‏ الإيقاع‏'‏ هذه‏:‏ مهمة‏'‏ التوقيع‏'‏ علي ذلك الحكم‏:‏ تحملا للحساب الإلهي عن تبعته؟ ومن أجل تلك المهمة المزدوجة اكتسبوا في أدبيات التراث الإسلامي تعبيرا محملا بالدلالات‏,‏ فهم‏'‏ الموقعون عن رب العالمين‏',‏ وما أجلها من مهمة‏,‏ وأخطرها من أمانة‏!

لقد أدرك هذان الطرفان المتنابذان أن إقصاء تلك المذاهب الفقهية وإزاحتها عن وعي الأمة هو السبيل الأوحد لكي تنفسح أمامهم فضاءات العبث بمكونات هذا الوعي ما شاء لهم العبث‏,‏ وفي سبيل ذلك فقد قام كل من هذين الطرفين ـ كل علي طريقته ـ وكل حزب بما لديهم فرحون ـ بمحاولة تشويه صورة تلك المذاهب الفقهية في الوعي العام‏,‏ فانصبت غضبة رهط من التنويرين علي الإمام الشافعي رضي الله عنه‏,‏ زعما منهم أنه يمثل‏'‏ أيديولوجية‏'‏ معينة يصدر عنها وينطلق منها‏,‏ وما كانت تلك الغضبة علي ذلك الإمام الفذ إلا لأنه قد أصل الأصول‏,‏ وقعد القواعد لهذا الفقه المذهبي‏,‏ لاسيما في كتابه الذي سارت به الركبان‏,‏ وهو كتاب‏'‏ الرسالة‏'.‏

أما أدعياء الانتساب إلي السلف الصالح فقد انداحت غضبتهم لتشمل من تمذهب بمذهب الشافعي واتبع آراءه الفقهية‏,‏ ومن اتبع فقه غيره من المذاهب الأخري التي ارتضتها جماهير الأمة بأسرها دون تفرقة بين مذهب ومذهب‏,‏ لأنهم باتباعهم للمذاهب الفقهية ـ في نظر أولئك الأدعياء ـ‏'‏ قد اتبعوا غير سبيل المؤمنين‏',‏ وانصرفوا عن الأخذ ـ مباشرة وطفرة ـ من القرآن الكريم والحديث الشريف‏',‏ دون أن يسأل هؤلاء الأدعياء أنفسهم سؤالا ابتدائيا بسيطا يسأله كل منصف‏:‏ فهل جاء هؤلاء المجتهدون بما يخرج عن إطار الكتاب والسنة قيد أنملة‏,‏ وهل جاء هؤلاء المجتهدون بشرع مستحدث‏,‏ أو دين جديد‏,‏ ألم يكن شعارهم جميعا هو الشعار الذي رفعه الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان‏,‏ ثم اجتمعوا عليه جميعا وهو‏'‏ إذا صح الحديث فهو مذهبي‏'‏؟؟ أم أن الهدف المستبطن من تلك القضية عند الطرفين جميعا‏:‏ هو إزاحة هؤلاء الأئمة العظام‏,‏ وإقصاء اجتهاداتهم واجتهادات تلاميذهم لكي يجلس هؤلاء وأولئك من الأمة مجلسهم‏,‏ ويحتلوا مكانتهم‏,‏ دون اعتضاد بمنهج راسخ‏,‏ أو استناد علي قاعدة رصينة‏,‏ وعندئذ يعيثون في أحكام الشرع تحليلا وتحريما‏,‏ استنادا إلي ثقافات العصور وسياقاتها المتحركة عند فريق يميل بها إلي الوقوع في براثن العلمانية لحمة وسدي‏,‏ أوأخذا بظواهر النصوص‏,‏ دونما وعي بدلالاتها ومقاصدها عند الفريق الآخر الذي يميل بها إلي الشكلية والحرفية والجمود وضيق الأفق‏,‏ وكل ذلك في جرأة مقتحمة واعتساف غشوم‏!‏
  • ولو أن هؤلاء الذين يدعون الانتساب إلي السلف الصالح قد عادوا بذاكرتهم إلي العصور الإسلامية الأولي لأدركوا أن كثرة كاثرة من المسلمين آنئذ لم يكن لديهم من ملكات العلم وقدراته وأدواته‏,‏ ولا من الجهد العقلي والتفرغ الذهني ما يستطيعون به الاضطلاع باستنباط الأحكام الشرعية مباشرة من مصادرها الأولي‏(‏ الكتاب والسنة‏),‏ ومن ثم فقد كانوا يفعلون ما أمرهم به القرآن الكريم في قوله تعالي اسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وما أمرهم به الرسول الكريم في قوله‏(‏ إنما شفاء العي السؤال‏),‏ فيلجأ أهل العراق إلي عبد الله بن مسعود‏,‏ ويلجأ أهل الحجاز إلي عبد الله بن عمر‏,‏ ويلجأ أهل مكة إلي عطاء بن أبي رباح وغيرهم من مجتهدي الصحابة‏,‏ دون أن يعمد أحدهم إلي اغتراف الأحكام واستنباطها من الكتاب والسنة مباشرة‏,‏ من غير أن تكون له المعرفة الدقيقة بطرق الاستنباط وأدواته وضوابطه‏,‏ ودون أن ينبري إليهم دعاة كهؤلاء الدعاة الذين ابتليت بهم الأمة في هذا العصر‏:‏ يتهمونهم في تسرع وجرأة بالانصراف عن الكتاب والسنة‏!
ولو أن هؤلاء الذين يدعون الانتساب إلي السلف قد أنصفوا من أنفسهم لعلموا أن اتباع تلك المذاهب الاجتهادية إنما هو‏'‏ عين‏'‏ التمسك بالكتاب والسنة‏,‏ وإن اختلفت تلك المذاهب في استنباطاتها وتعددت في اجتهاداتها‏,‏ ولو أن تاريخ الأمة الفكري قد خلا من تلك المذاهب الاجتهادية‏,‏ فهل يكلف كل أحد أن يستنبط لنفسه أحكام نفسه بمجرد ترديده لصفحات كريمات من القرآن والسنة يتلوها دون أن يتأهب لفهمها ويعد للأمر عدته؟ أوليس في إهدار تلك المذاهب الفقهية إذن فتح لباب‏'‏ فوضي الاجتهاد‏',‏ وزج بالأمة في متاهات الحيرة والفرقة والضلال؟

وإن تعجب فعجب أن يئول سدنة التنوير إلي قريب من هذا المآل‏,‏ فهذا واحد منهم في مشرق العالم الإسلامي يبتدع تفرقة مصطنعة بين النص القرآني من جهة‏,‏ وبين ما أطلق عليه‏'‏ سلطة النص‏'‏ من جهة ثانية‏,‏ فالجماعة التي تتبني هذا النص تعتبره ـ كما يقول بالنص الحرفي ـ‏'‏ مملوكا ملكية استئثار‏'‏ لبعض العقول التي تمارس ضربا من‏'‏ الهيمنة‏'‏ علي عقول الجماعة عن طريق شروحهم وتفاسيرهم واجتهاداتهم‏,‏ ومن ثم تنقلب تلك الشروح والتفاسير والاجتهادات إلي‏'‏ نصوص‏'‏ ثانوية تماثل النص الأصلي قداسة ومهابة‏,‏ بل إنها سرعان ما تتحول ـ هي الأخري ـ إلي نصوص أصلية‏!!‏ ثم يتابع قائل آخر منهم في مغرب العالم الإسلامي قائلا‏:‏ إن مشروعه الفكري التنويري يرتكز علي‏'‏ تحرير‏'‏ النص الأول من قيود تلك النصوص الثواني ـ في جميع مجالات العلم الإسلامي المتشعبة‏,‏ فتلك النصوص الثواني ـ في زعم ذلك القائل ـ قد حجبت النص الأول وأسرته‏!
ويلفت النظر هنا مايلي‏:‏

أولا‏:‏ إن أصحاب هذا التصور لم يفعلوا إلا أن تمثلوا تاريخ الفكر الإسلامي وكأنه نسخة مكررة علي غرار الفكر الأوروبي في العصور الوسطي‏,‏ حيث أطبقت السلطة الكنسية آنئذ علي الرقاب والعقول‏,‏ باستغلال النص الديني والاستئثار المنفرد بشروحه وتفسيراته‏,‏ ومن ثم فإن دور التنوير الذي يطمحون إليه في الفكر الإسلامي هو دور‏'‏ التنوير الأوروبي‏'‏ ذاته في الدعوة إلي‏'‏ الفحص الحر‏'‏ الطليق‏,‏ حيث تتم الإطاحة بمكونات التراث جملة وتفصيلا‏,‏ وحينئذ تخلو الساحة لسدنة التنوير لكي يسقطوا علي‏'‏ النص القرآني‏'‏ ما شاءوا من زيف القول وزيغ الفكر‏,‏ وكأن تاريخ الأمة الإسلامية يأبي ـ في أذهانهم الكليلة ـ إلا أن يكون تابعا للتاريخ الأوروبي‏,‏ حتي في نكساته وسقطاته‏,‏ في تعميم ساذج وتبسيط مخل‏,‏ تأباه حقائق الواقع والتاريخ جميعا‏!

ثانيا‏:‏ إن أصحاب هذا التصور من التنويريين ـ ويا للدهشة ـ يفسرون سلوك أولئك المجتهدين الأجلاء‏:'‏ تفسيرا تآمريا‏',‏ وكأنهم شرذمة من الناس لا يحملون للقرآن الكريم مهابة‏,‏ ولا للسنة المطهرة مكانة‏,‏ ومن ثم فهم أعني أولئك المجتهدين لا يرون في الدين ـ تبعا لهذا التصور الكليل ـ سوي ساحة مستباحة‏'‏ يسقطون‏'‏ عليها بواعثهم ورواسب عصبياتهم التي تحركهم‏,‏ و‏'‏تلون‏'‏ اتجاهات تفكيرهم‏,‏ في غفلة غامرة عما تعج به سيرتهم من الورع والتقوي‏,‏ والخشية من القول علي الله تعالي بغير علم‏,‏ وعما يعتمل في صدورهم من قولة الصديق أبي بكر رضي الله عنه‏'‏ أي سماء تظلني‏,‏ وأي أرض تقلني‏..‏ إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم‏'!

ألم يلفت نظر هؤلاء ما حفظته لنا أدبيات التراث الإسلامي عن‏'‏ تدافع الفتوي‏',‏ حيث كان الفقيه منهم يدفع بالفتوي إلي غيره‏,‏ وهذا إلي غيره‏,‏ ظنا منه أنه بها أعلم‏,‏ ولها أحق وأجدر؟

ألم يلفت نظر هؤلاء ما فعله أحد أولئك المجتهدين الأفذاذ حين أفتي أحد السائلين عن حكم شرعي‏,‏ ثم تأمل في الأمر مليا‏,‏ فرأي في حكمه شيئا من التسرع‏,‏ فإذا به يبعث مناديا ينادي في الأسواق أياما عدة‏,‏ مصححا هذا الحكم‏,‏ أداء لأمانة العلم الشرعي‏,‏ وبراءة إلي الله تعالي من عهدة فتواه‏!‏




الجمعة، 10 ديسمبر 2010



سندريللا هي السواد الأعظم من الشعب المصري

معظمنا يعرف حكاية سندريللا الجميلة، إبنة البيت الأصلية والأصيلة، التي حرمتها زوجة والدها من كل حقوقها وجعلت حدودها المطبخ والمسح والكنس وكل المهام القذرة والشاقة بالمنزل، لا تلبس إلا الممزق ولا تأكل سوى الفضلات، وتنام جوار الفرن تلهو حولها الفئران، رغم أن أبو سندريللا هو المتكفل بالإنفاق. ورغم أن زوجة الأب من جنس سندريللا ودينها إلا أن أنانيتها ولدت في نفسها القسوة التي سوغت لها حرمان سندريللا واغتصاب كل شئ لنفسها ولإبنتيها ليعشن في الترف والرفاهية وصدر المجتمع .

عندما اتسخت سندريللا ، نتيجة لحياتها الشاقة ، اشمأزت منها زوجة الأب وإبنتاها ورفضن مخالطتها إلا على مستوى إلقاء الأوامرحتى انتفى وجود سندريللا الإنساني في أذهانهن فلم تخطر ببالهن عندما سألهن مندوب الأمير عن عدد الفتيات بالمنزل وأشارت زوجة الأب إلى إبنتيها فحسب لتحضرا حفلة الأمير، إلى آخر الحكاية المشهورة.

حكاية سندريللا، مثل كل الحكايات الشعبية ، مليئة بالدلالات  الموجعة التي لاتبارحني ، وقفزت إلى ذهني على وجه الخصوص حين أفرغ الشارع القاهري من الشعب خلال زيارة السيد أوباما فلم ير إلا من وما تم اختياره ليراه بحسبانه "مصر"، لكنها لا تقتصر على هذا المثال فحسب إنها تتمثل في التوجه العام لأحوالنا الذي جعل الكاتب أسامة غريب، المتهكم من الألم ، لايتردد في أن يختار لكتابه عنوان: "مصر ليست أمي ..دي مرات أبويا"! رافضا تلك العقلية التي تتملكها الأنانية والقسوة فتتنكر للسواد الأعظم من الشعب ، الذي هو من لحمها ودمها، إذ ينتمي الكل إلى أب واحد وأم واحدة ، لكن أصحاب تلك العقلية النرجسية الشحيحة تعاموا عن وجوده ندا لهم فلم يعودوا يرون وجودا للشعب إلا في ذواتهم ، وقد استحضروا لأنفسهم مظاهر الأرستقراطية البائدة وانتفشوا بالغرور والمظهرية زاجرين السواد الأعظم من الشعب ليختفي ـ مثل سندريللا ـ وراء الستائر حتى لا يعكر واقعه العشوائي البائس عليهم صفو التصور بأن ديكورات الترف المزيف ، التي أحاطوا بها أنفسهم ، هي الحقيقة الوحيدة لواقع البلاد .

إنهم لايدركون أن ديكوراتهم رسم ردئ للمحات من معيشة غربية زهد فيها أصحابها ، الذين ، لاشك ، يصيبهم الغثيان من جراء التباهي بديكورات رديئة منقولة عنهم ، ولن يترددوا في البحث عن وجه شعبي يرون في صدقه كل الجمال رغم البؤس والإهمال ، الجمال الذي يزين البلاد بأصالته فيمحو آثار الإساءة الحقيقية لسمعة الوطن ، الإساءة التي جلبتها علينا ديكورات الزيف والتكبر والأنانية.

على العموم:  ليس ممكنا أن تظل سندريللا مختفية ومطمورة إلى الأبد تحت الكراسي الوثيرة!

الخميس، 9 ديسمبر 2010

التأريخ بالهجري

في مفكرة زرقاء تعود إلى عام 1937 بالتقويم الميلادي كتب والدي يوم الثلاثاء 17 أغسطس :" بحمد الله وعنايته في هذا اليوم السعيد وفي الساعة 9 و15 صباحا ولدت لي بنت من زوجتي خديجة هانم واسمها صافي ناز جعلها الله سعيدة وموفقة آمين" ، إلى جانب التأريخ الميلادي كان هناك الهجري : 10 جماد ثاني 1356، ثم التأريخ القبطي :  11 مسري 1653 ، حسبت حسبتي فوجدت أن عمري بالهجري يكون بزيادة عامين عن الميلادي والقبطي.  ابتسمت : هل هذا هو السبب في هجر المصريين التعامل مع الهجري ؟

إلى زمن كنت فيه تلميذة، من الروضة حتى الإبتدائي والثانوي في المدارس الحكومية المصرية ، كانت كتابة التاريخ الهجري على اليمين والميلادي على اليسار من القواعد الملزمة للمدرسين والتلامذة ،وكانت هذه المزاوجة ضرورية في نظر البعض يتحسر بسببها البعض الآخر على أيام إنفراد التقويم الهجري بالساحة ، إعتزازا بهويتنا العربية والإسلامية و تواصلا مع تراث أمتنا الثقافي والأدبي الذي ظل حتى السنوات الأولى من القرن العشرين الميلادي يعتمد الهجري في مدوناته ومراسلاته ومذكراته وشواهد القبور.

تدريجيا أصبحت المزاوجة بين الهجري والميلادي اختيارية تمهيدا لإهمال الهجري لصالح الميلادي!  الطريف أن العامة ، الذين لم يعودوا يعرفون من الهجري إلا رمضان وشوال وذو الحجة والمناسبات الدينية التي يحرصون على صيامها والإحتفال بها ويســمونها "الموسم" ، لم ينشغلوا بمعرفة أسماء الشهور الميلادية الثقيلة عليهم مكتفين بترقيمها: شهر واحد اثنين ثلاثة.....إلخ!

لاشك أنني من المنحازين إلى الهجري دينيا وثقافيا ووجدانيا ، ولو أضاف إلى سنوات عمري زيادة  إلى الثمانين ، وأغبط من هو متمسك به في زمن يتجه إلى طمس ملامحنا لصالح إبراز ملامح الأعداء ولو بالتزوير والإدعاء ، وأظن القارئ يفهم مقصدي من دون شرح طويل في مؤامرات الغزو الفكري المتولد منه المسخ العلماني والمكر اللاديني والتربص الصهيوني!

قلت لصديقات جيلي وزميلات عمري :  هه! كل سنة وأنتن طيبات عمركن بالهجري زائدا عامين!

صحن بوجهي : ياسم م م م م م م م م م م!

الاثنين، 6 ديسمبر 2010

أربعون سنة على حرب الإستنزاف:


زيارة لشهداء المقاومة المصرية للعدوان الصهيوني

قلت لسائق العربة الأجرة: إصعد بي إلى هناك.
شعرتها الكلمة "إصعد"، رغم أنني لاأعرف إذا كان الطريق صعودا أو هبوطا. أحيتني رائحتهم: أريج الزهور والفل والريحان وكانت معي أطواق الياسمين. لم أبحث عن واحد؛ كلهم ذلك الواحد الذي يعنيني: الذي جعلني أبتسم وأشرق بالدموع. كنت أسير شوارع القاهرة هبوطا كلها، وجهي كالح جاف والخسوف كامل يجعلنا لو نظرنا في قرص الشمس نعمى، والأرض الملتهبة ترفضنا: حزن أزرق مرشوق حصاة وسط القلب.

مجموعة القرفل أمامي لكني اخترت أطواق الياسمين ياحبيبي؛ لم أعنها واحدا بالذات حين نظرت إلى مجموعكم الممتد؛ "ياحبيبي" كلمة لاجمع لها: يا أنتم، يا وجهنا الجميل، حين طفت أتفقد أسماءكم اطمأننت: مجموعكم الممتد هنا هو ثمن أن ينفك عنا الإختناق ونتنسم الهواء فهاكم أطواق الياسمين يا حبيبي.

قال سائق العربة الأجرة: قريب لك؟
قلت: وأنت أليس لك قريب؟
قال: كلهم أولادنا.
قلت: نفس قرابتي ياولدي!
ضحك وضحكت وسارت بنا العربة صامتين حتى قال: لم تقولي "مقابر الشهداء".
ـ قلت إصعد بي إلى هناك.
ـ لذلك عرفت.
ـ كرهت أن أسميها مقابر.
ـ شواهد.
ـ نعم!

هبطت في ملقف الطرقات وعند المقهى لفحتني رائحة الموت وقالت لي محاجر العيون المتآكلة، ثمار غابة الشجر المر واللبلاب:
ـ لافائدة من شئ.
قلت وكفّي بها عبير الياسمين:
ـ الشواهد قالت لي غير ذلك.

هبطت هبطت حتى صعدت الدروب المنسية وتغلغلت في قرى الطمي، العيون التي أعطت سألتني :
ـ هل السماد طيب؟
العيون التي أعطت تقول:
ـ لايزال المزيد لدي.

قالت لي الشواهد: ابن قرية الطمي يعرف كم هي غالية الأرض ويفهم الأمر؛عدو يمنعه العلم والزرع والحصد.

في ملقف الطرقات حيث يكثر اللغط وتتحدث محاجر العيون المتآكلة بالموات؛ حيث لا تلطم الأكف إلا أوجهها ولا تطعن الأيدي إلا صدورها، في غابة الشجر المر واللبلاب حين همهمت ترنيمة الشهيد: "جابوا الشهيد جابوه، جابوا العريس جابوه..." أصمتوني في استهانة وبلادة: عزاء لاجدوى منه!

في حديقة الشواهد حيث حملت الياسمين وحيث غنيت وبكيت قلت للشواهد:
ـ حين أبكي أعرف أن أبتسم، حين نتعزى نعرف أن نتواصل، الصبر ليس سكونا؛ الصبر ديمومة تحريك الهواء حتى يتنفس الإختناق.

قالت لي الشواهد:
ـ لاجدوى في غابة الشجر المر واللبلاب: نحن قد أتينا من قرى الطمي ومن الدروب المنسية.
تمتمت:" يابلدي هاتي ماتعديش، عنا ولادك ماتخبيش".

قالت الشواهد: نحن لا ننتهي.
قلت: زرع القرون الطويلة لا ينخلع.
قالت الشواهد: وحين تذرونا العاصفة يشدنا الجذر.
قلت: وننبت أبدانا خضراء.
قالت الشواهد: الغصن الأخضر لا تحرقه النار.
قلت: الغصن الأخضر نقلب به الجمر:
"ياعود نبّت في أرضي وشب
وردة جديدة مروية بدم القلب"!

الأحد، 5 ديسمبر 2010

من آيات الذكر الحكيم سورة البقرة 159 و160

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون(159)إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأؤلئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم(160)

صدق الله العظيم

السبت، 4 ديسمبر 2010

جديد دكتور محمد عبد الفضيل القوصي حفظه الله

القراءات الجديدة للقرآن الكريم‏...‏بدعة العصر‏(2-2)‏
بقلم: د.محمد عبدالفضيل القوصى 

حين تعود الأمة بذاكرتها إلي العصر النبوي الزاهر فإن أحد المشاهد التي تظل ماثلة في وعيها‏:‏ مشهد الصحابة رضوان الله عليهم‏,‏ وهم يتلقون آيات القرآن الكريم من فم الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم‏.

ثم يسارعون إلي إنفاذها وتطبيقها دون إبطاء أو تسويف‏,‏ وما كان هذا الإنفاذ والتطبيق ليتم علي وجهه إلا إذا كان لتلك الآيات الكريمات في أذهانهم‏:‏ معان محددة‏,‏ ودلالات منضبطة‏,‏ ومفاهيم مستقرة‏,‏ ثم تتعاقب السنون فإذا بعلماء الأجيال التالية ـ من الأصوليين والمتكلمين والفقهاء وغيرهم ـ وهم عاكفون علي تلك المعاني والدلالات والمفاهيم يؤصلون منها الأصول‏,‏ ويؤسسون لها الأسس‏,‏ لكي تكون سياجا منيعا قوامه العلم الرصين والمعرفة الدقيقة التي تصون قدسية القرآن الكريم من عبث العابثين وزيغ الزائغين‏,‏ وجرأة القائلين علي الله تعالي بغير علم‏.‏
وهكذا انتهت الدلالات والمضامين القرآنية إلي وعي الأمة‏:‏ ثابتة راسخة مستقرة‏,‏ حتي نبتت طائفة التنوير والحداثة‏,‏ فإذا بها تري في هذا الثبات والرسوخ والاستقرار‏:‏ حائطا شاهقا يحول بينهم وبين‏'‏ تطويع‏'‏ تلك الدلالات والمضامين لما يظنون أنه من مقتضيات التنوير‏,‏ واستحقاقات التقدم‏,‏ ورهانات الحداثة‏,‏ كما يحول بينهم وبين ما يشتهون من‏'‏ إقحام‏'‏ مفاهيمهم ذات الجذور العلمانية علي نسيج الإسلام الحي‏,‏ و‏'‏إسقاطها‏'‏ علي كيانه الراسخ‏!!‏
إنه إذا كان‏'‏ منطوق‏'‏ القرآن الكريم بألفاظه وعباراته هو‏'‏ الجانب الثابت‏'‏ منه فإن البشر حين يتلقونه ـ كما تزعم تلك الطائفة من التنويريين والحداثيين ـ يقرأونه‏'‏ قراءات‏'‏ شتي بحسب ثقافات عصورهم‏,‏ ويعطونه دلالات تتجدد وفقا لتجدد الواقع الذي يعيشونه‏,‏ دون ثبات لقراءة ولا دوام لدلالة‏,‏ فلا فضل لقراءة علي أخري‏,‏ ولا يقين في قراءة دون الأخري‏,‏ لأنها جميعا‏'‏ قراءات‏'‏ نسبية ودلالات متجددة‏,‏ وبتلك القراءات النسبية التي يفرزها‏'‏ واقع‏'‏ البشر‏,‏ وثقافة عصورهم يتحول النص القرآني إلي‏'‏ منتج ثقافي‏',‏ يتحرك تبعا لتحرك‏'‏ الثقافة‏',‏ ويتبدل طبقا لتبدل الواقع‏,‏ بحيث تكون الثقافة هي الفاعل‏,‏ والنص هو المنفعل‏!!‏
لا مناص إذن عند تلك الطائفة ـ بمقتضي التحول بالقرآن الكريم إلي‏'‏ منتج ثقافي‏'‏ من أن يكون فهمه مرهونا ـ لا بضوابط أو دلالات اللسان العربي الذي نزل به ـ بل بثقافة من يتلقونه من البشر‏,‏ ومرتبطا بمكونات تلك الثقافة وقيمها‏!!‏
فهذا النص القرآني ـ كما يقول قائل منهم ـ لا يتضمن‏'‏ معني‏'‏ مفارقا مطلقا مقدسا‏,‏ بل إن تأويله البشري عند من يتلقونه ـ هو الذي يضفي عليه‏'‏ المعني‏'‏ الذي تنتجه وتـنضح به ثقافة العصر السائدة‏!!‏
إذن فالخطاب القرآني بحكم كونه‏'‏ منتجا ثقافيا‏'‏ لا يفهم ـ كما يقول ذلك القائل ـ إلا من خلال ثقافة الظرف الاجتماعي المحيط‏,‏ أما حين يتغير المجتمع وينتقل من طور إلي طور ومن ثقافة إلي أخري فحينذاك يتبدل ذلك الفهم حتما‏,‏ لأن السياق الاجتماعي الخارجي‏:‏ هو السياق المنتج‏,‏ ومن ثم فهو السياق الذي يتحتم علي النص القرآني أن يتواءم معه ويتسق مع متطلباته‏,‏ حتي ولو أدي ذلك إلي إسقاط كثير من الأحكام النصية بوصفها أحكاما مرتبطة بتاريخها‏!!‏
وهكذا يتم وبجرأة منقطعة النظير‏:‏ الدنو بقدسية القرآن الكريم‏,‏ والهبوط بمستوي خطابه الإلهي إلي أن يكون فارغا من المحتوي‏,‏ خلوا من المضمون‏,‏ لأن تشكيل محتواه ومضمونه ودلالاته ـ في ضوء تلك القراءات‏:‏ إنما هو صنيعة السياق الاجتماعي والثقافة السائدة‏,‏ ولأن هذا الخطاب الإلهي ـ في هذا الفهم الكليل ـ ليس سوي مجموعة من الرموز والدلالات الاحتمالية المفتوحة‏,‏ بوسع كل ثقافة أن تفسرها في ضوء مقتضيات عصرها‏,‏ وتبعا للقيم التي تسوده وتتحكم فيه؟‏!!‏
نقاط عدة ينبغي تأملها مليا في هذا الصدد‏:‏
أولها‏:‏ إن هذا الفهم الكليل قد تحول بالخطاب القرآني من أن يكون ناطقا‏'‏ بمرادات‏'‏ الله تعالي من عباده‏,‏ وهو ذلك المعني الجوهري البدهي الذي يتضمنه الإيمان‏:‏ إلي أن يكون ناطقا‏'‏ بمرادات‏'‏ البشر أنفسهم من أنفسهم‏,‏ وبذلك شوه هذا الفهم علاقة الدين بالإله تعالي‏,‏ بل شوه البعد الغيبي كله‏,‏ وكذا البعد الأخروي بأسره‏,‏ فأي معني للحساب والجزاء في‏'‏ دين‏'‏ لا يستشرف إلي ما وراء‏'‏ ثقافة العصر‏',‏ وسياقاته الاجتماعية‏,‏ ولايعدوهما قيد أنملة ؟
ثانيها‏:‏ إن التحول بالقرآن الكريم إلي‏'‏ منتج ثقافي‏':‏ يهدم‏'‏ مطلقية‏'‏ القيم الخلقية وعموميتها‏,‏ فالقيم في القرآن الكريم عامة مطلقة‏,‏ فالحق هو الحق‏,‏ والخير هو الخير مهما تبدلت السياقات الاجتماعية والأنساق الثقافية‏,‏ أما حين يرتبط القرآن الكريم‏'‏ بثقافة منتجة‏',‏ دائمة التغير والتبدل فلن يكون لمفهوم‏'‏ الحق‏'‏ ثبات‏,‏ ولا لمضمون‏'‏ الخير‏'‏ دوام‏,‏ لأنه سيكون بوسع كل ثقافة أن تتصور‏'‏ الحق‏'‏ كيف تشاء‏,‏ وأن تحدد الخير علي النحو الذي تريد‏!!‏
ثالثها‏:‏ إن القول بأن القرآن الكريم ـ بحكم كونه‏'‏ منتجا ثقافيا‏'‏ لا يتم فهمه إلا من خلال مفردات الثقافة التي أنتجته‏:‏ يعني ـ بالضرورة ـ أن القرآن الكريم ـ وحاشاه ـ سوف يكون نهبا لاختلاف الثقافات المتعددة المتكثرة التي تتناوب علي فهمه‏,‏ وتتعاقب علي تفسيره‏,‏ وحينئذ فأين الدلالات‏'‏ الأصلية‏'‏ للقرآن الكريم ذاته؟ أيكون القرآن الكريم في حد ذاته إذن مجرد‏'‏ ألفاظ‏'‏ جوفاء يتلو بعضها بعضا‏,‏ دون دلالة أصلية‏,‏ لأن دلالتها الأصلية‏:‏ موكولة إلي ثقافات العصور المتبدلة‏,‏ وإلي السياقات الاجتماعية المتقلبة؟
رابعها‏:‏ بأي معني حينئذ يكون القرآن الكريم‏'‏ فرقانا مبينا‏'‏و‏'‏ هدي للناس‏'‏ و‏'‏ بينات من الهدي والفرقان‏'‏ ؟؟ بل أية‏'‏ رسالة‏'‏ يحملها القرآن للبشرية‏,‏ وقد مزقت تلك القراءات المبتدعة‏:‏ مضامينه ودلالاته الثابتة الراسخة كل ممزق‏,‏ وتركتها رهنا‏'‏ لثقافات العصور‏,‏ ونهبا لسياقاتها الرجراجة المتحركة ؟ ثم ماذا يبقي من‏'‏ إعجاز‏'‏ هذا الكتاب العزيز بعد ذلك كله؟؟
خامسها‏:‏ إنه لا ينبغي أن يذهب بنا الظن إلي أن سطوة الثقافة المنتجة علي النصوص القرآنية‏:‏ تقف ـ في نظر تلك الطائفة ـ عند حد‏,‏ فآيات التشريع والحدود لا ينبغي أن تفهم ـ عندهم ـ إلا في ضوء‏(‏ الثقافة المنتجة‏)‏ دون التقيد بحرفية النصوص‏,‏ كما أن الآيات‏'‏ الاعتقادية‏',‏ التي تتحدث عن الملائكة والجن وصور الثواب والعقاب هي الأخري ـ بالتعبير الحرفي ـ‏'‏ مرتهنة‏'‏ بمستوي الوعي‏,‏ وبتطور مستوي المعرفة في كل‏'‏ عصر‏'!!‏
ويستطيع المسلم هنا أن يلمس بجلاء‏:‏ المآل الذي سيئول إليه تصوره الاعتقادي حين يحتكم إلي‏'‏ الثقافة السائدة‏'‏ وإلي‏'‏ السياق الاجتماعي‏'‏ في الإيمان بالغيب بعامة‏,‏ ثم بغيبيات الدار الآخرة التي‏'‏ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي قلب بشر‏'‏ بخاصة‏,‏ كما يلمس أيضا ما تهدف إليه تلك القراءات من إهدار غشوم لدلالات الخطاب القرآني المحكم دون أساس من النقل‏,‏ أو شاهد من العقل الرشيد الذي يدرك أن اقتحامه لعالم الغيب‏:‏ إنما هو ـ علي حد تعبير بعض المحققين ـ اقتحام البصر الكليل الذي ينقلب به صاحبه خاسئا وهو حسير‏!!‏
ثم أقول أخيرا إن تجريد القرآن الكريم من دلالاته الثابتة ومضامينه الراسخة‏,‏ ثم التحول به إلي كونه‏(‏ منتجا ثقافيا‏)‏ يعد واحدة من أبرز نتائج تلك القراءات الحداثية والتنويرية إغرابا وشذوذا‏,‏ كما أنها أكثرها تهافتا وبطلانا‏.‏












الخميس، 2 ديسمبر 2010

فنان مصري اسمه عصمت داوستاشي


عصمت داوستاشي فنان تشكيلي مصري شهير جدا، نشيط جدا، حزين جدا، لا يكف عن الكلام، أو العمل، ويظل حزينا جدا. أصدر عصمت داوستاشي الجزء الأول من سيرته الذاتية: «ذكريات سكندري، 1943/1963»، يحتوي سيرته الذاتية في السنوات العشرين الأولى من حياته، منذ مولده في مارس 1943 حتى مبتدأ دراسته في كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية، وقد أعطى هذه المرحلة عنوان «الرملة البيضاء»، على أن يكون الجزء الثاني: «الرملة الحمراء»، والجزء الثالث «الرملة السوداء».

يقول عصمت داوستاشي في تقديمه لمذكراته: «أكتبها وأنا أشعر بوهن الذاكرة وبداية تلاشيها، لأسجل أحداثا وأماكن وظروفا وناسا رأيت الآن وقد تجاوزت الستين من عمري أنها أشياء جديرة بالتسجيل وبالكتابة عنها والإشارة إليها قبل أن يسحبها النسيان إلى العدم. ولا أستطيع أن أقول إنها سيرة ذاتية، لأنها بحق ذكريات سكندري، عن مدينته وأسرته والظروف التي شكلته، إنها عالمي الخاص، مدينتي الإسكندرية..»، ولا يستغرق الكتاب سوى 156 صفحة تشمل بعض الصور العائلية القديمة للجد والجدة والوالد والعائلات الصديقة ومن ورد ذكره في الذكريات.

ينقسم كتابه إلى أربعة فصول: 1 – الجريتلية (الجريتلي هو الكريتلي نسبة إلى جزيرة كريت). 2- البكتاشية، 3- شوارع وحوار وبيوت، 4- سحر الكتب، هذا بعد عنوان: «زمن البراءة والحب والاكتشاف»، الذي نعرف من خلاله: «الرملة البيضاء» بأنها شاطئ يتوسط الميناء الغربي لمدينة الإسكندرية وخلفه مباشرة فنار المدينة، وبجواره جزيرة رأس التين حيث قصر الملك، وهذا الشاطئ الساحل الصغير المفروش بالرمال الناصعة البياض عبارة عن جزيرة صغيرة نصل إليها بالمراكب الشراعية، ولم يكن يذهب للاستمتاع برمالها ومياهها الصافية إلا عدد قليل من الناس، كان معظمهم أجانب في ذلك الزمن، نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، يقول عصمت في ذلك: «كنت وقتها طفلا صغيرا في السادسة أو السابعة من عمري، وكان جدي إبراهيم ـ الذي يعمل قهوجيا في مقهى الحاج مصطفى الجريتلي المواجه لباب خمسة بالجمرك – يسلمني لريس المركب الشراعي... ليذهب بي إلى الرملة البيضاء للفسحة، ثم يعود بي مرة أخرى إلى المقهى. كنت أقبع داخل المركب خائفا من البحر... تغمرني رائحة الميناء... كنت أرى الأجانب... يونانيين وطلاينة يستحمون ويلعبون بحرية ومرح.. وما زالت الرمال البيضاء في كياني وروحي وقلبي... منذ ذلك الزمن البعيد امتلأت بالنقاء والحب وظللت ذلك الملاك الصغير المتشبث بحبال الشراع المنتظر العودة للديار، الذي يرى ويستمتع بكل شيء إلى أن يحين وقت الرحيل الأكبر فينطلق ويطير». على الرغم من هذا المفتتح المتفائل لا يجد عصمت داوستاشي غضاضة في أن يناقض نفسه قبل نهاية الكتاب بصفحات قليلة، فيقول: «حين أعاود قراءة السطور السابقة أكتشف أنني لم أكتب الكثير، لدي ما أقول بين السطر والآخر، ولكن وبصدق أشعر بأن كل هذه الذكريات سخيفة وساذجة، فطالما لم يدفعنا الماضي إلى مستقبل أفضل فهو ماض وتاريخ فاشل ومحبط، لأننا الآن وغدا ننحدر إلى أسوأ ما نكون، ولعل الصمت كان أفضل من هذا البوح الرومانسي الذي نميل إليه».

والحقيقة أنني وأنا أقرأ ذكريات داوستاشي لم تهمني تلك التناقضات في مشاعره وأقواله، وتقلبه بين المرح والفرح وبين «العكننة» والتذمر ونوبات الجهامة والاكتئاب، أليست هي أيضا طبيعة البحر بين زمجرة الموج العالي اللاطم، وإشراقه الهادئ الناعم، والموجة تجري ورا الموجة عاوزة تطولها؟

أمتعنى كتاب داوستاشي، في ظل كل هذه الجهامة التي حولنا وظللت، في كل أحواله، أقرأه وأنا مبتسمة، بل لم يفتني أن أضحك في بعض فقراته وأقهقه. سأعبر الكثير من الصفحات لأصل إلى الفصل الذي كتبه داوستاشي تحت عنوان «الجريتلية» حين يحكي عن أصل عائلته التي اضطرت إلى الهرب من جزيرة «كريت»، بعد الحرب العالمية الأولى، (1914 – 1918)، فرارا من الاضطهاد الديني الذي جعل التعداد المسيحي في الجزيرة يتربص بإخوانهم المسلمين، من أهل الجزيرة الذين يحملون الملامح نفسها والسمات ويتشاركون في الأرض واللغة والمواطنة. كان المسلمون من أهل الجزيرة مستهدفين في كل وقت بالقتل والاغتيالات، مما أدى إلى هروب الكثيرين، كما يذكر داوستاشي، «إلى تركيا أو بلاد الشام أو مصر خاصة مدينة الإسكندرية، وإلى سواحل شمال أفريقيا، خاصة مدينتي سوسة وبنغازي في ليبيا، وأصبحت في كل مدينة ساحلية بحوض البحر الأبيض المتوسط جالية جريتلية مسلمة أشبه بالقبيلة.. وقد ولدت أنا في مدينة الإسكندرية لأجد نفسي منتميا إلى القبيلة الجريتلية السكندرية من جهة والدي...».

يشرح عصمت سبب لقبه داوستاشي قائلا: «... حتى أواخر الستينيات لم أكن أعرف حكاية اسم داوستاشي»، لكنه قابل في ليبيا واحدا من أقربائه اسمه «حسين إليفاتشي.... وعندما سألته عن اسم إليفاتشي أجابني بأن اسم أسرتي أنا الآخر هو داوستاشي وأخبرني أن جدي إبراهيم عندما حضر إلى مصر لم يذكر هذا الاسم مطلقا، وهكذا عندما عدت في إجازة للإسكندرية بحثت في أوراق الأسرة وعثرت على وثيقة زواج جدي إبراهيم بجدتي خديجة شبرا هانم، وكان لقب جدي في هذه الوثيقة هو داوستاكي....داوستاشي....الاسم المتداول الشعبي لداوستاكي اسم كريتلي صرف، وهكذا عرفت لماذا كانوا ينادوني وأنا صغير باسم «تاشي»، فالحروف النهائية الألف والشين والياء حروف تضاف لجعل الاسم أكثر حميمية في نطاق الأسرة... ومنذ ذلك التاريخ استعملت هذا اللقب داوستاشي اسم شهرة لي، أوقع به لوحاتي، وكنت معروفا قبلها باسم عصمت عبد الحليم».

يحكي عصمت داوستاشي عن واقعة هروب جده إبراهيم والد والده: «.... كان جدي وأحد أقاربه خارجين من المقهى في قريتهما المجاورة لخانية، عاصمة كريت، حين أطلق عليهما الرصاص فقتل قريبه فورا، هكذا كان يتم تصفية المسلمين من أهل الجزيرة، ثم استدعوا جدي للتجنيد ليرتدي ملابس الجنود اليونانيين ليحارب أهله... فقرر الهرب من الجزيرة كلها.... تم لفه في سجادة والمرور به من المنطقة الجمركية إلى السفينة المتجهة للإسكندرية.... وعندما وصلت السفينة الإسكندرية ذهب مصطفى أفندي الجريتلي صاحب مقهى باب ستة، كقهوجي يرتدي ملابسه التقليدية فوطة وغطاء رأس ويمسك بصينية عليها أكواب الشاي والقهوة ودخل الميناء من باب الجمرك كعادته في توصيل الطلبات، والتقى بجدي إبراهيم داخل السفينة وأعطاه ملابس القهوجي والصينية، أخذها جدي وخرج من المنطقة الجمركية وهكذا وجد نفسه في المدينة. هذه الحكاية سمعتها من جدي مباشرة ومن جدتي وأحكيها هنا للمرة الأولى، وعندما سألت عن سبب اختفاء اسم داوستاشي علمت أن جدي لم يذكره في أوراقه بمصر لأن اليونانيين كانوا يرسلون جواسيس يبحثون عن الجريتلية الهاربين من التجنيد والقبض عليهم وترحيلهم مرة أخرى إلى كريت، التي أصبحت يونانية بالكامل... كان جدي يسمع وهو يعمل بالمقهى بعد وصوله، من ينادي اسم داوستاشي فيتجاهل هذا النداء تماما، وإلا قبض عليه كهارب من العسكرية اليونانية وهو الذي هرب... حتى لا يضطر لأن يقاتل أهله من المسلمين ويحاربهم...».

بعد أن تزوج الجد إبراهيم الجدة خديجة شبرا هانم، من القبيلة أو الجالية الكريتلية، تمت ولادة عبد الحليم إبراهيم، أبو عصمت، سنة 1920 بالإسكندرية، ويقول عصمت: «في الإسكندرية عاش جدي وجدتي عيشة فقيرة للغاية..»، ومع ذلك استطاعا أن ينهضا وأن يتركا في ذاكرة الحفيد، عصمت، الحنين الأبدي إلى تدليلهما: «.. عايشت الحياة الجريتلية في منزل جدتي والحياة المصرية في منزل أمي وتكونت هكذا شخصيتي، مزيجا من الحياتين اللتين كونتا شخصيتي السكندرية البحر متوسطية عن حق».

وأكتفي بهذا القدر من وجع القلب.