الجمعة، 30 ديسمبر 2011

لو أبطّط العش وأكسّر القش يبقى منظر جميييييييييييييييل!

كان عندي حكاية، لم أكن أمل من حكايتها لطفلتي نوارة الإنتصار، أحفظها من تراث برنامج "حديث الأطفال" لبابا شارو العظيم، رحمه الله وجزاه عن إمتاع وتربية طفولة جيلي في أربعينات القرن الماضي خير الجزاء، عن  ثلاثه أصحاب ساكنين "في وسط الغاب بيحبوا بعضيهم والأصدقاء العزاز: ضفدع مؤدب ظريف و جوز حمام هزاز ريشه أبيض نضيف... وفي يوم بديع الجو، اللعب فيه يحلو، كان الحمام اللطيف بينطّط الضفدع ،وجنبه عشه النضيف بالشمس متمتع، وجنبهم زهوووووور؛ الله! يا محلاها، منظر في غاية العجب والله ما أبدع: نط الحبل رياضة مفيدة نط وفط  يا أجمل ضفدع"، والضفدع مبتهج يغني "أنا متشكر يا إخواني يااللي وجودكم أنس وفرحة نط الحبل صحيح خلاني زي البمب في أجمد صحة!". وتقول الحكاية أنهم وهم على هذا الحال "ربك مفرّحهم" جاء فيل "تخين قوام وراح مفركشهم"، متباهيا يغني: "أنا يابني الفيل أبو زلومة ونيابه العاج الأنتيكه، أنا صاحب القوة المفهومة في أوروبا ومصر وأمريكا، أنا أنا أناااااااااا يابني الفيل أبو زلومة!"، وراح الفيل يتلفّت باحثا: "أنا كنت سامع هنا أصوات موسيقى وغُنا، راحوا فين المجانين هربوا مني الملاعين؟"، لكنه لاحظ عش زغاليل الحمام : "وده إيه ده اللي مرمي هناك؟ عش الزغاليل؟ هاااااه!"، وواتته فكرة ظنها عبقرية: "لو أبطط العش وأكسر القش يبقى منظر جميييييييييييل يا أصدقائي الصغار ويفهم الزغاليل إني فيل جبار فيبطلوا التهليل والرقص والمزمار!"، وراح من فوره ينفذ جريمته بهمة القوة المفرطة مغنيا في إنسجام: "إتبطط  يا عش، إتكسّر ياقش، ها ها هاااااااااا، ده أنا يابني الفيل أبو زلوماااااااااااه!". بعدها نسمع نهنهة الحمام يبكي فلذة كبده الشهداء: "عملنا إييييييه للفيل لما يعذبنا؟ ونابه إيييييييه الغبي من قتل زغاليلنا؟"، فيرد الضفدع في حسم: "الفيل ده مُجرم قوي ولكل مجرم عقااااااااب!".

ويتفتق ذهن الضفدع عن حفر حفرة كبيرة يعلو عندها صوت نقيقه؛ حتى يتصور الفيل أن بها ماء، حين يظمأ بعد أن يصاب بالعمى من جراء "تخزيق" الحمام لعينيه، فيقع في الحفرة وينال القصاص المرجو جزاء جرمه الفاحش في قتل الزغاليل. عندما كنت أصل إلى هذه النهاية للفيل كانت طفلتي "نوارة" تصرخ باكية محتجة بشدة: "لأ لأ لأ مس يخزقوا عنين الفيل!"، ولا يجدي معها: "يانوارة ده مجرم قتل ولاد الحمام لازم يتعاقب!"، تدبدب مواصلة بكاءها المحتج: "مِس يخزقوا عنين الفيل!"، "يا بنتيييييييي!"، "لأاااااااه مِس يخزقوا عنين الفيل!". وإزاء إصرارها كان عليّ أن أغير النهاية وأقول إن الفيل عندما وجد الحمام  طائرا نحوه والغضب يجعله يهز جناحيه بعصبية خاف على عينيه و رفع زلومته متأسفا، فقبل الحمام أسفه وتنازل عن حقه، ولم يأبه للفتوى الشارحة بأن الأسف غير الإعتذار، عندها تاب الفيل عن غرور قوّته و توقف عدوانه و أصبح متعاطفا مع الضعفاء مساعدا لهم  ملبيا لمطالبهم، محتفظا بعينيه سليمتين حتى أنه لم تلزمه أبدا،بعد ذلك، نظارة طيلة حياته!

الأربعاء، 28 ديسمبر 2011

"وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين"
كأن ساحرة من ساحرات شكسبير المخترعة في مسرحيته ماكبيث قد تركت المشاركة في تقليب محتويات قدرتها الخبيثة لزميلاتها وحطت عند بوابة مصر تطن القر المشهور:"طوبة على طوبة لتظل العركة منصوبة"، حتى لم يصبح عندنا، في بر وبحر وجو، من لا يتشاجر ويزعق ويتنابز بأقبح الألفاظ خامشا وجارحا وطاعنا وناحرا، وهكذا بدا المشهد بمثابة خناقة في حانة للسكارى، كالتي نراها في الأفلام التجارية الرخيصة، تتطاير فيها الموائد والأكواب والزجاجات والأطباق والملاعق والشوك والسكاكين، وتضرب الكراسي في "الكلوب" وتنطفئ الأنوار ويُفقد الصواب ويلبس الجميع في الجميع، ولا نتبين الحق من الباطل، والكذب من الصدق، والتلفيق والبهتان من قرائن الجرائم الثابتة وبراهين الفساد الدامغة، فلا تتأكد جناية الجاني ومظلمة المجني عليه، ولا نتثبت من عداء عدو أو  إنصاف حليف؛ الكل يصرخ وشبورة من الكراهية، يُجزمعها على الأسنان، تلف الرؤوس وتعمي البصر والبصيرة، حتى طالت منصة القضاء وساحات المحاماة وقيم في العدالة، كانت قد بلورتها مأثورات خطابة فصيحة تتأنق بها حوارات الأفلام: "ياصديقي وابن صديقي شرف الدفاع الذي ننشد فيه قدس العدالة لأحب وأعز علينا من مشاعرنا مهما آلمتنا!"، وتناثرت، بدلا عنها، شائهات القول كذباب قارص تحمله رياح السموم، تلسع وتلهب وتدمي وتترك الندوب، التي لا تنام أوجاعها بعد الحطام  فتظل بؤرة بُغض يقظ يتوهج شرره للإندلاع حين يُراد ويُطلب منه ذلك.

لاجدوى الآن في مواجهة أو مناقشة أو رد لتصحيح معلومة، أو طرح لوجهة نظر، في طقس يسوده الإحتقان؛ حيث لا مجال للفهم، ولا مجال للوعي، ولامجال للتذكر والمذاكرة والمراجعة والتقوى، فلا سمع ولا إنصات والهيمنة متروكة لرغبة عارمة لتبادل اللكمات!

لابد لنا من واحة نتنسم فيها شهيقا لايتلوث وزفيرا، صادقا وصحّيا، ممكنا نوفره لعقلاء، لحظة ينجلي عن البلاد هيشان هذه الفوضى المقصودة، مدفوعة الأجر، ويتم القبض على بقية الآثمين الفارين، مطلقي اليد لفعل الشر، المسجلين في قائمة القتلة واللصوص؛ أعداء البلاد والعباد، أصحاب المصلحة في التخريب لسلب شعبنا العظيم فرصه المستحقة لجني ثمار ثورته الباسلة، وتوقّع عليهم الأحكام الرادعة فورا، حتى يعود الناس يستلهمون من أدب وأخلاق دينهم سبل الرشاد: "وقل ربّ أعوذ بك من همزات الشياطين، وأعوذ بك ربّ أن يحضرون." صدق الله العظيم ، المؤمنون 97\98.

الأحد، 25 ديسمبر 2011

أرجوكممممممم: لاتنادوني مدام!
 

ليس هناك أرذل من كتابة اسمي مشبوكا "صافيناز"، بدلا من الصواب "صافي ناز" سوى الإصرار على مناداتي "يامدام".  دائما ألفت إنتباه من يلقبني "مدام" بأنه لقب يؤذيني، ألفت الإنتباه مرة بالمزاح كأن أقول: "أيوة يا مسيو!" أو "يامستر" فيكون الرد: "لماذا تناديني مسيو يامدام؟" فأقول: "لأنك تناديني مدام يامسيو وأنا أغيظك كما تغيظني"، فيضحك: "ماذا أقول إذن؟" فيتعاظم غيظي: " تلقبني أستاذة كما أن حضرتك أستاذ !" فيعتذر من دون تركيز: والله يامدام مش قصدي!".

قبل 23 \ 7 \ 1952 كانت لدينا في مصر صيغة واضحة بخصوص ألقاب المرأة: فست البيت التي لا تعمل تنادى "ياهانم"، والريفية والشعبية " ياست أم فلان"، أما العاملة فهي "ياأستاذة"، وكان لقب "مدام" يخص الخواجاية الأرمنية واليونانية واليهودية والأجنبية على وجه العموم ، وكن الخياطة والكوافيرة والبائعة في المحال الكبرى زمان إدارتها الأجنبية. بعد 23 \ 7 \ 1952 ألغيت الألقاب وتقلص حجم الوجود الأجنبي وأصبح النداء الموحد لجميع المواطنين والمواطنات هو "السيد المواطن" و"السيدة المواطنة". منذ السبعينات بدأت ألقاب العهد الملكي تعود تدريجيا لتفخيم الرجال فحسب وأصبحت ألقاب "باشا" و"بك" ـ ماعدا أفندي!ـ عملة متداولة لحضراتهم ، إلى جانب "أستاذ" الذى يلحق بداهة على الرجال كافة من كبير المركز إلى صغير الوظيفة. البهدلة صارت في ألقاب المرأة، إختفت "ياهانم" بحجة أنها تركية وشبطت فينا "يامدام" رغم ارتباطها بعهود الإذلال الأجنبي من فرنسي إلى إنجليزي. كان مفهوما أن يلحق لقب "مدام" بالمرأة التي إحتلت مواقع عمل الخواجايات في الحياكة وتصفيف الشعر والتجميل والأزياء وما إلى ذلك، لكن ليس مفهوما أبدا أن تصير" مدام" لقب الصحفية والكاتبة والموظفة العمومية في دوائر الدولة والوزارات.  الوحيدة التي استطاعت أن تستخلص لنفسها لقب "الأستاذة" ويصبح دليلا عليها هي المحامية حتى تصور البعض أنه قاصر عليها، فيقول قائل "يامدام" وحين أصححه "من فضلك لقبي أستاذة!" فيتساءل "هو حضرتك محامية؟ ".

المشكلة ليست في الرجال الذين يحتكرون لأنفسهم المقامات العليَة (رغم أن باشا في أصلها تعني  ِرجل الملك؛ بما يفيد أنه خادم الملك!)، فيصير بدهيا لأصغر صحفي وموظف، بل وسائق تاكسي، أن تناديه "ياأستاذ" ولا يكون بدهيا له أن يخاطب رئيسته "ياأستاذة": هي التي تناديه "ياأستاذ" فيكون رده: "أيوة يامدام!"، المشكلة هي في تساهل المرأة وتنازلها عن حقها في لقب استحقته بالدراسة والجهد أي بالعرق والدموع، مثلا: تكلمني الصحفية الشابة "من فضلك يامدام..." فأجيبها، قاصدة
توجيهها ، "نعم ياأوستااااذة" لعلها تلقط الرسالة لكنها تظل على ندائها البايخ "يامدااامممم".

حالة "بلم" وبلادة تعم المرأة رغم صيحات مطالبتها بالمساواة والندية والعدل. لو استشعرت المرأة المساواة والندية حقيقة لما قبلت بألقاب دونية يمارسها عليها الرجل وتمارسها هي من بعده على نفسها وعلى بنات جنسها.

في إطار التعامل بين الملتزمين إسلاميا الموضوع منته بلقب "الأخت فلانة" و "الأخ فلان" فالحمد لله وكفى الله المؤمنات شر "يامدام"!



الجمعة، 23 ديسمبر 2011

الزمن الجميل للطعمية

إنتشر، بترهل كبير، تعبير "الزمن الجميل" يطلقونه على كل ماض مضى ولا يكون به أي شبهة من جمال أو وسامة سوى أنه "كان وياما كان"، ومع ذلك إذا كان لي أن أمضغ هذه اللبانة وأتنهد في تحســر على "زمن جمييييل" فليس لي ما أتحسـر عليه من الماضي سوى "طعمية زمان"! لم أعد أجد طعمية لذيذة؛ أبحث عنها عند مشاهير الطعمجية ولا أجد سوى أقراص كبيرة مزيّفة: الشكل طعمية والرائحة مُقاربة لرائحة الطعمية لكن لالالالالالالالالالالالالالالا هذه ليست الطعمية التي أتوق إليها وأتمناها لتعيد لي بهجة مذاق الطعمية في زمنها الجميل، في سنوات الأربعينات بالذات آآآآآآآآه!، صحيح أن تدهور مذاق الطعمية لم يتم فجأة لكنه، وللغرابة، تأكد مع اتساع مطاعمها المنتحلة لاسمها وألقابها المتنوعة زورا وبهتانا!

أعود بأنفي إلى الوراء ، عبر ما يقرب من 65 سنة مضت إلى حال سبيلها غير مأسوف على شئ فيها سوى "الطعمية"، أشم مسحورة رائحة طعمية "موسى فلفل" ليلة الأحد تملأ شارع العباسية من ميدان الظاهر بيبرس حتى ميدان فاروق، (ميدان الجيش منذ 23 يوليو 1952)، ويقف الناس في زحام للشراء والزوجة إلى جوار زوجها أمام طاسة الزيت المغلي لا تكاد ترى يدها الممسكة بالشوكة الطويلة تجمع بسرعة هائلة أقراص الطعمية، التي ما أن يلقيها زوجها في الطاسة حتى تنضج على الفور وتأخذ لونها الذهبي، ومع حركة يد الزوجة في جمع الأقراص الناضجة تسمع شخللة مجموعة غوايشها الذهب المتراكمة من الرسغ حتى قبل الكوع بقليل وعلى وجهها ووجه زوجها صهد بخار الزيت يزيد من احمرار أنفه الضخم، ورغم دوشة الزحام وإلحاح الطلبات يبتسمان وتظهر أسنانهماالذهب بوضوح. كان الإقبال على طعمية "موسى فلفل" وزوجته شديدا، لا فرق بين مسلم ويهودي وإن إشتهرت بلقبها "طعمية اليهودي": صغيرة الحجم نحيلة السُمك غالية السعر فثمن القرص الواحد الملّيم بأكمله! وطبعا مقارنة بـ "طعمية المسلمين"، التي كنا نشتريها من ميدان قشتمر، أم سمسم الأكبر حجما والأغمق لونا واللذيذة بوفرة طيلة اليوم وكل يوم والقرصين بمليم واحد، لابد أن يكون موسى فلفل وزوجته في عرف الزبائن "حرامية" لكنهما لم يضربا أحدا على يديه ليرغماه على شراء طعميتهما، التي لا يزدهر سوقها إلا ليلة الأحد بالتحديد بعد أجازة تحريم العمل عند اليهود من ليلة الجمعة حتى غروب شمس السبت.

طيب أين مني الآن "زمن الطعمية الجميل"، لا أنا طايلة طعمية موسى فلفل "أم مليم" ولا طعمية قُشتًمُر أم "إتنين بمليم"، ومشكلتي ليست في أن قرص الطعمية الغلس بجنيه؛ المشكلة أنها لا تمت إلى المذاق اللذيذ للطعمية بأي صلة!

وإن بقى لي أن أحمد الله سبحانه وتعالى على أن طعم البصارة والكشري والفول المدمس اليوم مازال كما كان بالأمس وسيظل، غالبا إنشاء الله، كذلك في الغد!
السيد الفاضل محمد نور الدين من الجزائر العزيزة: المقتطفات من جابر عصفور ومن المؤرخ الجليل يونان لبيب رزق ومثل هذه المقتطفات الكثير من الشاعر عبد المعطي حجازي وغيره وغيرهم العديد وليس في ذاكرتي مجدي الدقاق لأنه ليس في الحسبان مثل عكاشة؛ والسموم تجري على لسان العلمانيين لا تستثني منهم أحدا للأسف!

الأربعاء، 21 ديسمبر 2011

دعونا نتذكّر


إنها والله كانت مقولات علمانية عجيبة.. وإن لم تكن غريبة!

 في يوم ما من أيامنا قبل ثورة 25 يناير 2011، قال مسؤول ثقافي مصري كبير كان يشغل مركزا ثقافيا هاما يتحكم في مسارات الأخذ والعطاء إنهم، من ذلك المركز، يدعمون الدولة المدنية، ثم قال كلاما فهمنا منه أنهم يسعون إلى توطيدها بكل ما يملكون من هيمنة وقوة. والحقيقة أن هذا كان كلاما صحيحا وشواهده كانت كثيرة، وكان من الممكن أن تكون مؤثرة وخطيرة، لولا أن مثل هذه التصريحات، بلطف الله، كانت  تنزل على صفحات إعلامية لم تكن الغالبية في مصر تعيرها آذانا مفتوحة ناهيك عن صاغية.

كان من الممكن أن يظل هذا التكوين اللفظي، «دولة مدنية»، مبهما بما يمكنه المروق سلميا ليصبح فخا محترما يقع فيه الكثير من الناس الطيبين الذين لا يرون في هذا المقترح ما يهدد حرية عقيدتهم الإيمانية، لولا تلك المقالات، التي نشعت وقتذاك بكثرة لافتة تشرح المقصود وتبين جوهر «الدولة المدنية» المزعومة التي نادت  تلك الأقلية،  التي كانت مستحوذة على مفاتيح الثقافة والإعلام، بإقامتها.

بمتابعتي لذلك «النشع»، غير المقروء من الغالبية، كنت قد عرفت أن المقصود هو «الدولة اللا دينية»، التي نرى نموذجا منها في الدولة التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك عام 1925 في تركيا، ونرى بوضوح تعصبها العلماني المتشنج الذي يضيق برؤية غطاء شعر مختصر على رأس امرأة فيحرم على لابسته دخول قصر الرئاسة ولو زائرة في مأدبة دبلوماسية أو بروتوكولاتية أو عادية أو إنسانية، لا يحرّم فيها أكل الخنزير وشرب الخمر. بل إنه بفضل ضيق الأفق العلماني اللا ديني هذا تم فصل نائبة من البرلمان التركي وسحبت منها الجنسية، لأنها كانت تغطي شعرها، ولم يغفر لها أنها مختارة بالانتخاب الحر من الشعب.

المهم: لا يسرني ـ وإن كنت مضطرة ـ أن أسرد هنا، للذكرى والتذكرة، مقتطفات من مقالات كان قد تم نشرها في صحفنا القومية خلال عام 2007 ،ولا تحتاج مني إلى تعليق أو توصيف، ولن تغيب نغمتها التحريضية للفتك بالمؤمنين على أي قارئ منصف. وإنني أفضل أن أحتفظ باسم الكاتب وعنوان المقالات، وتاريخ ومكان نشرها، لأن ما يهمني ليس التنديد الشخصي بحضرته ولا الدخول معه في سجال، فهدفي هو توضيح ما يعنيه هؤلاء بـ«الدولة المدنية». والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين.

في سلسلة مقالات كتبها كاتب معروف اندلقت منه فقرات أختار منها التالي:

* «لا غرابة أن يتصف الإنسان...بصفة الجبر بمعناه الكلامي الفلسفي. وهو المعنى الذي ينفي عن الإنسان حرية الإرادة وحق الاختيار، فهو لا يشاء إلا بما شاء الله، وعليه الرضا بما هو مقسوم له، وما تقرر له حتى من قبل أن يوجد. ولا فارق كبيرا بين الإنسان المجبور والإنسان الاتباعي داخل بنية التراتب المفروضة، فالإنسان المجبور إنسان لا يملك القدرة على المبادرة الخلاقة، أو الفعل الجذري، أو الاختيار الحر، فهو إنسان يسلم نفسه إلى الأقدار وولاة الأمر، ابتداء من الأسرة التي هي الوحدة الاجتماعية الصغرى، وانتهاء بالنخبة الحاكمة، عسكريا أو مدنيا أو طائفيا، فهو إنسان مبرمج على الاستسلام لقوى بشرية وغير بشرية يراها أعظم منه، كما يرى نفسه أضعف من أن يقاومها أو يخرج عليها، فلا يملك من أمر نفسه إلا ما يجعله الوجه الإنساني للزمن المنحدر عن نقطة الابتداء في الماضي الذي يتحول المستقبل إلى عود إليه، ولا يفارق هذا الإنسان دوائر الطاعة والتصديق في كل مجال، والرضا بما يأتي به القضاء والقدر دون مقاومة أو تمرد، فالمقاومة كالتمرد خروج على الناموس الإلهي والاجتماعي والسياسي في آن. وطاعة الله فيما قدر على هذا الإنسان ويسره له هي الموازي الديني الذي تتأكد به طاعة السلطان، وإن جار...الخ».

* «....هذا الواقع ليس من صنع الأقدار ولا التاريخ، فالتاريخ نحن نصنعه كالأقدار التي يمكن أن نصنعها بدل أن تصنعنا، وإنما هو من صنع البشر القادرين على تغيير الواقع والانتقال به من شروط الضرورة إلى آفاق الحرية، لا بالهرب نحو أوهام الماضي الذي لا يمكن عودته، أو التراث، أو أساطير الخلاص الغيبية......».

* «ولذلك لابد للمواجهة من استراتيجية متكاملة تشمل التعليم بكل أنواعه ومجالاته، فقضية تطوير التعليم قضية أمن وطني...... ولن يتحقق ذلك من غير إرادة سياسية، حاسمة غير متذبذبة، إرادة سياسية لا تؤمن بأرباع أو أنصاف الحلول، خالقة المناخ الملائم لمواجهة ثقافة التخلف........وفتح الطريق أمام تكون الأحزاب المدنية بما يدعم الخاصية المدنية للدولة التي تحكم – وتكون محكومة – بالدستور والقانون..... ولا تنفصل عن ذلك كله المواجهة غير المترددة لتصاعد ظاهرة (التديين) إلى معدلاتها الخطرة التي تهدد المجتمع المدني، مقترنة بأشكال من التعصب الذي يفضي إلى الإرهاب الديني المباشر أو غير المباشر، المعنوي والمادي، لا فارق في ذلك، جذريا بين حمائم وصقور، ودعاة اعتدال ودعاة تطرف.....».
 نعم هنا مربط الفرس: «التحريض»؛ تحريض نظام المخلوع حسني مبارك وكل أجهزته القمعية التي كانت له للضرب بيد من حديد، إذ لا فارق جذريا، في زعم الأستاذ الدكتور المثقف الجنكيزي، بين حمائم وصقور ودعاة اعتدال ودعاة تطرف، أي اضرب بسيفك يا سياف ضربة شمولية لا تعتق فيها رقبة!

ولم ننته عند هذه النقطة الطفيفة في بحر الظلمات من التلبيس والخداع والمخادعة والتحريض والكلمات التي تعتبر أن الدين مناقض للوطنية، حتى قال مؤرخ كبير معروف، أن ثورة القاهرة الشعبية المجيدة ضد الحملة الفرنسية، في أكتوبر1798، لم تكن ثورة وطنية بل كانت «ثورة دينية»!

 مشيئة الله هي الغالبة: هكذا كانت وهكذا ستكون حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

"إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شئ قدْرا"، صدق الله العظيم \الطلاق \ 3.




 


الأحد، 18 ديسمبر 2011

بسم الله الرحمن الرحيم: وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون (84) ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو مُحرّم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يُردّون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون (85) أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يُخفف عنهم العذاب ولا هم يُنصرون (86)      صدق الله العظيم \ من سورة البقرة.

حينما شاهدت المصرية المنتهكة؛ ممزقة الثياب، مكشوفة العورات، والجنود مجتمعون فوق قلّة حيلتها وهوانها يضربها سافل منهم بحذائه وهي بلا مُغيث مسحولة على الأرض، خرجت مني على الفور صيحة: الكفرة!

نعم هذا هو الكُفر بعينه! وهذه المصرية هي مصرنا ذاتها! فما جزاء من يفعل بك كل هذا يامصر؟

ليتهم كانوا جند نابليون، ليتهم كانوا جنود الإحتلال الإنجليزي، ليتهم كانوا جنود أقذر أعدائنا من الصهاينة! لكنهم، يا مصرنا، ممن يزعمون أنهم حماة البلاد وحراسها!

الجمعة، 16 ديسمبر 2011

الأربعاء، 14 ديسمبر 2011

خسان خوسين بنات مُعاوية 

صارت الرؤية كأنها مستحيلة وبؤرة الإبصار معتمة، لكن من يملك أن يعترف بأنه لم يعد يرى؟ من يملك أن يتوقف لحظة عن الكلام ليسمع أو يفهم أو ليستدل ويسير في الاتجاه الصحيح؟ من هذا الذي لديه الصبر لينتظر حتى تكمل، من دون أن يندفع ليستنتج ما تنوي قوله، رغم أن استنتاجاته تشطح بعيدا، ويظل بكل طاقته يرد على ما لم يكن في البال؟ هناك مثل عند أهل العراق، يقولونه عندما يتراكم الخطأ في المنطق والقول والسياق والمفردات، يقولون إن هذا كلام مثل:«خسان، خوسين، بنات معاوية!»، أي أن المتكلم يقع في مجمل أخطاء أولها: نطق «الحسن والحسين»، ثانيا: أنهما ولدا «علي بن أبي طالب» وليسا «بنتي معاوية»، ولقد عانينا كثيرا من الغوص الجاهل في «المسألة الإسلامية»، حتى ألفناه فقلّت المعاناة، «تنّحنا»، كما نقول باللهجة المصرية، وأصبحنا نمرر الكلام بهشة يد، ونواصل حياتنا وفقا لاختياراتنا التي تمليها علينا عقيدتنا بفقه مذاهبها المتعددة، وبعلم أهل الذكر، ولا نتوقف لنتعجب من أن معظم الخائضين في أمور الإسلام، لا يستقيمون معه، للأسف، على أمر أو تكليف أو طاعة أو إلتزام، ولو جادلك أحدهم أو إحداهن، يكون الجدل مطابقا للنكتة المشهورة: «من قال إن الصلاة من دون وضوء لا تنفع؟ أنا صليت من غير وضوء ونفع!».

تسمع الصارخ، كأنه الغيور على سمعة الإسلام, يهتف نافيا: أهذا هو الإسلام؟ كلا! وتنظر فترى الصارخ بعيدا، بقدر استطاعته، عن مظهر ومخبر الإسلام العزيز، وهو، الذي يريد، أن يلقى في روعنا أنه، مقروص بالمرارة حزنا على «التشويه». وحين ينطلق ذلك المنطلق بكلام عن الإسلام يشبه منطق «خسان خوسين بنات معاوية»، لا تملك أن تصده بـ«هون عليك، كلامك كله عك»، لأنه حينئذ سوف تعلو عقيرته بما يصم الآذان:«لا كهنوت في الإسلام، لا إغلاق لباب الاجتهاد»، وتلوّح بما يُفهم من التلويح: «أينعم يا سيداتي سادتي.. لكن كذلك لا تخريف في الإسلام، والاجتهاد هو شأن من يعلم بحق الدراسة والبحث... و.. و..»، ولكن إذا كان هذا المنطلق بمنطق «أنا صليت من غير وضوء ونفع»، لا يسمع صوتك فهل يمكن أن يرى تلويحاتك؟

وبمناسبة فتح أحاديث مناهج التعليم  يحق لنا أن نتساءل: هل نريد أن نعد المواطن المسلم، ليكون راضيا بعلمنة المجتمع في البلاد الإسلامية، تحت عنوان «المجتمع المدني»، المقصود به تنحية الإسلام تماماً عن القوانين المنظمة للمجتمع، باعتباره عمامة متحفية نبوسها ونضعها جوار الحائط؟ ألا يجب أن نسعى نحو جعل الأمور أكثر استقامة بحيث تصبح شريعة «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، هي القائد لهذه الأمة، والحاضنة لتيارات التطور المعاصرة المنبثقة منها، أم أن نخضع لنداءات المطالبة بتدجين المواطن المسلم منذ الطفولة، ليتوافق مع ما يسميه الراطنون بـ«العصرية» و«الحداثة» و«العولمة»، من دون أن نحدد إلى أي «عصر» تنتمي تلك «العصرية»، المبتغاة والمنشودة، أهي إلى «عصر الإسلام» أم إلى «عصر الحقبة الأورو أمريصهيونية»، وعولمتها التي أصبحت تفصح عن نفسها بإملاء وقح متعجرف، يتباهى بإهانة الآخرين، وهو سائر نحو سحقهم بدماره الشامل؟ هل يجوز تدجين الطفل المسلم ليتوافق، فيما بعد، مع من أعلنوا بوضوح عداءهم للإسلام بالقول والفعل؟

ألا يجب أن نربي الوعي لدى الطفل المسلم، بأنه سوف ينشأ في مجتمع به تعداد جاهل بالعقيدة، وآخر معاد له جهارا تحت الإلحاد السافر، أو تحت غطاء مخاتل، لا يرى الصالح إلا في التبعية القردية للغرب  ونبذ «فطرة» المقاومة، بدعوى أنها ليست غاية، بل وسيلة أثبتت فشلها. ولا يسألني أحد كيف أثبتت المقاومة فشلها، لأن هذا يدخل في منطق «خسان خوسين بنات معاوية»!

 ألا يتحتم أن نربي الطفل بما يسلحه بمهارة المنطق السليم الصحي، وبقوة الخلفية الإيمانية القادرة على مناظرة الأفكار العلمانية المثبطة وفضحها ودحضها، بأسلوب غير إنشائي وغير متهافت؟ ألا يجب أن ندرج في مناهجنا الدراسة النقدية للأفكار العلمانية العولمية، ومهاجمتها من نقاط قوتها لا من نقاط ضعفها البدهية؟ ألا يمكن أن نستفيد من ميراث التربية التي أخرجت ابن سينا والبيروني، وابن خلدون، وجمال الدين الأفغاني، وسيد قطب، إلى آخر سلسلة العظماء في أمتنا من الشرق والغرب؟ والذي يمكن أن نضيفه حديثا هو: ترسيخ الوعي لدى طلاب العلم ، بأنهم يتحركون ويعيشون في عصر قوة التحديات العلمانية،  وعليهم أن يتخطوها ليحققوا مسؤولية «المعاصرة» التي نراها حقنا وهي: تثبيت المشروع الحضاري الإسلامي، وتقديم إنجازاته الإنسانية لنسترد موقعنا النّدّي مع قوى العالم  لنملك مصيرنا في السياسة الدولية، ونجلس، بعلمائنا، في مقعدنا الشاغر في الساحة العالمية، بوجه مؤمن أصيل وضيء، رحمة للعالمين.


الجمعة، 9 ديسمبر 2011

محفوظ .. الذي عاش يداري غضبه بابتسامات الدماثة!

قرأت نجيب محفوظ منذ بدايته حتى آخر حلقة من أحلامه الأدبية، قرأت نجيب محفوظ بإمعان، وتقدير، واحترام، وإعجاب، وتعجب، لكنني لم أحبه جدا إلا في ثلاث «ثرثرة فوق النيل»، و«من أصداء السيرة الذاتية»، و«أحلام فترة النقاهة»: يعطي كل حلم رقما، ولا تزيد القطعة عن 300 كلمة، وقد تنقص إلى مئة كلمة أو أقل.

مبكرا قرأت روايته الطويلة «بين القصرين» مسلسلة في مجلة الرسالة الجديدة عام 1954، وكان يرسمها الفنان الحسين فوزي لوحات ملونة حسنة الطباعة، ولم تكن «بين القصرين» هي أول ما قرأت، أذكر أنني قرأت قبلها «زقاق المدق» في دار الكتب، فرع الظاهر، التي كانت بالقرب من منزلنا بالعباسية، وأذهلتني إشارته الواضحة إلى آفة الشذوذ الجنسي، حين قالت زوجة إحدى الشخصيات: «كل النساء لهن ضرة امرأة، وأنا التي ضرتي رجل»، تعجبت وجفلت ولم أخبر أحدا بالبيت أنني قرأت كتابا به مثل هذه التلميحات.

في مدينة نيويورك 1963 حتى 1965، كنت أعمل موظفة محلية، بمكتبنا الصحفي الملحق بالبعثة الدائمة لمصر في الأمم المتحدة، لتدبير مصروفات دراستي ومعيشتي كلها، وكانت تصلنا جريدة الأهرام بانتظام، فقرأت بها «ثرثرة فوق النيل»، حلقات مسلسلة؛ كنت في غمار قراءاتي للأدب والمسرح والثقافة العالمية، من أول الصين واليابان واليونان حتى بيكيت وايونسكو واليوت وستريندبرج وخلافه، ومع كل هذا الزخم أطربتني حلقات «ثرثرة فوق النيل» وخلبت لبي. كان أدب نجيب محفوظ في ثلاثيته أدب تفاصيل وحشد، وأنا بطبعي أميل إلى المختصر والمختزل والمكثف، الذي أجده صعبا على كثير من الكتاب. صحيح أن لنجيب محفوظ مطولاته الشيقة، التي لا تزهق الروح ولا تكبس على النفس، لكنها بعد أن تحول معظمها ـ للأسف ـ الى أفلام سينمائية، قد فقدت القراء، وأصبح كل "مجعوص" على كرسي يفتي في «أدب» نجيب محفوظ من أول الفنانة يسرا إلى الناقد عُسرا، يستمد مادته مما شاهده في الأفلام، وليس مما قرأه حقا من فن الرواية الرفيع عند نجيب محفوظ، وأشهد أنني لم أحتمل أبدا مشاهدة أفلام الثلاثية: «بين القصرين» و«قصر الشوق» و«السكرية» بسبب زعيقها ومجونها وخلاعتها النابية. عند قراءتي لـ«ثرثرة فوق النيل» قلت لنفسي بفرح: هذا منحني جديد في فن نجيب محفوظ، فن الوعي الثاقب، والقول السديد من خلال الغمام والدخان، وما يبدو اللاوعي، اذ لم تكن المخدرات هى الحشيش بالفعل، بل كان الحشيش رمزا لمخدرات أعتى وأخطر منه في ذلك الزمن الناصري، الذي عبّرت عنه الرواية، عبّر عن الاقتراب المتفجر بالابتعاد عن ملامسة الواقع المادي المحيط. الشعر والوجد والحلم أرضية، وجدران، وسقف، وحديقة، وماء نهر، وفضاء ممتد للرواية، يمد بطلها يده ليلتقط الأفكار الفسفورية التي تلمع ومضات ثم تغيب، ذلك البطل الذي قدم نجيب محفوظ من خلاله نقده الدقيق العميق الأمين للحقبة الناصرية أبان سطوتها عام 1964، 1965، قبل هزيمة 5/6/1967 كانت «ثرثرة فوق النيل» مؤشرا يقول «سوف يحدث ما قد حدث». غضبت من نجيب محفوظ في سنوات حكم السادات، لكنني لم أتوقف عن قراءته، فالرجل يخبئ مواقفه في أدبه ويداريها بابتسامات التهذيب والدماثة، وقد فهمت ذلك وأنبت نفسي على ظلمي له.

أحببت «أحلامه»، رقيقة مثل هفهفة الحرير الناعم على الخد، وجميلة مثل الزنابق البيضاء التى تشيع فيما حولها عطرا خفيفا، يروح ويجيء، وتأتي إليه فيراوغك ويدفعك إلى الابتسام برومانسية مثل تشكيلات الدانتيل التي تزين الشباك، اكثر مما تحجب عنه أو منه، أكون حزينة، منقبضة، ثقيلة، وأقرؤها فتأخذني بيدها لترفعني وقد تمت مواساتي. هو فيها طفل مذعور، تطارده المخاوف، وعاشق مهجور يؤرقه الهجران، ومواطن قلق لا يكف عن التلفت تحسبا لمداهمة، أو ملاحقة أو طرد، أو ضياع، لكن هذه الهواجس كلها لا تبدو في الحلم كوابيس، وإن كانت هي كوابيس عمر طويل عاني على مشوار الحياة والأدب والتعبير، وهو يخفي غضبه واحتجاجه وراء ابتسامات المجاملة والتهذيب والدماثة، كوابيس دوَنها، حلوة عذبة، كأن واقعها المر قد تبخر وذهبت مرارته، وحين عاد وتكثف ليتساقط، في الحلم، قطرة، قطرة، صار «قطر العسل»! 

كل عام ونحن نحتفل بالخير في بلادنا، وإلى اللقاء معك يا سيدي في عيد ميلادك القادم بمشيئة الله سبحانه.


الخميس، 8 ديسمبر 2011

28 نوفمبر 2011
في الساعة السابعة صباح يوم الإثنين 28 نوفمبر 2011 كنت عند باب الخروج متوجهة إلى لجنة الإنتخاب 418، التابعة لقسم الوايلي، في مبرة طلعت حرب قرب بيتي. بيدي ورقة كتبت فيها باهتمام شديد رقمي في الكشف وبطاقة رقمي القومي والخطوات التي يجب أن أتبعها لتحقيق المراد والأمل المنشود في إنتخابات حرة نزيهة نرتضي نتائجها مهما كانت؛ طالما هي صوت الشعب الصادق. وصلت مبكرة حريصة، كل لحظة، كل الحرص على مراجعة التعليمات والخطوات، وجلة خشية الخطأ والسهو كأني في مناسك الحج. طابور النساء يمتد ولم يحن بعد موعد فتح اللجنة، الحمد لله لاتوجد بينهن عجوز تنافسني في التمتع برخصة الأسبقية في الدخول بسبب سنوات عمري التي أعلنتها بفخار شديد، غير مبرّر، على ملأ المنتظرات في الطابور حتى لا يتصوّرن أنني أغتصب حقا ليس لي: "أنا أربعة وسبعين سنة"! فبادرتني واحدة: "وأنا ورايا أروح شغلي"! لم أشاكسها بأي جدال إذ أسرع شاب من مشرفي اللجنة باحضار كرسي لأجلس عليه بعد وعد بتلبية رجائي. مبسوطة جدا بالشمس الساطعة والهدوء والسكينة أسترجع إنشراحي يوم ذهبت، عام 1956، أمارس مع نساء مصر حقنا الإنتخابي في الترشيح والتصويت لأول مرة بعد أن ناضلنا طويلا لنيله، وبيدي بطاقتي، صادرة عن وزارة الداخلية، محافظة القاهرة: "شهادة انتخاب طبقا للمادة 21 من القانون رقم 73 لسنة 1956، الإسم ....، والصناعة: طالبة، والسن وقت القيد: 18 سنة، ورقم القيد في جدول الإنتخاب: 18 \ سيدات"!

بعد تلك المرّة الأولى لم تكن هناك فرحة لأنه لم تكن هناك جدوى!

في مثل 28 نوفمبر 2010، وكان يوم أحد، ذكرت في مفكرتي: "الإنتخابات: طبعا لم أحاول النزول!"، وفي يوم الثلاثاء 30 نوفمبر 2010 دوّنت: "نتيجة الإنتخابات عجيبة!". وكتبت في 13 ديسمبر 2010 أقول: (إذا كانت الإنتخابات تؤدي بنا إلى هذا المستوى المتدني في كل إجراءاتها ثم نتائجها؛ فلا بد أن نكون على يقين بأنها ليست الإنتخابات المرجوة لحياة نيابية محترمة وموثوق بها، ولا يمكن أن نحقق معها مانتأمله من إصلاح وتغيير ينهضان ببلادنا بعيدا عن كل بؤر الفساد .

في يوم الأحد 12\12\2010، الذي كثرت زعابيبه واشتدت رياحة وتدنت فيه الرؤية تحت شبورة ترابية كتمت أنفاس القاهرة، وغرقت الإسكندرية ومدن الدلتا  تحت الأمطار الغزيرة متسببة في خسائر في الأرواح والأموال، تم افتتاح الدورة الجديدة لما اصطلح على تسميته "مجلس الشعب"، البرلمان في قول أقدم، ولم تستطع الكلمات الواثقة أن تخفي الوجوم الجمعي، الذي ظهرعلى الوجوه  جليا أمام الجالس من المواطنين يتابع الحدث عبر شاشات المذياع المرئي، ليكون بدوره شبورة أخرى، موازية لشبورة التراب، كاتمة لأي ملمح من ملامح الفرح أوالإنتصار، فيما كان الجمع الغفير من قوى المعارضة متجمهرا في الشارع أمام دار القضاء العالي يرفع هتافات "باطل..باطل"!

لم يكن هناك مجال لتصور آخر غير أن الأمر برمته تسديد خانة: "وهم" اسمه الحياة النيابية، ولم يكن هذا "الوهم" بالشئ الجديد؛ فالذي يجب أن نعترف به أننا لم يكن لدينا حياة نيابية حقيقية منذ أسس محمد علي دولة الإستبداد وحكم مصر بمقتضاها عام1805، وظل "الإستبداد" وتزوير مصالح الناس أساس الحكم في كل العهود؛ ملكية وجمهورية، وإن تزوق في بعضها بالدساتير وملاعب الإنتخابات والخطابات الرنانة في قاعات امتلأت بالأعضاء الذين طالما داعب النوم أعينهم فاستسلموا له من دون أن يحرجهم الغطيط!

الناس تواقة إلى نيل الحقوق وتقديم الواجبات، بل والتضحيات، عبر سعي جاد، لامراوغة فيه ولا تلاعب، يؤدي إلى تمثيل صادق لمصالحهم اليومية والتاريخية، لامنٌ فيه ولا أذى، بعيدا عن هؤلاء الذين "لا يعرفون الحكم غير غنيمة وسعت محاسيب الرجال كما ترى، يتخاصمون إذا المآرب عُطّلت فإذا إنقضين فلا خصام ولا مرا"، على حد تعبير مقولة شاعر في أربعينات القرن الماضي!

مالم يتحقق ذلك فسيظل هتاف "باطل..باطل" النشيد الوطني المتواصل لكل رافض، عن حق، الإستمرار في مهزلة "وهم" حياة نيابية!)

نسأل الله النجاح والفلاح هذه المرّة؛ التي ستكون بحق: أوّل مرّة!





الأحد، 4 ديسمبر 2011

 جيل الستينيات من القرن العشرين



التعريف المباشر لجيل الستينيات هو: إنه الجيل الذي خُدع، و قد تحول من خانة  المجني عليه إلى خانة الجاني، مثل الذي تحول إلى مصاص دماء بعد أن مص رقبته مصاص دماء أصلي!

  كانت 23 \ 7\ 1952 في بدايتها، حينما كان أبناء هذا الجيل في سن المراهقة يحملون أحلاما بتغيير ثوري، توقعوه منها، ينقذ البلاد من نظام فاسد؛ من كوارثه الكبرى هزيمة عسكرية مروعة عام 1948 تسببت في نكبة فلسطين وقيام كيان صهيوني غاصب، ولايلام جيل الستينات  على ذلك التوقّع، فقد تعلم  تعليما موجها، قبل إدراكه أن الخاطفين لحلم التغيير الثوري جهلة ومتعالون؛ ينطقون الأخطاء بزهو شديد ثم يتم تبريرها بحيث تبدو "كلاما كبيرا" سليما، حتى حانت لحظة اكتشاف حقيقة هذه المجموعة الحاكمة والمسيطرة التي تمص دماء من لا يطاوعها  وتنكل به ليصبح مثلها، ولم ينج منها إلا من رحم ربي.

 هذا الجيل هو الذي ولد بين عامي 30 و1940 ولأنه نشأ في عصر الفجوة بين الشعارات السياسية والواقع، والفجوة بين المصطلحات الثقافية والمتلقي، سادت ظاهرة من يقول كلاما لا يفهمه الناس، وهؤلاء ساعدوا على جعل الفجوة أخدودا.

 بسبب تعرض هذا الجيل للفكر الماركسي بكل أطيافه، الذي أمدّهم بقدرات عالية من الرطانة، تولدت الإزدواجيات ومايمكن أن نسميه شغبا فكريا، بالإضافة إلى من اجتذبهم الفكر الغربي الإلحادي وعرفوا تاريخهم عن طريق المستشرقين وأغرتهم معارفهم المزيفة لتحقير تراثهم فأصبحوا مفكرين غير مفكرين، وروادا غير رواد، لايزيدون عن كونهم "خايلة كذّابة" أي جعجعة بلا طحن، تفاقمت مع مرحلة نقد الذات والتنكيل بالذات التي لم تكن ذاتا بالأصل.

هذه مأساة جيل الستينيات، وسبب المتاهة الفكرية والثقافية التي مازالت تعيش فيها البلاد.

هو جيل اضطهد نفسه، والذي تميز منه يكره نفسه ويكره زميله الذي تحسنت أحواله، ولا يتعاطف مع زميله الذي تنكست أعلامه.

 في جيل الستينيات كان هناك مايمكن أن نطلق عليهم "جنود الحلم الثوري" وهم الذين اكتشفوا الزيف السياسي فعبروا عنه لكنهم اتفقوا على الرفض ولم يتفقوا على الحلول؛ فاختلطت عليهم الامور، بالاضافة إلى تأثر بعض أبناء هذا الجيل بأفكار الجيل السابق عليه؛ المناوئة للفكر العربي والإسلامي. ولا ننسى هنا مسئولية الماركسية ودورها في صناعة  هذه المتاهة، فصبغة الستينيات الرئيسية كانت الصبغة الماركسية التي ضللت هذا الجيل وتسببت في تجهيله، مع أنه لم يصبح  جيلا ماركسيا بالتمام سوى أن الضجيج العالي كان صرخة ماركسية خائبة لم توصلنا إلى شيء ولم تحارب سوى نفسها والأفكار الإسلامية وألقت بيننا العداوة والبغضاء.

 وصف التحولات السياسية في حياة أبناء هذا الجيل بالانقلابات غير دقيق فهي تحولات جاءت بسبب محاولاتهم تصحيح نتائج اندفاعهم وراء الوهم، والإنسان لا يستطيع أن يؤيد الوهم  طويلا، فأنا مثلا، واحدة من هذا الجيل، لم اكتشف الخديعة الناصرية إلا في نهايتها، بداية من 6819 بعد النكسة، عندها جرؤت على تسميتها بالخديعة، لأني كنت قد تصوّرت أن جنود الحلم الثوري يستطيعون أن يدافعوا عن حلمهم، لكننا تبيّنا، متأخرا، أننا خدعنا وأننا سرنا في زفة كنا فيها: الأطرش!

عندما حبس كافور الإخشيدي دم المتنبي

أنا شديدة الإعجاب بكافور الإخشيدي الذي لم يهتم بمديح المتنبي له؛ لم يعطه فلسا ولا سحتوتا من جيب مصر، ولم يتهدد من لسانه الحاد الذي أطلقه عليه المتنبي بهجاء عنصري، قليل القيمة في الأخلاق، وإن أصبح من عيون الشعر العربي، ( مما يثبت أن الإبداع ليس مُقدّسا بأي حال من الأحوال)، نعم لم ينفق كافور الإخشيدي من خزائن مصر، المؤتمن عليها، على هذا الشاعر المنافق الذي مدحه من تحت ضرسه لقاء هبة أو جائزة ولما خيّب رجاءه هاج وماج ولم يخجل من توضيح أسباب غضبه من كافور فقال  يشرشح: "جود الرجال من الأيدي وجودهمُ
                   من اللسان فلا كانوا ولا الجـــودُ"!
وذلك بعد أن سبق قوله في مديحه المتسول:
                   "قواصــــد كافور، توارك غيره
                    ومن قصد البحر استقل السواقيا"

في البحث عن أصل وفصل كافور، المتوفي بمصر سنة 968 م، نعرف أن محمد بن طغج، مؤسس الأسرة الإخشيدية ،اشتراه عام 923 كأحد الرقيق من الحبشة، وكان مخصيا وأسود اللون،  وعندما انتبه سيده لذكائه وموهبته وإخلاصه جعله حرا وأطلق سراحه، ثم عينه  مشرفا على تعليم أبنائه، وأصبح كافور، من موقعه كوصي على العرش بعد وفاة محمد بن طغج، الحاكم الفعلي لمصر منذ 946، وقد وصفه المؤرخون بأنه حاكم عادل انتصر في الحروب، إلا أن شهرته ارتبطت بالقصائد الساخرة الموجهة ضده من قبل المتنبي الشاعر الأكثر شهرة "إعلاميا!".

لم يعجب الموالون والمؤرخون للمتنبي تعاطف كافور مع العبيد فاتهموه بأنه: "... استمال العبيد وأفسدهم على سادتهم..." وأنه كان "... لا يصفو قلبه إلا لعبد كأنه يطلب الأحرار بحقه...": ولم لا؟ ألا يحق لكافور، بعد كل الإذلال الذي لاقاه من "الأسياد" المحقّرين له بسبب لونه وجنسه، أن ينتصر لمن استشعر لهم الظلم؟

مما يُروى عن كافور، وقت أن جُلب إلي سوق النخاسة، أنه مر ذات يوم بسوق من الأسواق بصحبة عبد مثله، وسارا معاً يتطلعان فقال زميله:أتمني لو اشتراني طباخ فأعيش عمري شبعان بما أصيب من مطبخه! أما كافور فقال: أتمني أن أملك هذه المدينة!

 من أشهر أبيات الشعر التي هجا بها المتنبي كافورا: "لا تشتر العبد إلا والعصا معه إن العبيد لأنجاس مناكيد"! وقوله حين نهض كافور ليلبس نعله ورأى شقوقا بقدميه:
"تظن إبتساماتي رجاءً وغبطة، وما أنا إلا ضاحك من رجائيا، وتعجبني رجلاك في النعل إنني، رأيتك ذا نعل إذا كنت حافيا، ...................، ويذكرني تخييط كعبك شقه، ومشيك في ثوب من الزفت عاريا،................، ومثلك يُؤتى من بلاد بعيدة، ليضحك ربات الحداد البواكيا"!

 يا ستّار! صحيح إن المتنبي (المولود بالكوفة سنة 915 م وقُتل في الطريق إلى بغداد 965 م) لشاعر عظيم ومع ذلك يتأكد من هجائه لكافور أنه: منحط إنسانيا!

السبت، 26 نوفمبر 2011


حجازي الرسّام

الحمد لله وجدت كاريكاتير "حجازي" الذي ظللت أحتفظ به منذ سنوات وقد صوّر فيه وزير الداخلية لواء حسن أبو باشا يمسك بهراوة غليظة متحزما بالقوانين الإستثنائية  وتزوير الإنتخابات ومكشرا بملامح لا رحمة فيها وهو يقول لمواطن مُروّع: "نتكلم بالعقل. إنت ليه إرهابي وأفكارك متطرفة؟ إخرس ولا كلمة!"؛ مُلخّصا منهج القهر والبطش الذي كان يعتمده سيادة اللواء، ومن قبله ومن بعده كل السادة اللواءات من أساتذته وزملائه وتلامذته، وقد أتاحت لي معاودة النظر في هذا الكاريكاتير، أرجو أن يصاحب كلامي، إكتشاف الشبه بين وجه المواطن المرسوم ووجه حجازي نفسه الذي عرفته: ذلك الميل من الرأس بالرقبة ناحية الكتف مع إتساع العينين تملأها النظرة الغنية عن أي تعقيب إذ تتسمر بالتعجب فلا ينفتح الفم ولا يجد اللسان أي جدوي في الكلام. هكذا كان حجازي له ذلك الميل برأسه مغلقا فمه، فاتحا عينيه الملونتين على إتساعها بتعبير بين من "سيفطس على روحه" من الضحك أو على وشك إنفجار بالنحيب؛ فشر البلية ما يضحك!

ودودا لطيفا مجاملا متعاطفا في كل المرات التي جمعتنا فيها اللقاءات؛ يستمع، وقد يقهقه، من سرد لتفاصيل المفاسد، وحين يهم بالكلام يتوقف بحسم اللاجدوى ويكسوه عزم الصابر على المكاره الواعد، بذات الوقت، بمطاردتها وتكسير دماغها، ولا تتوانى رسوماته عن الوفاء بالعهد. لازلت أذكر، إبان حملة  التسفيه الإعلامي التي دارت في نهاية  الستينات ـ ( بعد هزيمة 5 يونيو 1967) ـ ضد مقاومة الشعب الفيتنامي للتهوين من أمرها،  رسمه لسيدتين تجلسان إلى طبلية تنقشان كحك العيد وواحدة تقول للأخرى: " بقى هم في فيتنام يعرفوا ينقشوا كحك زيّنا؟"!

بشهامة وجدعنة وقف حجازي الرسام يؤازر، بكل ما أوتي من فن ووعي، الكيان الفني نجم\إمام، في سنوات المطاردة والحصار، وكانت لهما أغنية تقول في مقطع منها: "والخضرة ف جلبي، وجلبي دايما على طرف لساني يا بوي، ولساني حصاني رماني يا بوي، وتعبني كتير وأذاني يا بوي، ياما جابني وياما وداني يا بوي، من جوله ف الحكايات ...."،  صوّر بها الشاعر أحمد فؤاد نجم اللسان، الذي ينطق بما يراه حقا وخيرا وفائدة للناس، مؤكدا معنى "لسانك حصانك إن صنته صانك وإن أهنته هانك"؛ فصون اللسان لا يعني قطعه بالإمساك، جبنا، عن قول ما ينبغي قوله بل هو العكس تماما إذ يعني أن يسير بنا اللسان، كما الفرس النبيل، في طريق الإستقامة نحو صيانة ما يجب أن يصان مهما لاقينا وتكبدنا من مشاق وتعب وأذى، وكنت دائما أرى لسان حجازي، الذي أغلق عليه شفتيه، ينطلق على الورق بخطوط الرسم البارع والفكرة الوهاجة مجسدا رسالة الإستقامة محققا بفنه: صيانة ما يجب أن يصان.

الثلاثاء، 22 نوفمبر 2011

اسمعوا صوت الشعب وكفاكم لغطا
لاأدري من الذي ألقى في روع  المنادين بتنحية الدين عن شئون حياتنا أن أرض مصر قد دانت لهم ولم يبق عليهم سوى التخلص من المتدينين بالإساءة إلى سمعتهم بسيل أكاذيبهم وتشويه منطلقاتهم و تحريف أفكارهم وممارساتهم وتحميلهم مسئولية إخفاقات دولتهم المستترة تحت لافتة "المدنية"، التي عزلت الدين عن الحكم منذ إستبد العسكري الجاهل محمد علي بحكم مصر عام 1805، آملين، أمل إبليس في الجنة، الإنتهاء منهم تماما والجلوس على تلّها.

هؤلاء، الذين أصبحوا يسيطرون على كثير من نوافذ الجعير الإعلامي في مصر بواسطة  رؤوس أموال ما أنزل الله بها من سلطان لها أهواؤها وأهدافها ومخططاتها ومصالحها السرية والمعلنة،  يعترفون بعظمة لسانهم أن "الدين" هو الوسيلة لكسب قلوب أهل مصر واستقطاب مشاعرهم  وذلك حين يقررون أن المادة الثانية من الدستور، التي تنص على: "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع"، تم تعديلها
بواسطة الرئيس الراحل محمد أنور السادات "لدغدغة" مشاعر الناس واستمالتهم، على حد تعبير أستاذ قانون دستوري من المطالبين بإلغائها، فإذا كان هذا الزعم له وجه من الصحة أفلا يعني أن  تحكيم الشريعة الإسلامية، التي لاتطبق إلا على المسلمين، مطلب شعبي؟ فهلاّ طرحوا أنفسهم في إستفتاء  يستطلع رغبة الناس في "الدين" أو "اللادين" لنرى على أي سند "ديموقراطي" يستندون في مطلبهم المُلح لإبعاد الدين عن الحياة؟

بسبب قول يفيد  بالتعامل مع الإخوان المسلمين، بصفتهم قوة موجودة بالفعل على الساحة السياسية، هاج أصحاب النداء "لا للتدين" وماجوا وزعقت لاءات فلول الماركسيين ومن على دربهم من بقايا  شمسهم الغاربة، كأنه قد أصبح بالفعل لنا رئيسا لجمهورية مصرمن الإخوان المسلمين وسيؤلف من الغد وزارة يرأسها المرشد العام!

هبطت علينا لافتة "الدولة المدنية" متخفية، كمثل الشر الذي نزل من حصان طروادة ليطعن الآمنين في غفلة منهم، وكان المنطقي أن ينخدع بها الناس متصورين أنها "غير العسكرية" و"غير البوليسية" فإذا بنا نباغت، قبل 25 يناير وبعدها، بكل أقوال التجاوز و التواقح على الدين والمتدينين، بل والتحريض الأمني عليهم في عبارات ترميهم بـ"ثقافة التخلف"،( وكان صاحب المصطلح قد أوصي في سلسلة مقالات نشرها في صحيفة قومية، مهيبا بكل أجنحة سلطة حسني مبارك البائدة، بعدم التهاون مع أتباعها فهم وقود الإرهاب وليس بينهم متطرف ومعتدل فكلهم جميعا، في ملته واعتقاده، يستحقون الإقتلاع  بسيف حماية "الديموقراطية" و"التنوير" الملحق طبعا بقلمه البتار، ولِمَ لا وهو مسئول ثقافي، نال جائزة القذافي المليونية، وكان، ولا يزال، متحكما وقادرا على الدس والبث ويطل من كل شرفات هذا العصر اللاديني المقيت)،  حتى طالت الألسنة المجرمة الفتح الإسلامي لمصر عام 20 هـ وتجرأت، وهو نعمة الله علينا، بنعته: "قوة إحتلال إستيطاني مسلحة ومحاربة قادمة من الصحراء!"، ومن ثم صرنا نحن، مالم نتبرأ من الدين، "أحفاد الغزاة الآتين من الصحراء" إلى آخر تخليطات الأبخرة الكريهة الخارجة من أفواه تفننت في الكذب والبهتان وكل أشكال الأذى، وإذا بنا أمام مؤامرة تحاك لنا تقهرنا لننزلق إلى "دولة لادينية"؛ تعدّت أطماعها مقولة "لادين في السياسة ولا سياسة في الدين" إلى "لادين" على الإطلاق في أي منحى من مناحي الحياة وعلى رأسها مناهج التربية والتعليم، برغم ما جاء في الباب الثاني من الدستور الخاص بالمقومات الإجتماعية والخلقية، المادة 12:"يلتزم المجتمع برعاية الأخلاق وحمايتها، والتمكين للتقاليد المصرية الأصيلة، وعليه مراعاة المستوى الرفيع للتربية الدينية والقيم الخُلقية والوطنية، والتراث التاريخي للشعب......".

لابأس حانت لحظة الإحتكام إلى صوت الشعب فكفاكم لغطا: "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون". صدق الله العظيم، يوسف\آية 21.












الأحد، 20 نوفمبر 2011

56 سنة صحافة

 أبلغ هذا العام 56 سنة في العمل الصحفي، ففي1955 دخلت دار أخبار اليوم وقابلت الأستاذ  مصطفى أمين صاحب الدار وقلت له إنني طالبة بقسم الصحافة بكلية الآداب جامعة القاهرة ولكنني غير مكتفية بالدراسة النظرية وأريد أن ألتحق بأخبار اليوم تحت التمرين.  كان عمري في تلك المقابلة 18 سنة، وأهيم اعجابا بأسلوب دار أخبار اليوم في الكتابة والتحرير وروحها الشبابية المتوثبة.  رحب بي مصطفى أمين وأدخلني مع مجموعة من زميلاتي قسم الأبحاث، وتلخص عملنا في تغذية الأرشيف بقصاصات من مجلدات صحف قديمة نقصها وفقا لأهميتها من وجهة نظرنا، وكان المقصود هو التجول في التجارب الصحفية السابقة للقفز منها إلى الجديد والمتطور. بعد مايقرب من عام ونصف قرر لنا مصطفى أمين مكافأة شهرية قدرها خمسة جنيهات نستلمها من الكاتبة مي شاهين، التي كانت من رائدات العمل الصحفي، لم تكن لطيفة معنا وبدت غير مرحبة بوجودنا بعكس خيرية خيري وفتحية بهيج اللتان كانتا مستعدتان دائما للمعاونة و الإرشاد. لاشك، والشهادة لله، أنه كان بنا مايزعج العقلاء فقد كنا مجموعة شابات جامحات ممتلئات بالمرح والثقة الهائلة بمواهبنا الأدبية والفنية ،فمنا من تكتب وترسم، ومن تتملكها عين ناقدة تعبر عنها بقدرة هائلة على التهكم و..و..، أما أنا فكنت أكتب الشعر والقصة و أختال بجمال أسلوبي بمبالغة غفرها لي الجميع!

خلال عام 1957 تم تعييننا محررات بدار أخبار اليوم، ونحن في العشرين وقبل الحصول على شهادة التخرج من الجامعة التي حصلت عليها عام 1959. أخذني موسى صبري  من قسم الأبحاث لمجلة "الجيل الجديد" التي كان يرأس تحريرها منوها بشطارتي وتوقعاته لي بأنني "أجيب الديب من ديله"!

كانت الجنيهات الخمسة بمثابة مصروف جيب للمواصلات، (أبونيه الترام بتخفيض للطلبة)، والنثريات، ( بطاقات مشاهدة أفلام السينما من فئة 14 قرشا مقاعد صالة + وجبات مكرونة فرن باللحم المفروم "ع الواقف" من المطعم الإيطالي "بامبو" جوار سينما مترو لا تقل تكلفتها عن 6 قروش لأن "الصحة مش بعزقة" + كاسات أيس كريم " تروا بيتي كوشو" من الأمريكين 5 قروش ونصف للواحدة "وإن شاالله ما حد حوّش!")، المشكلة المالية كانت تبدأ عندما يداعب طموحنا مشروع مكلف مثل ذلك الذي مازالت تحمله أوراق دفتر كتبت على غلافه: "بحث في مشكلة تجميع فلوس رحلة روسيا"!  حددت "المشكلة": مطلوب 10 جنيهات لرحلة روسيا في إبريل 1957، إذن مطلوب أن أعمل 5 مواضيع سعر الواحد منها 2 جنيه برجاء  نشرها كلها في مجلة الجيل - صفحتين- لكي أحصل في منتصف إبريل على 10 جنيهات لرحلة روسيا، " فهل أستطيع؟ "!

 استعرضت احتمالات الموافقة والمعوقات، وتمثلت المعوقات في سكرتير التحرير لكني نصحت نفسي بالتغاضي عن بروده وثقل ظله حتى لايعرقل موافقات رئيس التحرير، موسى صبري، الذي وصفته بأنه الفنان الفهمان المقدر لنبوغي واجتهادي، وأتذكرأن لديه قطعة شعر و قصة لي عنوانها "ليتها تموت!" ومن المحتمل أن تعجبه ويقرر نشرها بتقدير مالي يسرني، أذهب إليه: حضرتك قرأت القصة؟ يرد بسرحان:  قصة؟ ثم يتركني ويسهب في الكلام هاتفيا وبعد لأي ينظر إليّ:....أهلا صافي ناز؟ فأعيد : حضرتك... بسأل عن القصة..! يستفهم:...قصة؟ أرد: أيوة ليتها تموت! يدق صدره: تموت ليه كفانا الله الشر! ثم يتجاهلني تماما ويعود إلى مواصلة همسه للهاتف فأفقد الأمل في القصة و قطعة الشعر وأعترف أنه ليس أمامي سوى أن أستمر في إنجاز الموضوعات!

 ينتهي كلام أوراق 1957.

لا أذكر كيف كانت رحلة روسيا بعشرة جنيهات، لكن الذي أذكره جيدا أنني لم أنجح في تحصيل المبلغ ولم أسافر روسيا أبدا، لاوقتها ولا بعد ذلك!



الثلاثاء، 15 نوفمبر 2011

من صندوق الجواهر:

الاستشهاد: أعلى قمم الشعر
16 سنة مرت علي استشهاد الدكتور فتحي الشقاقي ، مؤسس حركة الجهاد الاسلامي المقاوِمَة على أرض فلسطين . ففي يوم الخميس 26 اكتوبر 1995، الموافق 2 جمادي الثاني 1416، ظهرا، تم تنفيذ قرار اسحق رابين، 73 سنة ، بقتل فتحي الشقاقي، 44 سنة ، تحت إشراف رئيس الموساد ، وكان هناك ثلاثة اختيارات للتنفيذ، فوافق رابين على واحد منها. جاء هذا القرار بالقتل والتنفيذ قبل وأثناء وبعد أن وقف اسحق رابين في واشنطن يتعهد أمام العالم بالسلام، يوم الخميس 28 سبتمبر 1995، ويقول : كفانا دماء ودموعا ، كفانا!.

بين يوم الخميس 28 سبتمبر 1995 والخميس 26 اكتوبر 1995 أثبت رابين أن احترامه للعهد لا يمكن أن يصمد ولو لشهر واحد . ولم يكن في نكث رابين لعهده بعدم القتل أي غرابة ، فإذا لم يكن مجرم حرب ومجرم سلام مثل اسحق رابين واحدا من الذين قصدهم القرآن الكريم بقوله : «الذين ظلموا من أهل الكتاب »، فمن يكون؟

وحين خفقت قلوبنا في جدلية بين ألم لفقدان قمر من أقمار المقاومة الفلسطينية ، وبين فرح لفوز جندي مرابط بالشهادة في سبيل الله، يعرف أن أجره الفوري أن يظل حيا مرزوقا عند الله، وقف اسحق رابين يقول بفظاظة الشامتين ودمامة الخنازير والقردة : «إنني غير آسف لموت الشقاقي والحياة أفضل بدونه». وكان الباطل مع رابين. ونشرت الصحف صورا عديدة للمجاهد الشهيد، وقارنت نظرته الفتية الصبوحة في عينيه الباسمتين، المعقودتين علي إحدى الحسنيين : النصر أو الشهادة ، وبين نظرة الالتواء والحقد والشراسة في عيني رابين المتجهمتين الشيطانيتين ، وفيهما طالعت السجل الحافل لمجرم عتيد اسمه اسحق رابين .

في يوم الأربعاء أول نوفمبر ، ليلة ذكرى وعد بلفور المشؤوم عام 1917، كانت جنازة الشهيد فتحي عبد العزيز الشقاقي، وتم دفن الشهيد ابن فلسطين قرب دمشق ، لأن سلطات الاحتلال الصهيوني منعته من الدفن في مسقط رأسه بفلسطين المحتلة .

في مساء السبت 4 نوفمبر 1995 شاء الله سبحانه وتعالى أن يقتل إيجال عمير الصهيوني المتعصب إسحق رابين، وأن يعلن : «أنا غير نادم ، وقد نفذت أمر الله ! »، وهكذا في أقل من أسبوع ارتدت الكلمة الحاقدة لرابين حين قال : "أنا غير آسف"، عند قتله شهيدنا فتحي الشقاقي ، لتعود إلى نحره : "أنا غير نادم"، يقولها عند مقتله قاتله من أهله! .

يوم قرأت نبأ استشهاده في مالطا، أذاعوا اسمه فتحي الشقاقي ، وحين تأملت صورة بدت غير مألوفة لدي، فقد كان لا يزال في مخيلتي يوم رأيته آخر مرة في القاهرة، صيف 1981، وكان اسمه لا يزال على لساني : عز الدين الفارس ، كما قدم نفسه إليّ، حينما كان يكوّن : مركز أبحاث مجلة المختار الإسلامي ، ويكتب ويوقع باسم عز الدين الفارس ، تيمنا باسم الشهيد البطل عز الدين القسام، وقتها كان ينهي دراسته بكلية الطب جامعة الزقازيق ويخطو نحو الثلاثين من عمره، في وجهه البشاشة، وللأمل مفتوح الذراعين، وللحلم يرنو بنظرته، يحمل أوراق شعر وكلمات نثر مفعمة بالجمال ، يستخدم "فيما" كثيرا وتعجبني في مواقعها . يشرح التاريخ ، ويعرض الكتب فتبزغ لها رؤى لم يكن يلتفت إليها أحد ، ويقدم الدراسات لتثقيف الوعي لنفهم لماذا يحدث لنا ما يحدث. كان رأيه أننا نحصد ثمارا مُرّة لأخطاء أناس جرفهم أخطبوط التغريب فأنساهم أنفسهم، حين أداروا ظهورهم لمنهج الله وساروا مع مصالح العدو، ثم ماتوا . وكان يرى الإبقاء علي جذوة المقاومة مستمرة ، وإن كانت خافتة لا يهم لأنها ستقوى باصرار الروح المنتصرة الطاردة للانهزامية والخنوع والتثبيط . النصر من عند الله ، فليس علينا أن نتوقع رؤية النصر بأعيننا ، فالمقاومة ، وعدم اليأس منها ، نصر في ذاته؛ يكفي أن نغرس الشجرة ونحميها لتنمو وستجني الأجيال القادمة الثمرة الطيبة بديلا عن الثمار المرّة التي ورثناها نحن .

أعجبته كلمة للإمام علي بن أبي طالب : «نِعْم الحارس الأجل »، قالها ، كرم الله وجهه ، عندما نصحوه باتخاذ احتياطات ضد المتربصين به، فتحرر الشهيد منذ البداية من كل خوف ليتحرك خفيفا طائرا بجناحين : الشعر والأمل في الشهادة .

شاعرا كان ، من قمة رأسه حتى أخمص قدميه . كتب الشعر وقال به ، فيما قال : «تلفظني القدس إن كنت نسيت ، تلفظني الفاء ، تلفظني اللام ، تلفظني السين ، تلفظني الطاء ، تلفظني الياء ، تلفظني النون ، تلفظني كل حروفك يا فلسطين ، تلفظني كل حروفك يا وطني المغبون : إن كنت غفرت أو كنت نسيت »، لكنه وجد الكتابة لا تكفي ، فجعل الشعر الشهيق والزفير والقيام والقعود والحركة والخطو نحو أعلى قمم الشعر : الاستشهاد . في دراسة له نشرها بمجلة «المختار الاسلامي» القاهرية ، ابريل 1981، كتب يقول : اليوم والمسلم يقف مغلوبا مجردا من القوة المادية لا يفارقه شعوره أنه الأعلى .. فهو يستشهد ، ويغادر إلى الجنة ... إن حكمة الله هي التي قررت أن تقف العقيدة مجردة من كل زينة وطلاء وإغراء ليقبل عليها من يقبل وهو على يقين من نفسه، فهو يعرف أنه اختار الجهد والمشقة والجهاد والاستشهاد.

لقد كان فتحي الشقاقي حقا عزا للدين وفارسا، ويظل أكلة الأكباد ، على كر الأزمنة ، فرحين دائما بمقتل حمزة ، كلما مرت بالمسلمين أُحُد، لكن أيام المسلمين تعرف معرفة اليقين أنه لا بد من نصر الله، هذا هو الحتم الذي نؤمن به لأنه ليس الحتمية التاريخية التي يقول بها الماركسيون، بل هي حتمية وعد الله ، الذي لا يخلف وعده للمرابطين دفاعا عن ثغور الاسلام، وصدق الله القائل في  سورة الشورى\ آية 39: «والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون» .





الاثنين، 14 نوفمبر 2011

شكرا يا دكتور أحمد قدري: ما شاء الله قطعة الشعر حلوة وطيبة، وكان لي فيها عزاء بعد جولة في قراءة تعليقات شريرة كتبها بعض أوغاد لا يتأثمون من الكذب والبهتان والإفتراءات وقد فوّضت أمري إلى الله ليقتص لي منهم قصاصه العادل فهو حسبي وعليه أتوكل!

الأربعاء، 9 نوفمبر 2011

"مصر وكيف غُدر بها"

عرض كتاب قنصل أمريكا في عهد الخديو إسماعيل
قنصل أمريكا في مصر في الفترة الواقعة بين 1876 حتى 1881 هو "ألبرت لي فارمان"، المعاصر للسنوات الأخيرة من عهد الخديو إسماعيل؛ الذي إستمر من 18 يناير 1863 حتى عزله ونفيه خارج البلاد 26 يونيو 1879، ومن الآثار المفيدة لهذا القنصل كتابه بعنوان:
Egypt and its betrayal ، ترجمه الأستاذ عبد الفتاح عنايت بعنوان "مصر وكيف غُدر بها"؛ (يجدر هنا التعريف بأن عبد الفتاح عنايت أمضى عقوبة 20 سنة سجن بصفته الوحيد الذي نجا، لصغر سنه، من حكم الإعدام في القضية المعروفة بـ "قتل السردار لي ستاك نوفمبر 1924"، إشارة إلى ذلك الإنجليزي الذي نصّبوه سردارا للجيش المصري في السودان، وقد تم الإفراج عن عبد الفتاح عنايت بإنقضاء المدة عام 1944 وتم تلقيبه بالشهيد الحي حتى وفاته 18 ديسمبر 1986 عن عمر يناهز 85 سنة).

يقع الكتاب في 377 صفحة و 24 فصلا بعناوين منها: "مشاهداتي الأولى في مصر"، "إستقبال سمو الخديو لي"، "مسلة كليوباترا"، "إهداء المسلة"ــ (لأمريكا) ــ "ما فعلته مصر لأجل إنجلترا (قناة السويس)، "عزل إسماعيل باشا"، "إسماعيل باشا وعهده".

عن مشاهداته الأولى في مصر يدون "فارمان" ملاحظاته كاتبا: "...إعتراني الأرق في أول ليلة في مصر...لم تتوقف الموسيقى العربية،  تلك الأصوات النشاز المزعجة التي تصدر عن الآلات أو الأصوات والتي يطلق عليها العرب اسم موسيقى، حتى ساعة متأخرة من الليل، واستمر بعد ذلك نباح الكلاب وغناء الشبان العرب وصياحهم ــ أعني متشردي القاهرة الذين لا مأوى لهم سوى الشوارع ــ حتى مطلع الفجر، أما الكلاب في القاهرة، كما هو الحال في القسطنطينية والمدن الشرقية الإسلامية الأخرى، فليس لها صاحب وتسمى بالكلاب الضالة لأنها غير مُستأنسة ...في هذه المدن حيث تُلقى القمامة في الشوارع أو في الأراضي الفضاء تؤدي الكلاب عمل الكناسين"، ومع إصراره على تسمية مدينة "إستامبول" أو "الآستانة" باسمها القديم "القسطنطينية" يواصل القنصل الأمريكي وصف فندقه وشرفته الأرضية وما يراه من: " الشوارع المكتظة بالمارة يتجاوب فيها باستمرار وقع أقدام خليط كبير من الناس ... هنالك توجد الحمير لركوب السائحين أو النساء المحجبات اللاتي يرتدين ملابس سوداء وينتمين إلى القشرة الدنيا من الطبقة المتوسطة ..."، وبعد سرده المفصل للقبيح والجميل واصفا الحدائق يصل إلى ما يسميه "الحي الأوروبي" حيث "... تقع حديقة الأزبكية ببحيراتها ونافوراتها وجبلاياتها ومغاراتها وتحتل عشرين فدانا أو يزيد، كما تتخللها الطرقات الجميلة والشجيرات والأشجار العديدة النادرة التي جُلب أغلبها من الهند، ومن بينها يوجد عدد كبير من أشجار تتدلى فروعها إلى الأرض وتمتد أغصانها إلى باطنها فتكوّن أصولا جديدة. وإنك لتسمع صوت البط في مجرى المياه الصناعية وترى البجع الأبيض والأسود وهو يتهادى في رشاقة على سطح البحيرات... ويتدفق القاهريون الذين ينتمون إلى الطبقتين الوسطى والدنيا عصر كل يوم ومساءه لكي يستمتعوا بصوت الموسيقى ويشاهدوا ألعاب الحواة وهكذا يتيحون للأجنبي فرصة لكي يشاهد خليطا من الناس من كل الأشكال والألوان والأديان والجنسيات، الذين يتكون منهم سكان القاهرة، كما يحيط بالحديقة من جميع الجوانب مبان فخمة من بينها دار الأوبرا ..........".

يصف القنصل الأمريكي "فارمان" بالتفصيل أول واجب قام به في القاهرة، عند وصوله إليها 1879، وهو زيارة الخديو إسماعيل، في "قصر الجزيرة" الواقع على الشاطئ الغربي للنيل في مواجهة المدينة ، بالقرب من حديقة الحيوانات وحدائق النباتات، ويسهب في وصف الخديو إسماعيل: "... رحب بي الخديو في بلاده ولما كان لا يتكلم الإنجليزية فقد كانت محادثاتنا باللغة الفرنسية التي كان يتكلمها بطلاقة. لم يكن إسماعيل باشا جذابا من الناحية الجسمانية، كان يبلغ من العمر حوالي السابعة والأربعين، قصير القامة، عريض المنكبين، ضخم الجثة، ولون بشرته أكثر سمرة من بشرة الأوروبيين، أما جفونه فكانت مرتخية، وكانت اليسرى أكثر إرتخاء من اليمنى،وعندما تكون ملامحه ساكنة تبدو عيناه وكأنها نصف مغلقة، وكانت حواجبه فاحمة اللون، خشنة، كثة الشعر وبارزة إلى الأمام، أما لحيته البنية الداكنة فكانت قصيرة، وأذناه كبيرتان وليست من الحسن بمكان" ــ (من الواضح أن القنصل الأمريكي لم يفهم أن وصفه لعيني الخديو يمكن أن تكون من "العيون الدُبّل" على سبيل الإستحسان!) ــ لكنه في محاولة لإنصاف إسماعيل يشهد بأنه: "... رغم كل نقائصه و  مساوئه الجسمانية كان محدّثا ممتعا، يبتسم في كثير من الأحيان، بشوشا دائما ومُثيرا للإهتمام. كان صوته هادئا يبعث على السرور وألفاظه مُنتقاه ومُعبّرة، فائق الذكاء ولديه معلومات دقيقة حتى عن التفاصيل التي تخص حكومته وشئونه الخاصة الشاسعة، وتبرهن نظراته الحادة الثاقبة، حينما تكون عيناه مفتوحتين من أثر حديث شائق، وإجابته السريعة الدقيقة، ومعلوماته الخاصة بموضوعات ليس من المفروض أصلا أن يكون ملما بها، تبرهن لكل هؤلاء الذين استمتعوا بالحديث معه أنه رجل يمتاز بقدرة غير عادية .... كان العسكريون والمدنيون على السواء يدهشون من من معلوماته المفصلة، أضف إلى ذلك أنه كان يملك القدرة النادرة على أن يكتسب ثقة زائره بأن يزيح عن كاهله كل حرج ممكن ويجعله على طبيعته تماما..."، في نهاية هذا الفصل يقول فارمان: "... قبل حفل الإستقبال الرسمي الذي أقيم لي، كثيرا ماقمت بزيارة الخديو الذي أشعرني بأني على صلة وثيقة بسموّه .... وكان ينبغي علىّ أكثر من مرّة أن أقوم بواجب غير سار وهو المطالبة غير الرسمية، وإن كانت بطريقة مُلحّة،  بدفع التعويضات الأمريكية ضد الحكومة المصرية، وكانت الحكومة المصرية في ضائقة مالية شديدة ولذا كان مجرد ذكر أي تعويض مالي لابد وأن يسبب بعض الضيق، وعلى كلٍ لم يكن بي حاجة للمطالبة بشئ آخر خلاف ذلك في الوقت الذي كان فيه الممثلون الأوروبيون لا يلحون في طلب التعويضات المالية فحسب بل يقومون كذلك بتنفيذ مشروعات سياسية ........ الأمر الذي أدى في النهاية إلى أن يفقده عرشه. عندما كان يُعلن وصولي إلى القصر لم يكن الخديو يخشى مطلبا مجحفا أو مؤامرة سياسية من جانب حكومتي ولذا كان يلقاني بإخلاص تام دون أي خوف من تعريض مصالحه للخطر، والواقع أن الولايات المتحدة وروسيا كانتا في ذلك الوقت الدولتين الكبيرتين الوحيدتين اللتين لم يكن لهما مطمع سياسي مباشر وغير مباشر بالنسبة لمصر، مثل هذه الظروف ساعدت كثيرا في دفع التعويضات المستحقة لأمريكا التي سُوّيت أخيرا بطريقة مرضية؛ دُفعت عن آخرها ولقد كنت مدينا بهذه النتيجة لصداقتي بالخديو...".

في فصليه المعنونين "مسلة كليوباترة" و "إهداء المسلة" يحكي القنصل  ملابسات التفريط الغريب في إهداء "مسلة كليوباترة" لمدينة نيويورك فيقول: "... إن فكرة الحصول على مسلة لمدينة نيويورك قد بدأت عام 1877 ولقد نشأت هذه الفكرة عن الأنباء الواردة في الصحف بشأن العمل الجاري في نقل مسلة الإسكندرية إلى لندن، أما باريس فقد كان لديها مسلة سلفا، فلِم لا تُجامل نيويورك تلك المدينة العظيمة في العالم الجديد بنفس الطريقة؟"، (كان هذا تساؤل القنصل الأمريكي لإقتناص مكسب هائل لبلاده ولم يكن هناك للأسف من غيور يتساءل لمصر: ولماذا، إذا كان ولا بد من التفريط  في كنوز البلاد، نعطي هذه المسلات، التي لا تقدر بمال، هدايا مجانية للمدن المذكورة ولا نجعلها مقابل التنازل عن التعويضات من جانبهم؟ ثم ماهي قصة تلك التعويضات التي كان على مصر سدادها للولايات المتحدة سنة 1877؟ آآآآآه يامصر!)، نعرف من حكاية القنصل أنه بعد المشادات والمراسلات وتشبث إنجلترا (؟!) و"تسامح" مصر (!) تتمكن الولايات المتحدة بفضل قنصلها الهمام من الحصول على مسلة مصرية "هدية" لنيويورك! يقول القنصل: "... عرفت أنه قد قامت بعض الإعتراضات الخاصة بالنسبة لكل مسلة وذلك لأن النفوذ الأوروبي قد تكتل ضدي وأن مطالبة الإنجليز بمسلة الأقصر لم تكن إلا نتيجة لهذا التكتل ..." ــ ( كأن مصر وكالة من غير بواب يتشاجر اللصوص على نهبها عيني عينك!) ــ يكمل القنصل كلامه: "... قال شريف باشا: أظنك تفضل مسلة الإسكندرية أليس كذلك؟ فأجبت قائلا إن هذه المسلة في مكان يسهل معه نقلها عن المسلات الأخرى، فأجاب شريف باشا: حسنا لقد قررنا أن نعطيها لكم!"ــ ( مع ذلك كان حضرة شريف باشا واعيا والحمد لله فقد أخبرنا القنصل الأمريكي أن شريف باشا لم ينس أن يؤكد له أن مصاريف نقل المسلة يجب أن تتكفل بها الولايات المتحدة أو مدينة نيويورك! ياسلاااااااااااااام! هكذا تكون الحيطة وإلا فلا!).

في 26 يونيو 1879 الموافق 6 رجب 1296 تم عزل الخديو إسماعيل، وتنصيب ابنه محمد توفيق باشا خلفا له، ويذكر القنصل "فارمان" أن الخديو صاح ساعة تلقيه خبر عزله من السلطان العثماني: "أهذا ما أناله جزاء إرسالي إبان حكمي 20 مليونا من الجنيهات الإسترلينية ......إلى القسطنطينية ؟" ــ (طبعا لايمكن أن يكون الخديو إسماعيل قد قال "القسطنطينية" بدلا من الآستانة أو إستامبول، لكن القنصل المتعصب لم يعترف مرة واحدة ولو على سبيل السهو بأن القسطنطينية لم يعد لها وجودعلى خريطة العالم.)

خارج هذا الكتاب حاولت أن أنعش ذاكرتي بمعلومات عن الخديو إسماعيل بن ابراهيم باشا بن السفاح محمد علي باشا، المولود 31 \12\1830 والمتوفي في منفاه بالآستانة  2 \ 3\ 1895، وعرفت من الحاسوب أنه تزوج  14 زوجة ومستولدة وأنه أنجب منهن ما مجموعه 14؛ 8 أولاد و5 بنات، حكم مصر منهم: الخديو توفيق بن زوجته شفق، والسلطان حسين كامل بن زوجته نور، والملك فؤاد بن زوجته فريال، وتساوت فترة حكمه لمصر 16 سنة مع أعوام نفيه خارجها البالغة 16 سنة.