الجمعة، 29 يونيو 2012


عصر أن كنا ننتظر الرئيس

 لن أنساها تلك الساعة الثالثة عصر الرابع والعشرين من يونيو 2012، التي تحددت لإعلان الفائز بمسؤولية رئيس جمهورية مصر في إنتخابات الإعادة، في انتظارها كنت أهش قلقي بدندنة كلمات مُحوّرة من أغنية قديمة لمغنية قديمة اسمها نور الهدى: "يا ساعة إطوي الزمان خلّيني أعرف رئيسي، يا ساعة آن الأوان  يا ساعة ياساعااااااة يا ساعة الوقت إجري"! لكن هيهات فالتوتر محشود، وربما مقصود،وقد مرّت الثالثة  نحو الساعة الرابعة، تصعيدا للتوتر الذي كاد يدفعني إلى إغلاق المذياع المرئي والهروب إلى النوم؛ و بدا المشهد يتماثل عندي مع مشهد كابوسي من فيلم أبيض وأسود يتعمد مخرجه الإثارة بدفع قطار ينهب الأرض نهبا ويكاد يدهم عالق تعثر على قضبانه لولا ستر الله بلحظة إنقاذ مُعجزة حُبست من أجلها الأنفاس!

بالنهاية لقد نلت الرئيس الذي أعطيته صوتي بلا تردد عن اقتناع، وأسال الله أن يوفقه في القول والعمل، ويمنحه القدرة على المحافظة على النظام الجمهوري، وفاء للقسم، و تحقيق الدولة المدنية العادلة الآمنة والأمينة؛ التي لا يروّع فيها إنسانها ولا تنتهك حرماته بالتعذيب والتجسس عليه، وأن يمكنه من رعاية الشعب الرعاية الكفيلة بخلاصه من الفقر والجهل والمرض، الرعاية المرجوّة من "مصر الحبيبة الطيبة أم البنية والبنين"، آخذا مركبها بعيدا عن عواصف الشد والجذب بين ريح شمال وريح يمين، وأن يحفظ للشهداء عهدهم؛ مصطحبا وجوههم بين عينيه!


الأحد، 24 يونيو 2012

الحمد لله رب العالمين،
ماشاء الله كان وما لم يشأ لم يكن،
فسبحان الذي بيده ملكوت السماوات والأرض.
سجد وجهي لعزّتك وجلالك حبا وخضوعا وعبودية لذاتك العلية لا شريك لك، اللهم وفق رئيسنا محمد مرسي في القول والعمل وحقق به نهضة مصرنا وأمنها وأمانها،
شكرا لك ياربي.

الخميس، 21 يونيو 2012

شعب عظيم!

بقلم سيد قطب
نقلا عن جريدة الاشتراكية 2 أغسطس 1951


نحن نظلم هذا الشعب العظيم ونتجنى عليه حين نتهمه بأنه شعب ميّت أو جامد أو ذليل لأنه لا يتحرّك في هذه الأيام ليبطش بالطغاة والمستهترين والمستغلين، لأنه يقبل هذه الأوضاع السيئة التي لا يقبلها الآدميون، لأن الخسف والعسف ينزلان به كل يوم بل كل لحظة وهو ساكن مستسلم، لأن حقوقه القومية وحقوقه الإنسانية وكرامته الآدمية تداس في كل يوم بل في كل لحظة فلا يغضب ولا يثور، لأن غيره من الشعوب يتملّص ويتخلّص أو يضرب ضربة هنا وضربة هناك تدل على أنه حي.

ولكن هذا الشعب قد خابت ظنونه في الرجال! لقد شهد زعماءه يخونونه ويخونون كل مبادئ الشرف والإستقامة طوال ثلاثين عاما أو تزيد؛ لقد شهدهم يبدأون حياتهم مكافحين فقراء ويختمونها إقطاعيين أثرياء، لقد شهدهم يبدأون حياتهم في شقة للإيجار ويختمونها وهم أصحاب ضياع وقصور، لقد شهد كلمات التضحية والكفاح والجهاد تنقلب معانيها إلى السمسرة والارتزاق والاتجار في السوق السوداء، لقد شهد الشرفاء يستحيلون لصوصا ومرتشين وقوادين لأن هذا هو أقرب الطريق للثراء.

وقبل أن يوجد في هذا الشعب زعماء يولدون فقراء ويموتون فقراء، قبل أن يتساقط على أرضه شهداء لا يطلبون منه ثمن الشهادة، قبل أن يصمد جيل من هؤلاء المكافحين على الشظف والحرمان والأذى والبلاء، قبل أن يحس الشعب أن هنالك مجاهدين لا تسندهم أقلام المخابرات، ولا تسندهم السفارات، بل لا تسندهم هيئات ولا أحزاب، لأن كل فرد من هيئاتهم وأحزابهم مجاهد لا يسنده إلا االإيمان؛ قبل أن يتم ذلك لن تعود للشعب ثقته في نفسه ولا في زعمائه ولا في أهدافه، لن يستجيب لدعوة ولن يستجيب لرجل، فطالما خدعته الدعوات وطالما خانه الرجال، فمن شاء أن يدعو هذا الشعب إلى تضحيات جديدة فليكن هو نفسه الضحية الأولى، فليعرّض عنقه للمشنقة وصدره للرصاص دون تلعثم أو تحرّج، فليتقدّم صراحة لمواجهة قوى الشر والطغيان في غير تحفظ ولا تخوّف ولا احتراس، وليثق أن الشعب يومها لن يتركه وحيدا.

الاثنين، 18 يونيو 2012

ربّ يسّر ولا تُعسّر، ربّ تمم بالخير.

الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكْرة وأصيلا،
لا إله إلا الله، نصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مُخلصين له الدين ولو كره الكافرون. اللهم صلّي على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم احرس بلادنا واكفها شرّ القتلة واللصوص والمنافقين، وخذها إلى بر الأمن والأمان، وعوّض شعبها عوض الصابرين.

اللهم وفّق رئيسنا محمد مرسي في القول والعمل، وأيّده بنصرك وبالمؤمنين، واكفه شرّ المناوئين بحولك وقوّتك يا ربّ العالمين، نتوسّل بك إليك، لا تخيّب رجاءنا، آآآآآمين.
اليوم 18 يونيو: 59 عاما على  إعلان نظامنا الجمهور


 في 18 يونيو1953 أعلنت مصر تغيير نظام حكمها بإسقاط الملكية، التي إستمرت  في أسرة محمد على مدى 148 سنة منذ تأسيسها 1805، وإقامة النظام الجمهوري، بعد  مرور ما يقرب من 11 شهرا على  قيام حركة الضباط، المؤيّدة من الشعب، بخلع الملك السابق فاروق في 23 يوليو 1952 ونفيه خارج البلاد 26 يوليو 1952 متنازلا لابنه الرضيع أحمد فؤاد عن العرش، وظل هذا اليوم عيداً قومياً منسيا في مصر آن لنا أن نذّكر به، متزامنا مع مناسبة تاريخية أخرى جليلة هي جلاء قوات الإحتلال البريطانية عن مصر 18 يونيو 1956؛ يعني أمامنا اليوم الاحتفال بمرور 59 سنة على قيام النظام الجمهوري، بالإضافة إلى الاحتفال بمرور 56 عاما على الخلاص من الاحتلال الإنجليزي البغيض الذي ظل جاثما على أنفاسنا 74 سنة مريرة لم يتوقف  أبناء مصر خلالها لحظة عن مقاومته والإستشهاد تحت راية النداء المتواصل "الجلاء بالدماء"، حتى تحقق لها الأمل المنشود في 15 أكتوبر 1954 بتوقيع إتفاقية الجلاء النهائية التي تضمنت فيما تضمنت:

 الجلاء الكامل للقوات البريطانية عن الأراضي المصرية في خلال 20 شهرا من تاريخ توقيع الاتفاقية، وعدم صلاحية استخدام مصطلح "التحالف"، الذي تم التوقيع عليه في لندن 26 أغسطس 1936، ومدة الاجتماع الذي تم الاتفاق فيه ومذكرات التفاهم المتبادلة بين الطرفين واتفاقية الإعفاءات والصلاحيات التي مُنحت إلى القوات الإنجليزية في مصر وكل الاتفاقيات الجانبية، وإتفاق الجانبين المصري والإنجليزي على إعلان قناة السويس مجرى مائيا للاقتصاد الدولي والتجارة والأهمية الإستراتيجية بالإضافة إلى أنها جزء لا يتجزأ من الأراضي المصرية،  وقبول الاتفاقية التي وُقعت في 25 أكتوبر 1888 والتي تتيح حرية الملاحة في القناة.

طبعا كالعادة كانت هناك الآراء الحماسية والحادة بين رفض وقبول الصياغة والبنود بالإتفاقية، والحمد لله أنه لم تكن هناك فضائيات يدلي فيها من يدري ومن لا يدري بأفكاره وتحفظاته، فكان الجدال في دائرته الأمينة والمؤتمنة مهما ارتفع فيها سقف الخلاف.

الشئ الداعي إلي التأمل هو القسم الجمهوري المهيب، ( لم يتردد أي من الرؤساء السابقين في نطقه بكل خشوع وإن ظلوا حانثين به من دون أي تأثم)، الذي ينص بعد "أقسم بالله العظيم" على "ضمانات" أربع، لو تحققت تغني عن أي ضمانات أخرى مطلوبة أو مرجوّة، هي:

* "أن أحافظ مخلصا على النظام الجمهوري"، (لم تتم المحافظة البدهية، ألا تزيد مدة الرئاسة عن 8 سنوات، من قبل السادة الرؤساء السابقين).

* "وأن أحترم الدستور والقانون"، (لم يحترم أحد من الرؤساء السابقين نصوص الدستور والقانون الكفيلة بحماية أمن المواطن وأمانه وحقه في ألا يروّع وألا تنتهك حرماته بالتعذيب والتجسس عليه وغير ذلك من المخالفات المسجلة والمعروفة).

* "وأن أرعى مصالح الشعب رعاية كاملة"، (لم تتحقق الرعاية الواجبة على أرض الواقع الذي شهد حرمان الشعب من أبسط حقوقه في الرعاية الكفيلة بخلاصه من الفقر والجهل والمرض).

* "وأن أحافظ على استقلال الوطن وسلامة أراضيه"، (والحديث هنا عن المخالفات، في هذا الوعد، أطول من ليالي العاشقين!).
   

الجمعة، 15 يونيو 2012


تقدر تقول للحصان بـِمْ؟

"عربجي" و"حمّار"- بتشديدعلى حرف الميم- كلمتان من الزمن القديم تعني الذي كان يسوق عربة كارو يجرها حمار. لم تكن "عربجي" تطلق على سائق الحنطور فاسمه كان "الأسطى"، وهي محرّفة عن لقب "أستاذ".

كان "العربجي" يعايش الحمار؛ يؤاكله ويشاربه ويبيت معه لذلك سمّوه "بتاع الحمار" أو "الحمّار"، وبسبب تلك البيئة التي وجد "العربجي" نفسه في غمارها كان مضطرا أن يكون ضيق الخلق، غضوبا، فاقد السيطرة على ألفاظه؛ فهو شتّام ينتقي أقذع الألفاظ ليزوّد بها مفرداته، ويزعق بالصفات الشائنة والنعوت الفاحشة التي تمس الأعراض وتعاير بالعاهات، ويتلمظ لإنزال الناس عن أقدارهم، ويفتخر بعجزهم عن مباراته في السوقية والإبتذال والبذاءة.

كنت أرى "العربجية"، وأنا طفلة في أربعينيات القرن الماضي يحتشدون عند مدخل شارع "الحسينية"في ميدان فاروق – الجيش حاليا – ذلك وأنا في طريقي قاصدة روضتي ومدرستي العباسية بميدان الإسبتالية الفرنساوي - القوات الجوية حاليا ، كانوا يجلسون ورأس كل واحد فوق رأس حماره: "العربجي" يسب ويشتم والحمار صابر "مطنش" كأنه ليس المقصود أو كأنه أكثر حكمة وعقلا، وأحيانا كنت ألمح شبه نظرة ترفع في عين الحمار لا تخفيها الغمّايات على جانبي عينيه يزدري بها "العربجي". لم أكره الحمار لكنني لم أحبه كذلك بسبب صبره واحتماله للإهانة من دون ضرورة.

في مرّة من مرّات جلوسي إلى جانبه وأنا طفلة، بسبب إكتمال عدد الجالسين في صالون العربة أبو غطاء، سألت سائق "الحنطور": لماذا الذي يسوق الحمار هو وحده الذي نسميه "عربجي"؟ فأجابني: "لأنه، لا مؤاخذة، قاعد طول النهار يشتم حماره ويسبه صارخا: شي يابتاع الكلب، حا يابتاع........ وكلام تاني وِحِش، إنما إحنا نسوق الخيل، تِقدر تقول للحصان بـِم؟ ما تخلصش منه!" قلت مستفهمة: يعني يحصل إيه؟ قال: "يحصل إنك مش ح تقدر عليه ح يقلبها نكد عليك! الحصان لازم يتدلع، ماء نظيف، أكل نظيف، سُكّر، طبطبة، لازم يستحمى، لازم تمشطه، ياااااه حكاية الحصان حكاية، أمال ليه المثل بيقول: لسانك حصانك إن صنته صانك وإن هنته هانك؟ عرفت بقى ليه لازم اللي يسوق الحصان مايكونش عربجي؟".


الأربعاء، 13 يونيو 2012

الشيخ إمام القوّال أبو الحرير موّال
في الساعة التاسعة صباح الأربعاء 7 يونيو 1995، الموافق ليلة عاشوراء التاسع من المحرّم 1416، رحل الشيخ إمام عيسى المولود في 2 يوليو 1918 بعد أن تخلّد اسمه في سجل عشاق مصر المحروسة بصفته أول موسيقي ومغن يعتقل بسبب موسيقاه وغنائه في سجون الستينيات والسبعينيات.

بسرعة حمله "أولاد الحتّة"؛ أولاد "خوش قدم" بمعني قدم خير أو "حوش آدم" كما حوّلها المصريون على مزاجهم، ليتم دفنه في هدوء إلى جوار صديقه قارئ القرآن الكريم ومنشد التواشيح الدينية الشهير المرحوم الشيخ عبد السميع بيومي بمقابر المجاورين، ولم يتمكن أي حشد من أصدقائه ومحبيه من تشييعه إلى مثواه الأخير لكننا تجمعنا في مجلس العزاء عند بيته القديم، الذي دكه الزلزال في 12 أكتوبر 1992، وحين لم أستطع أن أستحضره في إطار الموت كدت أجزم أنه قادم. تلفت أكثر من مرّة عسى أن أراه كما عرفته دائما على مدى 23 عاما، منذ صيف 1972 لحين رحيله، نحيلا باسما هادئا دمثا خفيض الصوت مهذب العبارة سريع البديهة، يخطو بثبات، من دون معونة، على أرض الحارة والعطفة التي ألفها وألفته وأصبحت مرادفة لاسمه: فخوش قدم صارت تعني الشيخ إمام والشيخ إمام يعني المكمّل والمتكامل مع الشاعر أحمد فؤاد نجم وهما معا: أروع كيان فني عبر أدق تعبير عن رؤية النبض الشعبي وواكب مشاعره وردود أفعاله فأصبح بصدقه وأصالته المتميزة من مفاخرنا القومية في الإبداع والوطنية.

يوم أعلنوا، في 5 يونيو 1967، هزيمة جمال عبد الناصر باسم النكسة وجد الشاعر أحمد فؤاد نجم نفسه يتقيأ دما، ومع تلك الحالة الجسمانية المفاجئة جلس يكتب قصيدته الشهيرة "الحمد لله خبّطنا تحت باططنا"، التي كلّفته سنة 1968 قرارا بالإعتقال مدى الحياة، باح فيها بكم الغضب الذى نزفته قلوب الناس:

"الحمد لله خبطنا تحت باططنا، يامحلى رجعة ظباطنا من خط النار، يا أهل مصر المحمية بالحرامية، الفول كتير والطعمية والبر عمار، والعيشة معدن وآهي ماشية آخر آشيه، مادام جنابه والحاشيه بكروش وكتار، ح تقوللي سينا وماسيناشي ما تدويشيناشي، ما ستميت أتوبيس ماشي شاحنين أنفار، إيه يعني لما يموت مليون، أو كل الكون، العمر أصلا مش مضمون والناس أعمار، إيه يعني في العقبة جرينا ولاّ  في  سينا هيّ الهزيمة تنسّينا إننا أحرار؟ إيه يعني شعب ف ليل ذلّه ضايع كلّه ده كفاية بس لما تقول له احنا الثوّار، وكفاية أسيادنا البُعدا عايشين سُعدا بفضل ناس تملا المعدة وتقول أشعار، أشعار تمجّد وتماين حتى الخاين، وان شاالله يخربها مداين عبد الجبار!".

كان طبيعيا أن تخرج القصيدة الترجمة الفورية لقدر عنيف من الألم أحسّه الشعب المصري واستنزف من جوف الشاعر الدم.

عندما تسللت القصيدة إلى الناس تسللت معها عشرات القصائد السياسية المُغنّاة: "بقرة حاحا"، "ميكي"، "يعيش أهل بلدي"؛ (سخرية من الصيغة المزيّفة لتحالف قوى الشعب العاملة)، "كلب الست"؛ (سخرية من كلب أم كلثوم الذي كان أهم و أعز من مواطن مصري بائس)، "يا مرحرح"؛ (صورة متهكمة على الشريحة الملاصقة للسلطة السياسية الناصرية من مؤيدي الحل السلمي : "تموت في الدبلوماسية وتخاف م الفدائيين")، "كلام المصطبة"، "القضية"؛ (صورة دقيقة للإرهاب السياسي والابتزاز ومنهج تلفيق القضايا ضد المواطنين هذا الذي تفنن فيه العهد الناصري: "والقضية ياقضايا بالمكايد والوشاية دبروها وفصلوها بالمقاس لبست قفايا...، الحكاية إن البلد مش ملك ناسها، والخلايق ف البلد مش مالكة راسها، والبلد أصلا بلدنا مش عليلة، البلد علتها جاية من خرسها").

مع القصائد فاجأ الناس بنيان فني عمره خمس سنوات، وبدأت دوائر المثقفين تردد اسم "نجم – إمام" بدهشة واستغراب؛ كان التعجب والدهشة أن "نجم – إمام" يقول ببساطة وبراعة ما يجب أن يقال وكما يجب أن يقال وفي توقيته المطلوب تماما. وبدأت حلقات الاستماع تتجمع أولا في بيوت من يملكون أجهزة تسجيل ومنديل أمان السلطة، وكان إمتلاك جهاز تسجيل وقتها، قبل انتشار أجهزة التسجيل الترانزيستور الرخيصة، يلخّص على الفور النوعية القادرة ماليا على ذلك الامتلاك مضافا إليه امتلاك منديل أمان السلطة الذي لم يتوفر إلا للحلقات الثقافية المتاخمة للسلطة والمتعاونة مع وزير الداخلية والخادمة لأجهزة الأمن والمخابرات كافة؛ وكانت
 السلطة ، بواسطة هؤلاء المثقفين، تريد أن تشبع حب استطلاعها عن ماهية الكيان الفني الذي "قبّ" بغتة  من تحت الأرض، رغم موانعها المهيمنة على كل شهيق وزفير، لتكون متمكنة فيما بعد من السيطرة عليه والخسف به تحت الأرض مرة أخرى  عندما ترى الوقت قد حان لفعل ذلك.

نوعية تلك البيوت، التي كان بإمكانها إقامة سهرة يغني فيها "نجم - إمام"، حددت بالتالي نوعية الجمهور الذي يتم  اختياره للإستماع، ولم يكن من الممكن أن يكون من بينهم عامل أو فلاح أو مثقف حر منتم لضمير الشعب، وهكذ استأثر بالفرصة الأولى للإستماع إلى "نجم – إمام" جمهور كان في معظم الأحيان أول من يستحق السياط الملتهبة، التي كانت تتهاوى في جلال ودأب من الكيان الفني الصادق والشجاع و"المستبيع"، فتقع واثقة مكانها حيث يجب أن تكون، ومع ذلك، وبسبب حياة الإنفصام بين القول والفعل التي كان يعيشها ذلك القطاع من البشر، لم يكن بوسعهم أن يتعرفوا على أنفسهم في المرآة أو لعلهم لم يشأوا ذلك، قليل جدا منهم الذي اعترف لنفسه بأنه لا جدوى من الهرب وأن "نجم – إمام" إنما يقدّم المواجهة الصادقة بنقاء تام و استبسال كامل وعليهم أن يتقبلوا المواجهة بالعرفان ويدعّمونها إلى حد الفداء أو يناصبونها العداء ويبذلون ما في وسعهم للقضاء عليها، وانقسمت تلك القلة بالفعل
 إلى قسمين:

المدعمون: وتدعيمهم معنويا، غالب الأمر، بحماس الإنبهار والإجهاش ببكاء اللوم الذاتي .

المقوّضون: ومحاولاتهم معنوية ومادية بحملات التهوين من شأن قيمة البنيان الفني الراسخ، بل وانكاره، وأُفردت الصفحات لمقالات الضرب والهجوم والتشويه في الصحف والمجلات جميعها؛ (أبرزها مجهودات الناقد الموسيقي سليمان جميل شقيق الفنانة فايدة كامل ونسيب وزير الداخلية السابق النبوي إسماعيل والفنان سيد مكاوي، الذي علّمه الشيخ إمام العزف على العود مطلع مشواره الموسيقي)، وضُرب الحصار الاقتصادي حول الشيخ والشاعر وكان الحصار مضروبا جاهزا، وشُنّت حرب التجويع وكان الجوع من قبل ذلك زميلا ملازما لهما، وواصل الباقون التلهف على جمع التسجيلات وحضور دعوات الاستماع بشغف مع الهروب المتواصل من مسئولية الدعم أو التقويض، وكان هؤلاء هم الجمهور الغالب، وحقيقة الأمر أنه ساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في تقوية جبهة المعادين وكان، في واقعه، جزء لا يتجزأ من تلك الجبهة، وحين إمتدت يد السلطة الناصرية وأطلقت قرارها باعتقال الشاعر والشيخ مدى الحياة انفض ذلك الجمهور المحايد لأنهم، بمواقعهم ومصالحهم، على وئام مع السلطة ومع المعادين للكيان الفني ومتى احتدم الموقف هم مستعدون دائما، "يافندم "،لسحب اعتراضاتهم وشرب دم "نجم – وإمام" وأكل لحمهما لو صدرت بذلك التعليمات.

شاء الله أن يتحول قرار اعتقال الشيخ والشاعر مدى الحياة إلى مدى حياة جمال عبد الناصر فحسب؛ أطلق سراحهما بعد قضاء ثلاث سنوات وراء قضبان السجن، وعندما تفجرت انتفاضة الحركة الطلابية في يناير 1972 فوجئا بأغنياتهما شعارات يرفعها الطلاب: " ماتقولّيش ماتعيدليش، حرب الشعب وغيرها مافيش"، ووجدا الفرق الشاسع بين جمهرة العمال والفلاحين والطلبة والمثقفين الصادقين وبين المجموعات الزنخة التي كانت تحوطهما من قبل وليس بينهم سوى "اليويو" الذي "أستك لسانه فارد ولامم حسب الأبيج يا مهلباتي" و "الحلاويلا" الذي "يتمركس بعض الأيام ،يتمسلم بعض الأيام، ويصاحب كل الحكام وبـستاشر ملّة" و "القواد الفصيح" الذي يبيع بنات أفكاره تحت الطلب!

ووجدت جمهرة النبض الشعبي في غناء الكيان الفني "نجم – إمام" كل ما افتقدته في أجهزة إعلام من فن وفكر وصدق، على طول الحقبة الناصرية والساداتية، ووجد نجم وإمام فيها: "فرحة هلّت واحنا حزانى".

كما وقف الشاعر أحمد فؤاد نجم أمام خامته "اللغة العامية المصرية" يعيد اكتشافها ليصوغ بها رؤيته؛ وقف الشيخ إمام عيسى أمام أصول الترتيل القرآني وروافده التابعة: موشحات المدائح النبوية والتسابيح والابتهالات الدينية ووجد فيها بئره الملآن يغرف منه بسخاء ويصوغ منه مفهومه لرسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وقد وجد في شعر أحمد فؤاد نجم المحور الذي يستطيع أن ينجدل معه بموسيقاه وأدائه الغنائي الفريد منتجا عملا فنيا متمم لبعضه البعض في وحدة لا انفصام لها. والذي يجب أن نعرفه أن الشيخ إمام، حافظ القرآن الكريم بقرءاته، تربى في مدرسة "الجمعية الشرعية"، وكان رئيسها الشيخ خطاب السبكي رحمه الله مثلا أعلى للشيخ إمام في مرحلة شبابه، وكان الشيخ إمام يذكر دائما لشيخه، العالم الفاضل، أنه صعد منبر الأزهر عند تسلمه شهادة العالمية وقال: "ياعلماء الدين، ياحكام البلاد أنتم على ضلال حتى تعودوا إلى كتاب الله وسنة رسوله"، فأخذوه وألقوا به في سجن المحافظة، ولا شك أن تلك النظرة "الشرعية" ترسخت في وجدان الشيخ إمام عيسى منذ صباه وأثمرت موقفه الجسور الحازم من كل أشكال "الضلال" في الموسيقى والغناء، وقد حاز الشيخ إمام بفضل موقفه أسبقية لم يكن لها مثيل؛ هي أسبقيته كونه أول موسيقي وأول مغن يدخل المعتقل بسبب موسيقاه وغنائه. ولعلنا نجد في إجراء إعتقال الشيخ إمام المتكرر في الحقبة الناصرية والساداتية إعترافا ضمنيا منهما بأن الرجل قدم لأول مرة وبشكل فعّال مؤثر وبارز "موسيقى الرأي" و "غناء الرأي" و أنه حقق ذلك بكل تراث مايمكن أن نسميه "الموسيقى الإسلامية".

إزاء موسيقى وأداء الشيخ إمام لا يمكن للمستمع أن يغفل:
أولا: أنه "شيخ".
ثانيا: أنه خارج من فنيةالأداء الديني غير متنكر لها بل مطوّعا لها، مستغلا من امكانياتها ما يدعمه في توظيفه المنقول إلى الغناء السياسي؛ الذي يعرف أنه استمرار لرسالته الدينية كما عرفها عند مربيه الشيخ خطاب السبكي: قول المعروف والنهي عن المنكر من فوق أعلى المنابر ولو كان ثمن هذا القول الزج بالسجون:

معدودة الخطاوي رايحة ولا جايه
ما يلمّكشي خوفك ع الدنيا الدنيه
قول الكلمة عالي بالصوت البلالي
قول إن العدالة دين الانســــــانية
كامش ليه وخايف فرّج الشفايف
هو العمر واحد ولاّ العمر ميـــه؟

ثالثا: عنصر الطرب المؤثر الشجي المطعّم لألحانه بشكل أساسي واضح، لكننا نرى أن عنصر الطرب عند الشيخ إمام ليس هو الذي إستخدم في تراث "ملا الكاسات وسقاني"، على سبيل المثال، كوسيلة مُغيّبة عن الوعي؛ مخدّرة و مثبطة: إن الشيخ إمام يحتوي عنصر الطرب ويسيطر عليه ويأخذ سرّه المؤثر الشجي ويستخدمه كأفضل مايكون متجنبا سلبياته دون أن ينسف ما يستخرج منه إيجابيا؛ إنه يتناول عنصر الطرب ويقترب به مستقطبا القلب في ألفة وهو محتفظ للعقل بكامل صحوته ووعيه سواء كان استخداما دراميا كما في "الأرغول"، أو كاريكاتيرا ساخرا كما في "القواد الفصيح"، ولمن يريد فهم مقصدي أرجوه مراجعة الإستماع إلى "الخط ده خطي"، "دلّي الشيكارة"، "الأوله بلدي" و "الطنبور"؛ التي أراها على وجه الخصوص النموذج الفذ لنجاح الشيخ إمام في تطويع وتطوير إمكانيات تراث إنشاد "الشيخ والبطانة"، من فنية الإبتهالات والمدائح النبوية، إذ يتجلّى  فيها، هي وموالها "ورد الجناين"، الوجدان الإسلامي للشيخ إمام: خصبا جياشا وبرهانا قاطعا منه على إسلامية النبض الشعبي والحمد لله.

 

الجمعة، 8 يونيو 2012

"يا مصر ما تخافيش؛ ده كلّه كلام تهويش"

* أهلا وسهلا بالرئيس الجديد مهما كان، يكفي أنه إختيار الشعب المصري بعد طول عذاب وصبر واحتمال، ومهما كثر الكلام وتناثرت التعليقات والتعقيبات، وخرجت الفضائيات بفتاوى التخويف والتحذير  تأليف حضرات اللابسين دائما أدوار العالمين ببواطن الأمور، أتذكر هتافا شعبيا، وصلني عبر والدتي رحمها الله، من موروثات ثورة 1919 يقول: "عفريت الليل بسبع رجلين، وسنانه سود من أكل الدود، يا مصر ماتخافيش، ده كله كلام تهويش!"، فكما يبدو أن مصرنا الحبيبة مبتلاه بـ "المخوّفاتية" من زماااااااااان، والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين.

* الأصوات التي تتحمس للقتلة واللصوص ليسوا "عجبة"، فمن زمن عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، العشرين،  كانت هناك راقصات راجت بضاعتهن مع جنود الإحتلال الإنجليزي فلم يجدن أي حرج في ترديد هتاف غنائي متراقص بالعين والحاجب يؤكد: "لولاك ياجوني ما كنت ياموني"، يعني لولاك ياجندي الإحتلال "جون" ما كانت لدي النقود! طيب هل هناك أسفل من ذلك؟ نعم هناك؛ هذا الذي يزور تاريخ راقصات ذلك الزمن ويصوّرهن  كأنهن جان دارك!

* كمان، وتعني كما أنّ، كانت هناك هتافات مغنّاة متحالفة مع المحتل الإنجليزي، أثناء الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، ضد أعدائه،هتلر ألمانيا وموسوليني إيطاليا، تقول: "موسوليني جاي بدبابة بيحارب مصر وإمبابة، على إيه النفخة الكدّابة؟ ده احنا الجُدُع الدُع نضرب بالزّع الزُع!"، وبما أننا كنا لا نعرف أي أعداء لنا سوى المحتل الإنجليزي كان من المنطقي أن نتصور، أنا وأختي فاطمة، عام 1942 و كنا  أطفالا بين الخامسة والسادسة، أنها  ضد الإنجليز فنغنيها بحماس كلما رأينا عساكر المحتل الإنجليزي آملين إغاظتهم؛ فليس أمامنا من كان يحارب مصر ويسير في طرقاتنا بالنفخة الكدابة و يستحق الضرب غيرهم!

* طبعا بعد كل هذه الذكريات الآتية من حقب تبدو للجيل الجديد أزمنة موغلة في القِدم، لن أستغرب من سوف يكررلي سؤال حفيد شقيقتي: "خالتو هوّ حضرتك عمرك قابلت سيدنا آدم؟"!

* كل ما أتمناه الآن أن يتذكر الجميع الآتي: إن العملية الحسابية الجديدة تحتاج عقلية حسابية جديدة مثلها.






الثلاثاء، 5 يونيو 2012

"محدّش بيكتبها بالسّاهل"!

طيّب: أنا أجلس أمامك ياآلة الكتابة مبتهلة إلى الله أن يرزقني، بحوله وقوّته، القدرة على تحويل زحمة دماغي إلى قول مفيد؛ فائدته الأولى أن ينجيني من سكتة أو جلطة دماغية، فمصر التي في خاطري وفي دمي صعبانة عليّ وقد اختلط حماس ثوارها المخلصين بتكالب النشالين والنصابين، يدفعونهم جانبا  ليتمكنوا من  احتلال سرير الثورة ذئابا يتلمظون لالتهامها واقصاء جنودها، جبرا وجورا،عن ساحة العطاء المرجو لنهضة البلاد.

إن الذين تربوا وترعرعوا في أحضان حقب الإستبداد والدكتاتورية العسكرية في أشرس أحوالها أتقنوا على مدى السنوات والعهود حرفة التدليس؛ بتسمية الأشياء بغير  حقيقتها والجدل بالباطل ليدحضوا به الحق، لا يتوانون لحظة عن انتهاز الفرص لإدخال بغلهم قسرا في الإبريق بأي شكل وبكل حيلة ولا يتوقفون بنفس الوقت عن رمي غيرهم بالتكويش و"الفاشيستية الدينية".

تقرأ لمن يكتب مؤيدا الفريق أحمد شفيق بحيثية أنه: "صاحب المرجعية العسكرية التي تقدّر معنى الضبط والربط"، لأن "الشعب يريد الاستقرار والانضباط بعد عام ونصف من التمرّد"؛ نعم هكذا جاءت الصياغة بنعت الثورة الشعبية المصرية الباسلة  بـ "التمرد"! والمدهش أن هذا الكلام، المطالب بوضوح بـ "الفاشستية العسكرية"، لايخجل من ترديد كلمة "الديموقراطية" يلوكها في كل إتجاه كأنه يمسح بها البلاط ويمرمط بها الأرض! (راحع مقال دكتورة هدى عبد الناصر بجريدة الأهرام السبت 2 يونيو 2012، ص 12).

"لو شاف الجمل سَنمه كان وطّّى عليه قطمه"، مثل شعبي مصري ينطق سَنام الجمل "صَنمه"، بمعنى لو رأى الجمل قبح حدبة ظهره لانحنى يقضمها! لكن أنّى للأحدب أن يستقيم له قوام من دون أن يقر أولا بأنه أحدب يحتاج بالضرورة لعملية تغيير دقيقة تشدّه إلى الإستقامة الصالحة؟

لا أعرف معنى لمجموعة مصطلحات مفتعلة إبتلتنا بها مهارات السفسطائيين؛ ما معنى "الإسلام السياسي"؟ ما معنى "الفاشستية الدينية"؟ ما معنى "دولة المرشد"؟ هذه كلها تنابزات، أي شتائم، من  خصوم لا يرتضون بـ "آخر" يحيل أمره إلى مرجعيته الإيمانية التي تحرص على ألا تجعل "هذا القرآن مهجورا"!
 لا شئ هناك اسمه "إسلام" سياسي وغير سياسي؛ "الإسلام" هو إسلام الوجه لله سبحانه  وحده لا شريك له، فكيف أسلم وجهي لربي وأنا "فاشستي"؛ أي وأنا ظالم للناس قاهرا لهم ذابحا قاتلا طاغيا مستبدا؟ هكذا بالعقل: كيف لمن يعاهد ربه بأن صلاته ونسكه ومحياه ومماته لله رب العالمين أن يكون خصم عهده في الدنيا والآخرة؟ إن خيانة العهد لا تخوّل للخائن ربط خيانته بالدين، ثم ما معنى "إسلاميين"؟ هناك: "مسلمون" ومفردها "مسلم".

وكيف يحق للمستريب إدعاء دولة لـ "المرشد" ولا يقر بأن هناك دولة لـ "رئيس الحزب"؟

وكيف حدث أن صارت المرجعية الدينية الإيمانية وصمة، على صاحبها أن ينفيها أو يتبرأ منها، بينما يتباهى غيره بأنه، والحمد للشيطان، تابع لمرجعيات ما أنزل الله بها من سلطان؟

عنت الوجوه لك يا حي ياقيوم وقد خاب من حمل ظلما.



الأحد، 3 يونيو 2012

احذروا نداء مقاطعة انتخابات الإعادة
يتصايح البعض الآن يهيب بمقاطعة انتخابات الإعادة تحت دعاوى مختلفة، بل ومتناقضة أحيانا؛ بؤرة النداء، بغض النظر عن توصيف المشارك فيه مابين برئ وغير برئ، رفض نتيجة التصويت الشعبي لأنها لم توافق توقعات الداعين إلى المقاطعة أو أهواءهم. لو نحينا سوء النية جانبا، ولو مؤقتا، نقول أن النداء بالمقاطعة مخالفة صريحة للتعهد الذي توافق عليه الجميع، وأعلنوه جهارا نهارا ومرارا وتكرارا، بقبول نتائج إختيار الشعب مهما كانت؛ أعجبتنا أم لم تعجبنا، وافقت التوقعات أم خالفتها، خاصة وأن معظم الذين جلسوا في زياط إعلامي مكثف يحللون ويستطلعون كانوا في الحقيقة لا يقدمون سوى ما يتمنون ويوحون به  بغية التروّيج لأهدافهم ما ظهر منها وما بطن.

 الذى وضحته النتائج أن الناس لم تكن حريصة على فوز مرشحها بقدر حرصها على أن تستمتع بممارسة حرية اختيارها والتأكيد على حق "التعبير عن الرأي" في ذلك البوفيه الإنتخابي المفتوح! والدليل على ذلك أن الأصوات توزعت على المرشحين بنسب متقاربة بين الخمسة الأوائل، ثم كادت تتساوى بين البقية الباقية من الـ 13  مرشحا، ولو أنه كان هناك ثمة تلاعب جوهري في الصناديق لكنا قد رأينا الـ 99,99%، التي تعوّدنا عليها في تمثيليات الإنتخابات والإستفتاءات على مر سنوات القهر الذي تجرعته مصرنا العزيزة، تطل علينا طلّتها المشؤومة.

ذهبت أصوات كثيرة نحو مرشحين معروف سلفا أنهم لن يفوزوا أبدا، تلك التي يعتقد من لايلتقطون حكمة الشعب المصري أنها ضاعت وأهدرها التفتت، وكان المقصود  منها بث رسالة مثالية فحواها: أنا اخترته ليعلم أن هناك من يريده بعيدا عن سوق المكسب والخسارة !

إذا وافقنا على أن ثورة 25 يناير 2011 كانت أولا ثورة من أجل الكرامة وحق إثبات الذات الشعبية وقدرات الجسارة الوطنية على فرض إرادتها السلمية في التغيير، فإن إنتخابات 23 و24 مايو 2012 كانت من أجل  الإستمتاع بممارسة  حق "الإختيار" مهما كان، عاجب أو غير عاجب؛ بما يعني ما يلخصه التعبير المصري الخالص حين تسأل عن السبب في أمر يدهشك لماذا؟ فيكون الرد:"مزاجي كده!".

نعم ياسادة إن النتيجة النهائية لأول إنتخابات "حقيقية" يخوضها الشعب المصري جاءت مطابقة لـ "مزاجه كده"، وعلينا أن نحترمها ونتحمّلها ونتلافى أخطارها بدلا من تسفيهها والسعي لتزويرها بنزاعات تشبه "حمرقة" الصبيان في الملاعب حين يُغلبون.

العقلية الحسابية القديمة لا يمكن أن تفهم العملية الحسابية الجديدة؛ أصحاب العقلية الحسابية القديمة تعوّدوا التلاعب والتدليس منهجا يؤمّن لهم مصالحهم، ومن بينهم شريحة عريضة ممن يسمون أنفسهم: "النخب الثقافية"، الذين لم يروا مانعا فكريا أو أخلاقيا يعوّق وفدهم، المكون من 11 شخصية مابين شاعر وناقد وروائي وخلافه،  ذهب يمثلهم في لقاء بحسني مبارك، يوم الخميس 30 سبتمبر 2010، وظلوا معه يتحدثون على مدى أربع ساعات، يلاطفهم ويلاطفونه خرجوا بعدها يلتقطون صورة جماعية معه تطل بالبشاشة والتآزر المتبادل وتؤكد ما أكدوه بأنه يتمتع بصحة جيدة ويحضّر نفسه لجولة إنتخابية سادسة! (راجع جريدة الشرق الأوسط أول أكتوبر 2010).

 هذه النُخب الثقافية، هم أنفسهم بأسمائهم ووجوههم وتفاصيلهم، التي ارتضت لنفسها التحابب المخزي مع الرئيس المخلوع قبل ثورة الشعب بأقل من أربعة أشهر، تتأبى الآن على اختيارات الشعب الدالة عليها نتائج الصناديق، مرتدية  مسوح  ثورة 25 يناير 2011، وتجلس بيننا، كما الذئب في سرير الثورة يتحين التهامها، تعظ وتحذّر من هذا وذاك، وتقرر الزعامة الحلم لمن شاءت وكيف شاءت، محاولة قسرا إدخال البغل في الإبريق، وتنصح بالمقاطعة؛ إذا لم يتم لها ماتريد وينصاع الناس لها، بإلحاح الدوي على الأدمغة، لكي يشرب الدائخون كأسها المُحلى بالسم الزعاف!





حتى المتخاذل يثير الشفقة

فقط منذ بداية السبعينيات أصبح من الممكن أن آخذ راحتي في الكلام مع سائق التاكسي؛ إذ كان من المنصوح به في الستينيات عدم الثرثرة مع حضرته لأن هناك احتمال ألا يكون حضرته حضرته ونروح، وفقا للتعبير الستيناتي، "في أبو نكلة".

الغرض؛ كانت علاقتي بالمواصلات العامة قد انتهت منذ صرخ بوجهي سائق الأتوبيس الذي كنت أركبه: "إن ماكانتش سواقتي عاجباك انزلي خدي تاكسي!" ذلك بعد أن قلت له: " على مهلك أنت سائق أتوبيس مش بسكليت"!  من ثمّ لم يكن هناك مناص  سوى استخدامي التاكسي كلما توّفر بالطريق وتوفرت لدي أجرته التي لم يضبطها أبدا عدّاد سابقا ولاحقا.

وأذكر درسا في الفلسفة الغريبة حاضرني فيها سائق تاكسي ركبت معه مطلع 1974، إذا لم تخني الذاكرة التي أحب خيانتها، بمناسبة سؤالي له حول إضراب لسائقي التاكسي بسبب شأن نسيته إذ قلت: "لماذا لا تشارك زملاءك الإضراب؟" فرد قائلا: "لأن الإنسان يجب ما يكونش أناني!"، قلت: "ماعلاقة هذا بسؤالي؟"، قال: "أنا لي رغبة في المشاركة لأن الإضراب سليم ومعانا حق ولازم الإضراب، لكن أنا لي أم وزوجة وأولاد فهل من الواجب أن أضحي بمصلحتهم عشان مزاجي ورغباتي؟ أوقف حالهم وأشارك في الإضراب؟ يا ستي: الإنسان لازم مايكونش أناني!". نظرت إليه؛ كان جادا جدا، عاقلا جدا، حزينا جدا إلى درجة تقترب من مقطع أغنية عبد الوهاب: "ضحيت هنايا فداه إشهد عليه يا ليل.............". ضحكت حتى دمعت عيناي، إلتفت إليّ بغضب: "بتضحكي على إيه؟"، قلت: "تبريرك للنذالة دمّه خفيف!". هز رأسه بسماحة المُضحين وتمتم بصوت خفيض: "أنا عارف إنك مش ح تفهميني، كمان زمايلي مش فاهميني وبيقولوا عليّ كلام وِحِشْ...."، ثم زفر زفرة حارة لايمكن أن تعبر عنها سوى كلمات الشاعر ت. س. إليوت من قصيدته الشهيرة: "أغنية حب ج. ألفريد بروفروك": "فلقد عرفتها كلها، عرفتها كلّها؛ عرفت الليالي، والأصبح، والعصاري، وكيّلت حياتي بملعقة القهوة...........".

صحيح أنني لم أقتنع بوجهة نظره لكنني قدّرتها وعرفت أن حتى المتخاذل يمكن أن يثير الشفقة!