الجمعة، 31 أغسطس 2012


في بحبوحة الدولة المدنية

غالب أمري يكون من الضروري سحب الكهرباء من المذياع المرئي لتحصين نفسي ضد هجمات "التوك شو"، مطحنة الرغي في لغتنا الصحيحة، التي يبثها المذكور بكل قنواته وفضائياته؛ تخرج كل ربابة بموالها يعزف عازفها ويغني منشدها الإجترارات البدهية بأصنافها المتعددة التي، في عمري هذا الطويل، خبرتها وحفظتها أذناي، حتى الملل، مع مرور حقب الزمان وعقود السنين. لا تعديل في المنطق، ولا تصويبات للأخطاء، ولا تصحيحات للزور والبهتان، ولا اهتمام يراعى جراح البلاد والعباد، الجديد فحسب هو اتساع رقعة منصات انطلاق متفجرات الكلام الخارجة من حاويات الأذى، التي كانت محدودة ومحصورة بقصور الإمكانيات في عقود الأربعينات حتى التسعينات من القرن العشرين إلى أن فتحت الألفية الثانية مغاليق الصناديق، وهو ماتم تسميته "ثورة الإتصالات"، وطارت وطاويطها من محابسها لتلبس في وجوهنا صباح مساء توسوس وتصوصو وتصفر وتنهش وتمصمص ولا مجال لطردها ولو بالطبل البلدي.

شعوذة "الإسلام فوبيا" تتسع وتنشط وتبذل الجهد مستغيثة بـ "الوسطية" و "الدولة المدنية"، كأن مصر، بكل مهرجاناتها الفنية التي تلبس فيها فناناتها "من غير هدوم"، تعاني من التزمت حتى يتوجب علينا النصح بـ "الوسطية" دفعا لخطر الدولة الدينية الوهمية التي مافتئ بعض الزاعمين يدّعي بأنها تناطح الدولة المدنية القائمة  منذ زمن ولا ينقصها قول مغن: "عمّاله أدوّر عليك أتاريك هنا جنبي"!

أنطلق إلى شريط أغنيات لعبد الوهاب أتفاكه مع مواله: "مسكين وحالي عدم" وحتى تبدأ "النيل نجاشي حليوه أسمر" أكون قد وصلت مع صوته الشجي إلى كلمات الشاعر شوقي العابثة: "جات الفلوكة والملاّح ونزلنا و ركبنا، ... ودارت الألحان والراح، (أي الخمر)، وسمعنا وشربنا......هيلا هوب هيلا... صلّح لي قلوعك ياريّس..."!

هذا المجون مع الغرام والشراب الذي ساقه شوقي وصفا إلى أسماعنا في بحبوحة الدولة المدنية، على مدى مايقرب من قرن، لم يمنعه من التضرع إلى الله سبحانه بالدعاء:

"وقى الأرض شر مقاديره،
لطيف السماء ورحمانها،
ونجى الكنانة من فتنة ،
تهددت النيل نيرانها"!

بهذا الجمع بين النقيضين نعترف: "هيّ دي مصر يا عبلة"!



الاثنين، 27 أغسطس 2012

صحافة صحافة صحافة
  
لعله يكون من المفيد أن أحكي طرفا من رواية مسيرتنا الصحفية المؤذية التي دفعتني إلى التشمير عن ساعدي عام 1985 للترشيح نقيبا للصحفيين، مع معرفتي القاطعة باستحالة فوزي، متنافسة مع الأستاذ إبرهيم نافع، الذي كان وقتها رئيس تحرير جريدة الأهرام ورئيس مجلس إدارتها المُعيّن والمُدعّم من السلطة الحاكمة، كما جرت العادة الشائنة، التي اخترعتها الحقبة الناصرية بدائها المتأصل في ضرورة "التكويش" بأن يكون رئيس مجلس إدارة المؤسسة الصحفية هو رئيس التحرير وهو نقيب الصحفيين هكذا في كوب سم واحد بقوة سحق ثلاثية، و كانت، تلك العادة، قد استتبت مع من قبله ومن بعده وبدت كأنها قدرنا الأبدي الذي لافكاك من أيامه العكرة السوداء، فربما مع سطور الكلام يمكن لبعض الغاضبين من أحوال صحافتنا الآن أن يختصروا من جهامتهم ولو قليلا.

 أول دافع حفزني لترشيح نفسي نقيبا كان رغبتي في تحقيق مطلب ملح هو مطلب كل أبناء مهنة الصحافة في كل الأزمنة والأمكنة ألا وهو: استقلال الصحافة وتحريرها من سيطرة أية قوة خارجية عنها سواء كانت قوة حكومية أو قوة حزب سياسي معيّن؛ لقد عشنا في الدائرة المفرغة لصراع قوى ديناصورية عاتية أرادت كل منها أن تأخذ النقابة في قبضتها لتحقيق مصالحها الخاصة بعيدا عن المصالح النقابية والمهنية للصحفيين؛ وكانت هذه القوى تتمثل في وجوه لسلطة سابقة تريد أن تستعيد توازنها أو وجوه لسلطة قائمة تريد أن تعزز مواقعها، وبين هذه الوجوه المتصارعة للقوى المختلفة ضاع الوجه الحقيقي لمصلحة الصحفيين المهنية مجتمعين، وضاع الوجه المستقل للنقابة الذي يجب أن يعبر عن قوة الصحفيين المتحدة في مواجهة أي اعتداء على الكرامة المهنية للصحفي أيا كان اتجاهه الفكري، ضاع حق الصحفي في أن يدافع عن كرامته وحرية رأيه متعشما أن يكون معه وخلفه سندا نقابيا يحمي ظهره في هذا الدفاع المشروع، وهكذا ظل الصحفي لسنوات في مزاد القوى المختلفة؛ تزايد على حرية رأيه وتتاجر بالدفاع عنها في ذات اللحظة التي تسارع  بإرسال برقيات التأييد والتهنئة لجهات لم تتوقف أبدا عن فصله تعسفيا ومنعه من النشر وتجميده بل و سجنه والتنكيل به على الأصعدة كافة، والنقابة والنقباء، صنائع السلطة الذين يعضون بالنواجذ على موقع النقيب، لا يقدمون عونا ولا يدا خشية ضياع  مناصبهم الأخرىكرؤساء تحرير ورؤساء مجالس إدارات المؤسسات الصحفية.

 كان السعي لكي يصير الصحفيين فائزين ومنتصرين ونقباء  نكسر احتكار منصب النقيب الذي ظل طويلا وقفا على المعزولين عن مهنتهم والمضيّعين لحقوق زملائهم.

في أصل القانون النقابي بند يمنع الذي يملك حق توقيع الجزاء من أن يكون نقيبا؛ ورئيس مجلس الإدارة في المؤسسة الصحفية يملك حق توقيع الجزاء فكيف ظل قانون نقابة الصحفيين يسمح لرئيس مجلس إدارة، يستحوذ بذات الوقت على منصب رئاسة التحرير، بأن يرشح نفسه واثقا لمنصب نقيب الصحفيين؟  كيف سمح  جمهور النقابة بتمرير الخطأ القانوني الفادح وتكريس ذلك العار الفاضح؟ لقد عشنا مرارة الحصار الذي إلتف حول عنق الصحفي العام وراء العام يخبط رأسه من حائط لحائط لحائط؛ إذا ما عن له أن يشكو رئيس التحرير يجده رئيس مجلس الإدارة وإذا عنّ له أن يشكو رئيس مجلس الإدارة يجده نقيب الصحفيين: الخصم هو الشاهد والحكم، وهكذا كان الحال ودام طويلا!


السبت، 18 أغسطس 2012


وِشووو طارق أفنديييييييييييييييي؟

مسرح الشوك السوري من إبداعات فن السخرية الذي شاهدته في دمشق منذ 43 سنة؛ عام 1969 بالتحديد، من لقطاته التي لا أنساها مشهد لجنود من عسس الليل الذين يجوبون الشوارع والطرقات والساحات يشمشمون على مواطنيين يعكرون عليهم صفو تجوالهم بعد منتصف الليل بـ "وين كنت؟" و "وين رايح؟" و"ليش متأخر؟" إلى آخر كل أسئلة البواخة الروتينية، وفي تصور إفتراضي لإنبعاث البطل طارق بن زياد من صفحات التاريخ ليتجوّل في عاصمة الدولة  يقابله واحد من هؤلاء المُكدِّرين فيستوقفه بالفظاظة المعتادة: "إنتاااه منو إنتا؟ وليش هيك متخبّي في ها اللبس الشقلباظ؟ هاه؟ جاوب!"، وبكل الأدب مع الثقة يعرّف البطل التاريخي نفسه: "أنا طارق بن زياد"! وبالطبع، مع الجهل والغباء، لايملك قاطع السبيل سوى الرد بكل إستهانة واستخفاف وهو يهز كتفيه قالبا شفتيه: "وشوووو؟ طارق أفندييييي؟"!

في مساحة التعليقات، المتاحة للتواصل مع الكتابة والكتاب، في بعض مواقع الشبكة العنكبوتية تتسلل نماذج مشابهة لتلك التي لا تتحرّج من جهلها بل تتباهى به كحالة : "و شوووو طارق أفنديييي؟"، ويتبدى عارض مرضها في السخرية السلبية التي لا يشبعها سوى إنزال الناس عن منازلها بالتسفيه المُفتري على الحق وبذل الجهد للحط من القدر والقُدرة، ولا يملك العاقل منا سوى أن يعرِض عن الجاهلين، ومنعا لفوران الدم  أقول:"بناقص" قراءة التعليقات، طالما أننا لا نملك فرصة طارق بن زياد الذي وجد ملاذه بالفرار إلى صفحات التاريخ  عازما على ألا يخرج منها ثانية أبدا!

الخميس، 16 أغسطس 2012

نعم: وما أدراك ما الستينيات!
  
 عندما  كانت 23 \ 7\ 1952 في بدايتها،  كان هناك جيل في سن المراهقة يحمل أحلاما بتغيير ثوري ينقذ البلاد من نظام ملكي فاسد؛ من كوارثه الكبرى هزيمة عسكرية مروعة عام 1948 تسببت في نكبة فلسطين وقيام كيان صهيوني غاصب، ولا يُلام أحد على ذلك التوقع، فلم يكن من السهل أبدا في غمرة الحماس والهتاف إدراك أن العسكر الخاطفين لحلم التغيير الثوري جهلة ومتعالون؛ ينطقون الأخطاء بزهو شديد ثم يتم تبريرها بحيث تبدو "كلاما كبيرا" سليما، حتى حانت لحظة اكتشاف حقيقة هذه المجموعة الضباطية العسكرية الحاكمة والمسيطرة التي تمص دماء من لا يطاوعها  وتنكل به ليصبح مثلها، وكان من الضحايا بالطبع  ذلك الجيل الذي خُدع، و لأنه مجنيٌ عليه أصبح جانيا،  كالذي تحول إلى مصاص دماء بعد أن مص رقبته مصاص دماء أصلي!

 هذا الجيل الذي أقصده هو الذي ولد بين عامي 30 و1940، والذي نطلق عليه جيل مرحلة الستينيات،ولأنه نشأ في عصر الفجوة بين الشعارات السياسية والواقع، والفجوة بين المصطلحات الثقافية والمتلقي، سادت فيه ظاهرة من يقول كلاما لا يفهمه الناس، وهؤلاء ساعدوا على جعل الفجوة أخدودا.

 بسبب تعرض هذا الجيل للفكر الماركسي بكل أطيافه، الذي ساعده على الرطانة، تولدت الإزدواجيات ومايمكن أن نسميه شغبا فكريا، بالإضافة إلى من اجتذبهم الفكر الغربي الإلحادي وعرفوا تاريخهم عن طريق المستشرقين وأغرتهم معارفهم المزيفة لتحقير تراثهم فأصبحوا مفكرين غير مفكرين، وروادا غير رواد، لايزيدون عن كونهم "خايلة كذّابة" أي جعجعة بلا طحن، تفاقمت مع مرحلة نقد الذات والتنكيل بالذات التي لم تكن ذاتا بالأصل.

هذه مأساة جيل مرحلة الستينيات، وسبب متاهة التخريفات والقياسات الباطلة التي ما زلنا نعاينها تجري على ألسنة من تبقى منهم حتى لحظتنا الراهنة.

 هذا لا يمنع أن  كان هناك بينهم ما يمكن أن نطلق عليهم "جنود الحلم الثوري" وهم الذين اكتشفوا الزيف السياسي فعبروا عنه لكنهم اتفقوا على الرفض ولم يتفقوا على الحلول؛ فاختلطت عليهم الأمور، بالإضافة إلى تأثر بعض أبناء هذا الجيل بأفكار الجيل السابق عليه؛ المناوئة للفكر العربي والإسلامي. ولا ننسى هنا مسئولية الماركسية الراغبة دوما في "التكويش"، من دون أي مبرر، ودورها في صناعة  هذه المتاهة، فصبغة الستينيات الرئيسية كانت الصبغة الماركسية التي ضللت الكثير، ممن لم يصبح  ماركسيا بالتمام سوى أن الضجيج العالي كان صرخة ماركسية خائبة لم توصلنا لشيء ولم تحارب سوى نفسها والأفكار الإسلامية وألقت بيننا العداوة والبغضاء.

 وصف التحولات السياسية في حياة هذا الجيل بالانقلابات غير دقيق فهي تحولات جاءت بسبب محاولاتهم تصحيح نتائج اندفاعهم وراء الوهم، والإنسان لا يستطيع أن يؤيد الوهم  طويلا، كوني واحدة من هذا الجيل أعترف أنني لم اكتشف الخديعة الناصرية إلا في نهايتها، بداية من 6819 بعد النكسة، عندها جرؤت على تسميتها بالخديعة، لأني كنت قد تصوّرت أن جنود الحلم الثوري يستطيعون أن يدافعوا عن حلمهم، لكننا تبيّنا، متأخرا، أننا خدعنا وأننا سرنا في زفة كنا فيها: الأطرش!

الثلاثاء، 14 أغسطس 2012

ستون عاما على الإعدام الظالم لخميس والبقري
  
لازلت أذكر ذلك اليوم الحزين؛ 17 أغسطس 1952 وكان يصادف عيد ميلادي الخامس عشر، كان قد مضى 26 يوما فحسب على قيام "الحركة المباركة للجيش" في 23 يوليو 1952. البلاد تموج بالفرحة للخلاص من الحكم الملكي "الفاسد" وإداراته التابعة له وجموع الشعب تؤيد "الضباط الأحرار" تأييدا حماسيا مطلقا جامحا إذ رأت أنهم حققوا لها حلمها بالثورة التي طال انتظارها، وكان تنظيم "المظاهرات" والمشاركة فيها لغة سائدة اعتمدها الشعب المصري، قبل قيام "الحركة المباركة"، للتعبير عن مطالبه واحتجاجاته، ولم يكن يدور بخلد أحد أنها يمكن أن تؤدي بأي حال إلى عقوبة الإعدام، في إطار ذلك الاعتياد على لغة المظاهرات قامت في مصانع كفر الدوار للغزل والنسيج، في الساعة التاسعة وأربعين دقيقة مساء يوم الثلاثاء 12 أغسطس 1952، مظاهرة عمال المصنع ضد الإدارة المنتمية إلى "العهد البائد" والتي عانى منها العمال طويلا، وتعالت الهتافات بسقوط المدير والسكرتير العام ورئيس مكتب العمل، مستندين إلى ظنهم بأن "الضباط الأحرار"، وعلى رأسهم "القائد العام محمد نجيب"، سوف يرحبون بمشاركتهم في التنبيه إلى واحدة من بؤر فساد  ذلك "العهد البائد"، ولم يكن واردا للحظة  أن "القائد العام محمد نجيب" و"فتيته الأحرار" سوف يعيرونهم أذنا غير واعية، وهكذا فوجئ العمال بـ "الثورة البيضاء" تكشّر عن أنيابها وبدلا من التصدي للإدارة الظالمة التابعة لـ "العهد البائد" إذا بها تضرب مظاهرة العمال وتقمعها بوحشية، من دون أي محاولة لتفهمها ودراسة بواعثها والتحقيق في دوافعها.  ألقي القبض على 500 عاملا ، من بينهم أطفال تبلغ أعمارهم 9 سنوات، وتشكلت على وجه السرعة "المحكمة العسكرية" لمحاكمة "العصاة"، مكونة من بكباشي عبد المنعم أمين، ويوزباشي جمال القاضي، وصاغ محمد بدوي الخولي، وصاغ أحمد وحيد الدين حلمي، وصاغ خليل حسن خليل، وبكباشي محمد عبد العظيم شحاتة، وقائد أسراب حسن ابرهيم السيد، ويوزباشي فتح الله رفعت، وممثل الإتهام صاغ عبده عبد المنعم مراد الذي نشرت له الصحف صورته وهو يصلّى! وتم تقديم ما يربو على 60 متهما للمحاكمة على رأسهم محمد مصطفى خميس (18 سنة)، والخفير محمد حسن البقري (19 سنة ونصف)، وفي أقل من أسبوع، من 12 أغسطس إلى 17 أغسطس 1952، صدرت الأحكام المروّعة بإعدام خميس وبقري والأشغال الشاقة المؤبدة وسنوات سجن أخرى على بقية المتهمين، وتم الإفراج عن بعض الأطفال "شاءت رحمة المحكمة أن تترفق بهم" لصغر سنهم "رغم تلبسهم بسرقة بعض أمتار القماش"! ولم يتنبهوا إلى أن العمال المتظاهرين لم يمسوا آلة واحدة من آلات الغزل والنسيج وأن قيمة تلك الآلات، التي  حافظوا عليها، حوالي مائة مليون جنيه، بما يشهد أن المظاهرة لم تكن للتخريب، بينما قيمة التلفيات في مكاتب الإدارة وسيارات كبار الإداريين لم تتعد 48 ألف جنيه، وكان مدير الشركة "محمد حسين الجمّال" قد وقف شاهدا ضد العمال وهو يضع يديه في جيوبه إزدراء لهيئة المحكمة لكن، والحق يقال، إضطر رئيس المحكمة بكباشي عبد المنعم أمين أن يلفت نظره ليخرج يديه من جيوبه ففعل!

بعد سماع الأحكام ظل خميس وبقري يصرخان: " يا عالم ياهو هاتوا لنا محامي... إحنا هتفنا بحياة القائد العام محمد نجيب...إبعتوا له برقية على حسابنا قولوا له إحنا فرحنا بالحركة المباركة ...مش معقول كده ياناس...!".

صباح الأحد 7 سبتمبر 1952 الموافق 17 ذو الحجة 1371 خفق العلم الأسود خفقات الموت فوق سجن الحدرة  بالأسكندرية معلنا إجراءات الإعدام، (وهذا يعني أن الشهيدين أمضيا منذ، 17 أغسطس 1952 الموافق 26 ذو القعدة 1371، وقفة عيد الأضحى وأيام العيد كلها في سجن الحدرة بالإسكندرية يصرخان ويتغيثان من الظلم ولا من مجيب!). مرّ مأمور السجن في الساعة الرابعة فجرا بالغرفتين رقم 62 و 63 من غرف الإعدام وسأل البقري: "نمت كويّس؟" فقال البقري:"المظلوم لا ينام، عاوز أخويا ياخد مراتي وأولادي وأمي و3 جنيه من أماناتي ويروحوا للقائد العام محمد نجيب ويقولوا له....."، ويسأل المأمور خميس: "عاوز حاجة؟" فيرد خميس:"عاوز أقول إني مش غلطان....المحامي ما جابش الشاهد محمد عبد السلام خليل... أنا عاوز شهود نفي وإعادة القضية من جديد....أنا ح أموت مظلوم ورب العباد أنا مظلوم...."، تقول له أمه: "شد حيلك يامحمد.."، يقول لها خميس: "يا أمي أنا مش ممكن أعمل حاجة وحشة....فاكرة المحفظة اللي لقيتها وبها عشرة جنيه مش قعدت أدوّر لما لقيت صاحبها؟"، لحظة إدراك البقري أنه يساق لتنفيذ الإعدام يبكي بشدّة : "ولادي لسّه صغيّرين ....عاوز أقابل القائد العام محمد نجيب....الله هوّ الحكم بيتنفذ كده على طول؟....يارب على الظالم ...."، ثم طلب كوبا من الماء وقال: " يارب أنا رايح أقابلك دلوقت وأشتكي لك... يارب ...ده أنا عسكري وكنت رايح أخدم العهد الجديد...يا ناس محدّش يعمل فيّ معروف يخليني أقابل القائد العام محمد نجيب؟". وظل خميس يسأل الواعظ : "...فقهني في ديني ....هل من مات مظلوما مات شهيدا؟"، وكانت هذه آخر تساؤلاته قبل صعوده شهيدا مظلوما إلى دار الحق.


الجمعة، 10 أغسطس 2012


شر البلية ما يضحك

من أطرف الذكريات التي أوردها الأستاذ فتحي رضوان، رحمه الله، في كتابه الوثيقة: "72 شهرا مع عبد الناصر"، ما ذكره في سياق تفاصيل العدوان الثلاثي عام 1956 الذي شنته بريطانيا على مصر مع فرنسا والكيان الصهيوني إحتجاجا على القرار الجمهوري بتأميم قناة السويس، ولم يكن عبد الناصر يتوقع هذا العدوان بل كان شديد الإطمئنان إلى أنه من المستحيلات أن تتورط  بريطانيا في حماقة غزو مصر، لكن الحرب مع ذلك وقعت وساد اليأس كل ماحول عبد الناصر حتى "اضطر أن ينقل أسرته وأولاده إلى إحدى الفيلات التي كانت مملوكة لأحد أمراء البيت المالك بعيدا عن مصر الجديدة وقد سمعته يقول لزكريا محي الدين: الناس تود أن تخرج من القاهرة فسهلوا لهم سبل الخروج"، خلال هذه "الدربكة"، قبل أن يزول الخطر بتدخل أمريكا وذهاب أيزنهاور بنفسه إلى مقر الجمعية العمومية بالأمم المتحدة ليدمغ الحملة البريطانية الفرنسية الصهيونية بأقبح النعوت خشية أن ينفتح الباب لدخول الإتحاد السوفيتي، طاشت الإقتراحات من هذا وذاك، وكان من أطرفها ما حكاه عبد اللطيف بغدادي للدكتور نور الدين طراف ألا وهو، كما رواه الأستاذ فتحي رضوان: " عندما تبيّن أن الإنجليز والفرنسيين في خريف 1956 مصممون على الزحف إلى القاهرة وأن الجيش لم يعد في مقدوره رد عاديتهم عن العاصمة، وأن الوساطات الدولية وقرارات الأمم المتحدة لم تجد، وبدا المستقبل شديد الحلوكة، فقد صلاح سالم آخر قطرة من معنوياته وتماسكه واقترح أن يتناول أعضاء مجلس قيادة الثورة سما زعافا سريع المفعول لكيلا يقعوا في يد الإنجليز والفرنسيين والإسرائيليين فيتخذوا منهم فرائس للإنتقام والتشفي وينتهزها أعداء الثورة، من كل صنف ونوع، فرصة ليثأروا لأنفسهم .....ووافق الحاضرون جميعا على هذا الاقتراح ولم يحل دون تنفيذه إلا غياب البغدادي، الذي لم يكن قد حضر هذا الاجتماع، فأرسلوا إلى صلاح نصر ليجهز السم المطلوب وإلى عبد اللطيف بغدادى ليبدي رأيه في الاقتراح وفي خلال البحث في الأمرين معا جاءت الأنباء من نيويورك..."، فزال الخطر وتم الإنقاذ وغنت الإذاعة: "أيّايا يابريطانيا، ياظالمة شعوب الدنيا، يادولة عجوزة وفانياااااااااااااه"!

الأربعاء، 8 أغسطس 2012

من صندوق الجواهر

أم الشهداء زينب بنت عليّ
  
إن كنت قد قُتلت بكاء عند أمك فاطمة فكيف يكون حالي عندك يا زينب بنت علي؟

إلا أن الدموع لم تكن قط لترضيك، فكرهتها لما أتيتك وبلعتها نارا، وأمسكت شهقاتي مكظومة لأقف وراءك أتعلم كيف يكون الفعل حين لا يكون الوقت لائقا للبكاء، وكيف يغرق الصدق في انهمار الدمعة الكذوب، من عين الذي قتل والذي سلب والذي انحاز للصمت فجرت الدماء من تحت أنفه ولم يحرك ساكنا ثم أتى، والرؤوس على الحراب والخيام محروقة والحرائر الكريمات سبايا، ثم أتى يبكي!

حين سال النفاق دمعا واختلط البكاء سقطت معاني الشفقة وأدركتِها من فورك: إن هذا البكاء مريب، فرفضت يا زينب المواساة ورأيت العداء في النحيب كما رأيته في النبال الساقطة على عترة جدك المفدى والسيوف الذابحة أهل بيته، وصوته الشريف مازال يطوف بالضمائر: "أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي!".

يجلجل صوتك يا ابنة بنت رسول الله؛ صوتك الذي عرفته الليالي متبتلا خاشعا ذاكرا ،يجلجل صوتك حاسما صارما: "صه يا أهل الكوفة يقتلنا رجالكم وتبكينا نساؤكم؟ يا أهل الكوفة يا أهل الختل والغدر أتبكون؟ فلا رقأت الدمعة ولا هدأت الرنة، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم، ألا بئس ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون، أتبكون وتنتحبون؟ أي والله فابكوا كثيرا واضحكوا قليلا لقد ذهبتم بعارها وشنارها ولن ترحضوها بغسل أبدا، وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ومعدن الرسالة مدرة – المدافع عن – حجتكم ومنار محجتكم وملاذ خيرتكم ومفزع نازلتكم وسيد شباب أهل الجنة؟ ألا ساء ما تزرون فتعسا ونكسا وبعدا لكم وسحقا فلقد خاب السعي وتبت الأيدي وخسرت الصفقة وضربت عليكم الذلة والمسكنة! ويلكم يا أهل الكوفة! أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم، وأي كريمة له أبرزتم، وأي دم له سفحتم، وأي حرمة له انتهكتم؟ لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفرطن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا، فلا يستخفنكم المُهل، فإنه لا يحفزه البدار ولا يخاف فوت الثار وإن ربك لبالمرصاد!".

ووراءك يا زينب كربلاء، كرب وبلاء، لتوك تركتها مصاصة دم شريف وآكلة أجساد عطرة؛ ثلاثة وسبعون شهيدا ثبتوا أمام أربعة آلاف حتى قتلوا عن آخرهم: عون ابن زوجها عبد الله بن جعفر، وأخوه محمد، وأخوتها من أبيها أولاد علي بن أبي طالب، العباس، وجعفر، وعبد الله، وعثمان، ومحمد الأصغر، وأبو بكر، وابنا أخيها الحسين: علي وعبد الله، وابنا أخيها الحسن أبو بكر والقاسم، وبنو عمها عقيل: جعفر وعبد الرحمن وعبد الله وغيرهم، وعلى رأسهم جميعا سبط الرسول الحسين: استشهد الجميع بين ذراعيها وهي تقول: "اللهم تقبل منا هذا القليل من القربان"!                   
هطل الجور والعسف وغرور الدنيا على أرض كربلاء مطرا نجسا ترتوي منه بذور حقد جاهلية كان الإسلام قد دفنها طي سماحته حين كانت، "اذهبوا فأنتم الطلقاء "،حمامة يطلقها الرسول لترفرف بالرحمة فوق الثأر وفوق عدل القصاص، وكان حتما أن يروي مطر الجور بذرة الحقد القديم فتينع كربلاء، وكربلاء بذرة كانت في صلب الاستهزاء الفظ الكريه بالنبي وتكذيبه وإيذائه بكرش البعير؛ كربلاء كانت سطرا في حلف قريش الذي فرض حصار الجوع والعطش على العصبة المؤمنة في شعب أبي طالب، وكربلاء كانت رنينا في صرخة أبي جهل: "تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى تدرك هذه، والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه"، وكربلاء كانت في نفر القبائل الذي اجتمع ليقتل محمد بن عبد الله الذي ظنوه نائما فإذا النائم علي بن أبي طالب المفتدي بروحه حياة نبيه ورسوله ومربيه ابن عمه وأخيه محمد الأمين، وكربلاء كانت رمحا في قتلة الغدر بحمزة يوم أُحُد، وكربلاء كانت دقات على دفوف النساء المشركات يرقصن على جثث شهداء المسلمين يقطعن الآذان والأنوف يعلقنها أقراطا وقلائد ويبقرن البطون يمضغن الأكباد وقائدهم أبو سفيان يقول للنبي وأصحابه: "أعل هُبل! الحرب سجال يوم بيوم بدر!"، ويكاد يكررها حفيده "يزيد" بعده بنصف قرن حين تسقط بين يديه رؤوس الشهداء من أحفاد النبي وأحفاد أصحابه فيتغنى بأبيات من شعر الشماتة:

"ليت أشياخي ببدر شهدوا
 جزع الخزرج من وقع الأسل
 لأهلوا واستهلوا فرحا
 ثم قالوا يا يزيد لا تُشل!"

 لكن الله أعلى وأجل! فيشاء سبحانه وتعالى أن يظل قول نبيه المبعوث رحمة للعالمين أمام عناد المشركين من قريش: "والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته أو أهلك دونه"، يظل هذا القول راية نبوية يحملها عليّ ويستشهد تحتها، ويحملها أبناؤه الحسن ثم الحسين وكوكبة من نجوم أهل البيت، الذي أذهب الله عنه الرجس وطهره تطهيرا، ومعهم صحابة أبرار من الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه وما بدلوا تبديلا، ووراءهم على طول الزمن الإسلامي، من مشارق الأرض ومغاربها، تأتي قوافل من أبناء الإسلام لا تنتهي ولا تنفد بل تنمو وتربو كلما اشتد الحصار وسقط الشهداء، فلا يمكن للشهيد أن يحدد نسله وقد جعله الله أكثر الرجال خصوبة، ومازال الإسلام الولود يكثر أبناؤه على طريق دين الله والراية النبوية مرفوعة أبدا تتبادلها الأيدي: "والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته أو أهلك دونه"!

وردة طفلة تولد في بيت النبوة في شعبان في السنة الخامسة للهجرة ويسميها الرسول المفدى "زينب"، ومع الفرحة تكون النبوءة؛ هذه الطفلة النبوية تنتظرها من أيام الجهاد أشقها وأثقلها على القلب وطأة، فهم يذكرون أن سلمان الفارسي أقبل على عليّ بن أبي طالب يهنئه بوليدته فألفاه واجما حزينا يتحدث عما سوف تلقى ابنته في كربلاء. (مذكور عند دكتورة بنت الشاطئ، السيدة زينب بطلة كربلاء، دار الهلال، ص 20).

وتحت ظلال هذه النبوءة تنمو "زينب" في كنف الرسول مع أمها "فاطمة" سنوات  تقارب الست، وتدرج طفلة رصينة ناضجة لا تفارق أما مجاهدة متبتلة، تسابقها في إسباغ الوضوء، وتلاحقها في إقامة الصلاة، ترشف وتتعلم وتحاكي كل حركة وسكنة تفعلها الأم البتول، التي هي أشبه خلق الله بالرسول صلى الله عليه وسلم، و"فاطمة" تحتضن "زينب" بين ابتسامة ورقرقة دمعة تدعو لها: "جعل الله فيك الخير يا زينب وفي أبنائك البررة الأتقياء وكأني يا ابنتي أنظر إليك وأنت تدافعين عن الحق المهضوم بمنطق فصيح ولسان عربي مبين". ثم تأتي اللحظة التي تلحق فيها الأم القدوة بأبيها العظيم في رحاب الله حزينة غاضبة وقد أوجعها أن ترى الحق يخرج من مكمنه وبشفافية التقى والتبتل تراه وقد استدرجته الأهواء ليكون كرة تتقاذفها العاصفة الفاتنة، التي سوف يستشهد فيها زوجها وأبناؤها وأهل بيتها صرعى مجندلين لا يؤنسهم إلا الحق في وحشة الطريق. والغريب أن  "زينب" لا تشعر بثقل هذا اليتم الرهيب المبكر حين يفقد الإنسان أما ليست ككل الأمهات، فكأنها استثقلت على أمها مواصلة الحياة بعيدا عن النبي المفدى فآثرت لها سعادة اللقاء به على مرارة الفراق عنها، فداء لها وبرهان حب سخي. وتوصيها "فاطمة" في ثقة واحترام أن تكون أما لأخويها الحسن والحسين، وتنفذ "زينب" الوصية بدقة والتزام فتكون أما حقيقية وهي لم تتجاوز السادسة، ولا تفارق أخويها حتى بعد زواجها وزواجهما لتبقى دائما أما لهما ثم لتصير من بعد ذلك أما للشهداء في كل زمان ومكان، وأغمض عيني وأطرد من ذهني كل أوصافها التي خاض فيها المؤرخون والرواة والكتاب ،سامحهم الله، فلا أرى تفصيل هيئة أو وجه لكنني أراها "خديجة" تعود؛ "خديجة "السكن الرؤوم"، ويدخل بيت عليْ ثمان نساء، زوجات له بعد فاطمة الزهراء ،معظمهن أرامل شهداء وأخوة في الجهاد أو يتيمات كريمات سوف يجدن في بيت إمام العلم حماية ورعاية وتربية وإعدادا طيبا ليكن رساليات حاملات للعلم والفقه.

 ويحتفظ بيت عليّ لزينب بموقعها؛ أما لأخويها وتلميذة لباب مدينة العلم النبوي، فتجلس بين يدي أبيها عليّ يعلمها تفسير بعض الآيات ويأخذه الحديث إلى ما ينتظرها من دور خطير فتومئ زينب برأسها: "أعرف ذلك يا أبي، أخبرتني أمي"، وتسمع عن أنس بن مالك يقول: "كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فرأى عليا مقبلا فقال يا أنس قلت: لبيك! قال: هذا المُقبل حجتي على أمتي يوم القيامة" فتأخذها المسئولية منذ البداية لكيلا يفوتها من أبيها مالم تستطع أن تأخذه مباشرة من جدها رسول الله ،وخاتم أنبيائه، وقد عرفت قول الرسول المفدى: "عليّ مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي"، فتعلمت بعلم أبيها الذي وصفه ابن عباس: "والله لقد أُعطي عليّ تسعة أعشار العلم، وأيم الله لقد شارككم في العشر العاشر"، وحفظت بلاغته وحكمته ومأثوراته في القضاء؛ "أتى عمر بامرأة حامل قد اعترفت بالفجور فأمر برجمها فرده عليّ وقال هذا سلطانك عليها فما سلطانك على مافي بطنها؟ ولعلك انتهرتها أو أخفتها قال: قد كان ذلك قال: أوما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا حَدّ على مُعترف بعد بلاء؟ إنه من قُيّد أو حُبس أو تهدد فلا إقرار له"، (مذكور عند الأستاذ علي أحمد شلبي، زينب، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، لجنة التعريف بالإسلام، 1977 ص 70).

ويزوجها أبوها، الإمام عليّ، من ابن عمها عبد الله بن جعفر، الذي قال عنه فقراء المدينة ما عرفنا ما السؤال إلا بعد وفاة عبد الله بن جعفر، ( والده هو جعفر بن أبي طالب الذي اشتهر باسم جعفر الطيار إذ بشر الرسول صلوات الله عليه أرملته بعد استشهاده بأن الله قد أعطاه جناحين في الجنة ثوابا لقتاله حاملا الراية في غزوة مؤتة في جهاد أمر به الرسول المفدى ضد الروم، وظل جعفر يقاتل حاملا الراية حتى قطعت يداه واستشهد وبه ما يزيد عن تسعين طعنة)، وأنجبت السيدة زينب من عبد الله بن جعفر: محمدا المسمى بجعفر الأكبر وأخوته عون الأكبر وعلي الأكبر وأم كلثوم وأم عبد الله وقد توفوا جميعا دون عقب إلا علي الأكبر وأم كلثوم فكان منهما ذرية عقيلة بني هاشم، إلا أننا مع أخبار هذا الزواج والأبناء لا نراها إلا في إطار الابنة للإمام عليّ والأم الملازمة لأخويها الحسن والحسين، سيدي شباب أهل الجنة وقرة عين نبينا المفدى، حافظة لوصية أمها الزهراء منذ كانت في السادسة من عمرها، وعندما نراها في هذا الإطار نجدها العالمة، المتفقهة، الدارسة، القارئة الحافظة لكتاب الله العزيز، المتأملة في آيات الله، الزاهدة المتحرجة من حلال الدنيا ،المتصدرة لمجالس العلم النسائية، تروي الحديث عن أمها وأبيها وأخويها وعن أم سلمة وأم هانئ، والمروي عنها من ابن عباس وعبد الله بن جعفر وعلي زين العابدين وفاطمة بنت الحسين، والساهرة ليلا تتهجد مسبحة داعية ناطقة بالخير والمأثورات تقول أبياتها الشهيرة:

 "سهرت أعين ونامت عيون
 لأمور تكون أو لا تكون
 إن ربا كفاك ما كان بالأمس
 سيكفيك في غد ما يكون
 فادرأ الهم ما استطعت عن النفس
فحملانك الهموم جنون"!

وتقول: " خفِ الله لقدرته عليك، واستح منه لقربه منك"!

وتنقل عن أبيها: "نعم الحارس الأجل!"؛ حين ينصحه ناصح بأخذ حارس يحميه من الخوارج. وتردد عنه: "ثلمة الدين موت العلماء!"، و"شر الولاة من خافه البرئ"، و"خابت صفقة من باع الدنيا بالدين"، و"يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم".

وتتحاور مع أبيها الإمام فتسأله:
- أتحبنا يا أبتاه؟
فيرد قائلا:
- وكيف لا أحبكم وأنتم ثمرة فؤادي؟
فتقول وكأنها قد أمسكت عليه خطأ:
- يا أبتاه إن الحب لله تعالى والشفقة لنا!

محفوفة مبجلة بأبيها وأخويها؛ إذا أرادت الخروج، وغالبا لزيارة قبر جدها رسول الله، خرجت ليلا متدثرة بالحجاب الساتر الكامل من الرأس إلى القدم والحسن عن يمينها والحسين عن شمالها والإمام عليّ أمامها، فإذا اقتربت من القبر الشريف سبقها أبوها فأخمد ضوء القناديل خشية أن ينظر أحد إلى عقيلة بني هاشم "زينب".

هذه الصورة الممعنة في الحرص الشديد على التستر والتحجب في عزوة الأب والأخوين، أحب الناس إلى رسولنا المفدى، تواجهها بقسوة صورتها بعد مذبحة كربلاء وهي مقصوصة الأب والإخوة وكل رجال ومحارم بيتها، منزوعة الستر، محترقة الخباء، منهوبة المتاع، منتهكة الحرمة، يسوقها رجال عبدالله بن زياد مكشوفة الوجه، حاسرة الرأس، تسير في موكب السبايا الكريمات من بنات رسول الله، من كربلاء إلى الكوفة إلى دمشق إلى المدينة، يتطلع إليها وإليهن كل من غلبه حب الاستطلاع على حب اتقاء الله بغض البصر رحمة ومودة في قربى النبي المفدّى، ومنهن نائحات: "وامحمداه! هذا الحسين بالعراء مرمل بالدماء مُقطع الأعضاء! وامحمداه! هذه بناتك سبايا، وذريتك مُقتّلة تسفى عليها الصبا!".

ويْ لنيران الغضب من جرأة السفهاء الذين، مع هذا النحيب، لم يكتفوا بالنظر بل بادروا بالوصف والتغزل في محاسن وجه بنات رسول الله.

تمر أحداث التاريخ المعروف و زينب في خضمها يوما بيوم، بل لحظة بلحظة، والقضية أمامها: إسلام أو لا إسلام؛ حق أو باطل.

تأتي فتنة التآمر لقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان فيأمر عليّ بن أبي طالب ولديه: "اذهبا بسيفيكما حتى تقوما على باب عثمان فلا تدعا أحدا يصل إليه بمكروه.....". لكن الأهواء ما تلبث أن تجعل الذين أثاروا النفوس على عثمان هم المطالبين بثأر عثمان، ويقفون مناوئين لخلافة إمام المتقين وباب مدينة العلم، معلّم الفقهاء عليّ بن أبي طالب. ويعلنها بنو أميّة حربا سافرة على بني هاشم إحياء لثارات الجاهلية وطمعا في ملك الدنيا، ويخرج الصحابي الجليل عمار بن ياسر وعمره تسعون عاما يقول مُهتاجا:

"أيها الناس: سيروا بنا نحو هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يثأرون لعثمان، ووالله ما قصدهم الأخذ بثأره ولكنهم ذاقوا الدنيا واستمرؤوها وعلموا أن الحق يحول بينهم وبين ما يتمرغون فيه من شهواتهم ودنياهم، وما كان لهؤلاء سابقة في الإسلام يستحقون بها طاعة ... أو الولاية عليهم... ألا إنهم ليخادعون الناس بزعمهم أنهم يثأرون لدم عثمان وما يريدون إلا أن يكونوا جبابرة وملوكا؛ والذي نفسي بيده لقد قاتلت بهذه الراية مع رسول الله وهأنذا أقاتل بها اليوم!".

وتتحقق نبوءة النبي أن عليا سيقاتل قريش في سبيل الله: "...يا معشر قريش لتنتهن أو ليبعثن الله عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين، قد امتحن الله قلبه على الإيمان، قالوا: من هو يارسول الله؟ ... قال: هو خاصف النعل، وكان قد أعطى عليا نعله يخصفها..."، (أخرجه الترمذي عن ربعي بن حراش وأخرج مثله أحمد).

ويقف عليّ، مبدئيا حاسما لا يخشى في الله لومة لائم ويعلنها:

- "والله لا أداهن في ديني، ولا أعطي الرياء في أمري"،
- "أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور؟ لا والله لن يراني الله متخذ المضلين عضدا..."،
- "ما لي وقريش؟ أما والله لقد قتلتهم كافرين ولأقتلنهم مفتونين، والله لأبقرن الباطل حتى يظهر الحق من خاصرته، فقل لقريش فلتضج ضجيجها!".

وتقضي زينب سنوات خلافة أبيها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب في الكوفة، من 35هـ إلى 40 هـ، وهو في بحر متلاطم من الصراعات والمؤامرات والفتن والكوفة مسرفة معه في الوعود متخاذلة في الأفعال ناكثة عهودها، كما ستكون مع بنيه من بعده، حتى تأتي ضربة عبد الرحمن بن ملجم في 19 رمضان سنة 40 لتقضي بعد يومين على الإمام الشهيد فينتقل إلى الرفيق الأعلى لاحقا بحبيبه وأخيه ونبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم في 21 رمضان 40 هـ، ووصيته قبل الرحيل: "يا بني عبد المطلب لا تخوضوا دماء المسلمين خوضا تقولون قُتل أمير المؤمنين؛ ألا لا تقتلن بي إلا قاتلي، انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه فاضربوه ضربة ولا تمثلوا به فإني سمعت رسول الله يقول: إياكم والمُثلة ولو بالكلب العقور". ووقف الحسن يقول في رثائه: "... والله ماترك ذهبا ولا فضّة....".

على أثر إستشهاد الإمام عليّ بايع أهل العراق ابنه الحسن لكن خلافته لم تدم أكثر من ستة أشهر آثر الإمام الحسن بعدها أن يتركها لمعاوية بن أبي سفيان حقنا لدماء المسلمين حتى تكف الفتنة وتهدأ الأطماع لكن هل تشبع لبني أمية بطن؟

يستشهد الحسن مسموما على يد زوجته جعدة بنت الأشعث بن قيس، والظن الشائع أنها كانت مدفوعة بوعد من معاوية بن أبي سفيان يقول: "إني مُزوّجك يزيد ابني على أن تسمّي زوجك الحسن بن عليّ"! لكنه لا يزوجها يزيد خوفا على حياته من "مُسممة الأزواج" ويعطيها بدلا عن ذلك مائة ألف درهم من أموال المسلمين! وكان هدفه من وراء قتل الإمام الحسن تمهيد الطريق لأخذ البيعة ليزيد في حياته، كاسرا النظام الشوري الإسلامي إلى وراثة قيصرية لتكون مُلكا عضوضا لبني أمية دون المسلمين أجمعين ومن فيهم من أفذاذ بيت النبوّة وليبدأ أول انحراف أساسي في تاريخ الحكم الإسلامي ليفرخ  فيما بعد المزيد والمحزن من الانحرافات.

يتصدى الحسين: "لا مبايعة ليزيد"!.

وتتسارع الأحداث نحو تحقق النبوءة التي أخبر بها رسولنا المفدى وأبكته البكاء المر قبل حدوثها بما يزيد على النصف قرن: "عن أنس بن مالك أن ملكا... استأذن ربه أن يأتي النبي فأذن له فقال لأم سلمة املكي علينا الباب لا يدخل علينا أحد قال: وجاء الحسين ليدخل فمنعته، فوثب فدخل فجعل يقعد على ظهر النبي وعلى منكبه وعلى عاتقه، قال: فقال الملك للنبي: أتحبه؟ قال: نعم، قال: أما إن أمتك ستقتله وإن شئت أريتك المكان الذي يُقتل فيه، فضرب بيده فجاء بطينة حمراء فأخذتها أم سلمة فصرّتها في خمارها، قال: قال ثابت: بلغنا أنها كربلاء"، (أخرجه الإمام أحمد وفي رواية البيهقي عن أبي الطفيل، وقال في مجمع الزوائد رواه الطبراني واسناده حسن).

وفي رواية أخرى أن جبريل عليه السلام أخبر الرسول المفدى بأن الحسين يُقتل بشط الفرات.

يموت معاوية دون أن ينجح في حمل الحسين على المبايعة ليزيد أو سمّه هو الآخر، ويأتي يزيد ويأمر الوليد بن عتبة واليه على المدينة بأخذ البيعة من الحسين فيقول الحسين بحسم: " يا أمير إنّا أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة بنا فتح الله وبنا ختم ويزيد فاسق فاجر شارب للخمر وقاتل النفس المحرّمة مُعلن بالفسق والفجور ومثلي لا يبايع مثله."!

ويوصي مروان بن الحكم الوليد بقتل الحسين فيفزع الوليد: "ويحك! أنت أشرت عليّ بذهاب ديني بدنياي والله ما أحب أن أملك الدنيا بأسرها وأني قتلت حسينا؛ سبحان الله أأقتل حسينا لما أنه قال لا أبايع؟ والله ما أظن أحدا يلقى الله بدم الحسين إلا وهو خفيف الميزان، لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكّيه وله عذاب أليم..".

وتتوالى التفصيلات ويخرج الحسين من المدينة مع أهله إلى مكّة وهناك تأتيه كتب الكوفة تستحثه على القدوم لمبايعته والتصدّي معه لعدوان يزيد: "... إن الناس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك...العجل العجل...فأقدم إذا شئت فإنما تقدم على جند مُجنّد لك..."! فيرسل إليهم ابن عمّه الوضئ مسلم بن عقيل فإذا بهم يتخاذلون حين تأتيهم فتنة عبيد الله بن زياد، ويقتل بن زياد مسلم بن عقيل رسول الحسين ومعه من آواه هاني بن عروة المرادي، وهو يقسم: " قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام"! ثم يسير بالظلم يجمع الولاء ليزيد؛ يقتل عشوائيا بجاهلية وضراوة ليتخاذل الناس خوفا وهلعا، ويعم العراق جو قاتل رهيب من الفزع والذعر، بينما الحسين في مكة يستعد للتحرك إلى حلفائه الذين أهابوا به أن يعجل بالقدوم إلى العراق.

يتوسل أحباء الحسين بمكة إليه ألا يذهب إلى أهل الغدر الذين خذلوا أباه وأخاه من قبل ويقول له قائل: "... فوالله لئن طلبت ما في أيدي بني أمية ليقتلنك، ولئن قتلوك لا يهابون أحدا بعدك أبدا..."! والحسين يستخير الله، وقدر الله سابق، فقد شاء أن يهلك يزيد وجنده بقتلهم الحسين، وينجو الحسين وأهله بالإستشهادعلى طريق دين الله، ويقول الحسين: "ألا ترون الحق لا يُعمل به والباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله عز وجل وإني لا أرى الحياةمع الظالمين إلا جرما."!

ويتحرك الشهيد ابن الشهيد نحو الكوفة وجنبات مكة لم تنس بعد جده الرسول المفدّى،نبي آخر الزمان، وصوته الشريف يعلو: " والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته أو أهلك دونه."!

يأتي الحسين من يخبره بمقتل مسلم ابن عقيل ورسوله الآخر وتخاذل أهل الكوفة قائلا: "أما أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم وملئت غرائرهم فهم ألب واحد عليك، وأما سائر الناس بعدهم فإن قلوبهم تهوي إليك وسيوفهم مشهورة عليك..."!

يبعث ابن زياد بألف فارس مع الحر بن يزيد التميمي ليحاصر الحسين في الطريق ويقطع عليه خط الرجعة حتى يأخذه مُعتقلا إلى ابن زياد أو يخضع بالبيعة الجبرية ليزيد، ويواجههم الحسين خطيبا بالمعروف يستحث ضمائرهم: "أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله ناكثا لعهد الله مخالفا لسنة رسول الله يعمل في العباد بالإثم والعدوان فلم يغيّر ما عليه بفعل أو قول كان حقا على الشيطان أن يدخله مدخله، ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيئ وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله.... وقد أتتني كتبكم ورسلكم ببيعتكم وأنكم لا تسلموني ولا تخذلوني فإن أقمتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم، وأنا الحسين بن عليْ بن فاطمة بنت رسول الله...نفسي من نفسكم وأهلي من أهلكم... فإن لم تفعلوا ونقضتم عهدي وخلعتم بيعتي فلعمري ...لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي مسلم بن عقيل، والمغرور من اغتر بكم..."، فقال الحر بن يزيد التميمي: "... فإني أشهد لئن قاتلت لتقتلن..."! فقال الحسين: "أبالموت تخوّفني؟:

 سأمضي وما بالموت عار على الفتى،
 إذا ما نوى خيرا وجاهد مسلما،
 وواسى رجالا صالحين بنفسه،
وخالف مثبورا وفارق مجرما،
 فإن عشت لم أندم وإن مت لم أُلم،
 كفى بك ذلا أن تعيش وتُرغما"!

يتصاعد المكر وتُشحذ قوى الشر وتأتي أوامر ابن زياد تحمل تعليمات يزيد: "لا رحمة! امنعوهم الماء!"، ومعسكر الحسين ينسج مجد الاستشهاد؛ ثلاثة وأربعون إنسانا في مواجهة أربعة آلاف وحش غاشم من جند ابن زياد من الكوفيين، والأقمار من بيت النبوّة من كل الأعمار، منهم من لم يتجاوز العاشرة ومنهم من ملك فتوة الثامنة عشرة والعشرين ومن بلغ مبلغ الرجال والكهول، يتلألؤون بالإقدام والشجاعة لا يؤلمهم إلا العطش: "يا أباه العطش!" والحسين يجيب: "اصبر بني فإنك لا تمسي حتى يسقيك رسول الله!"، وزينب بين الخيام والمعركة تتلقى الأقمار؛ شهيدا شهيدا وأناتها رغما عنها تتوالى: " يا حبيباه! يا ابن أخاه! يا ولدي! واثكلاه! اليوم مات جدي رسول الله! اليوم ماتت أمي فاطمة! اليوم مات أبي عليْ! اليوم مات الحسن! واحسيناه!......."، وتثخن الجراح حسينا ويتقدم التعس الذي باء بقتله يحز رأسه لترفعها الرماح إلى يزيد بن معاوية بن أبي سفيان!

وترفرف كلمات الحسين حمائم تسكن أعشاشها في قلب زينب وبين جوانحها تطوف بها ترويها في كل الأمصار ولكل الآذان حاضرة بأكملها كما أطلقها يوم الطّف؛ يوم كربلاء وهو يتفرّس في وجوه الكوفيين، الذين دعوه ثم أتوه قاتلين وراء "عمر بن سعد"، يقول لهم الحسين: "ألست ابن بنت نبيكم؟....يا فلان... يا فلان... يافلان...ألم تكتبوا إليّ أن تقدم على جُند مجنّدة لك؟....أتطلبونني بقتيل منكم قتلته؟ أو بمال استهلكته؟ أو بقصاص من جراحه؟.... أعلى قتلي تجتمعون؟ أما والله لاتقتلون بعدي عبدا من عباد الله الله أسخط عليكم مني وأيم الله إني لأرجو أن يكرمني الله بهوانكم ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون، أما والله لو قتلتموني لألقى الله بأسكم بينكم وسفك دماءكم ثم لا يرضى بذلك منكم حتى يضاعف لكم العذاب الأليم....".

ينتهي الدور الحسيني؛ الاستشهاد البطولي والفداء ويبدأ الدور الزينبي؛ الراوية، الشاهدة، الفاضحة للجور والبغي والطغيان، فإذا الذي ظن نفسه منتصرا يبوء بانتصاره الفادح، وإذا الذي ظنوا أنهم قد سحقوه وأحاطوا به وقتلوه متوّج بالمجد لم ينهزم، وزينب تحمل راية الحسين المنتصرة بعد أن ألقمت الجبارين وهي أسيرتهم أحجارا بلعوها في خزي بين أهليهم وحراسهم وبروجهم المحصّنة، وإذا الحسين حي في زينب أشد قوّة وتمكينا، وأنّى لأعدائه بعد أن يقتلوه وقد خرج من أسر الموت حيا يتوالد عبر اللحظات والأيام: كبيرا، كثيرا، خالدا، ويضج "عمرو بن سعيد الأشدق"، والي يزيد على المدينة، يشكو زينب: "إن وجودها بين أهالي المدينةمُهيّج للخواطر"! وتصدر أوامر يزيد المرتعب ليتم نفي زينب لتختفي من المدينة!

وتأتي العزيزة ابنة الأعزاء لتسعد بها كنانة الله: وتخرج "مصر" إلى "بلبيس" تستقبلها وتأخذها إلى قلبها حانية على الجراح، وفي شهر مولدها وقد بلغت السادسة والخمسين، شعبان عام 61 للهجرة، بعد سبعة أشهر من استشهاد الحسين ومن معه من الأقمار النبوية، تريح زينب، العقيلة الهاشمية رأسها الشريف إلى صدر "مصر"، وتركن إلى التبتل والتضرع والاستغفار أحد عشر شهرا حتى يأتي رجب عام 62 هجرية فتلحق بركب النور النبوي في الرفيق الأعلى أما للشهداء وشهيدة معركة: "الدنيا أو محمّد"!


الجمعة، 3 أغسطس 2012


بالمزاح تشتفي الأرواح!

صيغة المزاح هي التعبير الأقوى عن الحزن الجارف والألم العميق والضيق الجاثم على الصدر؛ لولا صيغة المزاح لجاء التعبير عن الأوجاع مغرقا في الميلودرامية المنفرة العاجزة عن الاحتجاج المؤثر والرؤية الموضحة للعذاب. تتشكل صيغة المزاح أساسا من الإفصاح بهدوء عن خوالج لا تقال عادة، وعلاقات لا تسمى بأسمائها ولا بصفاتها الحقيقية، ويبدو قائلها، لحظة قولها، بريئا أو مسامرا بينما هي حين تقع على أذن سامعها أو عين قارئها، من غير توقع، تأخذه بالمفاجأة ويباغت بدقتها وصدقها فيتولد فورا ذلك "الضحك"، ذلك "الابتسام" الذي نعرف أنه قد إلتقط عمقا خفيا يدلل على مشاركة في فهم أمور وأحوال كنا نتصور أننا نكتمها سرا في قلوبنا؛ هذا الاكتشاف بـ "المشاركة" هو منبع الالتذاذ بفن "المزاح" الباعث على الضحك جدا والجاد جدا بذات الوقت، وهذا تماما مايلخصه المثل، الذي كانت أمي تردده دائما على مسامعنا، القائل: "بالمزاح تشتفي الأرواح"!

من أعلام فن المزاح لدينا هنا في مصرنا المحروســة الراحلين، رحمة الله عليهم أجمعين، بالإضافة إلى محمد عفيفي صاحب الرواية الخلابة "ترانيم في ظل تمارا" وجلال عامر صاحب أعقل "تخاريف"، هو مؤلف كتاب "ودخلت الخيل الأزهر"  محمد جلال كشك، الذي أذكر له صرخته المدوّية تعليقا على من يقتحم لغة "المزاح" مطبشا عكرا منزوع الموهبة: "واحد دمّه تقيل بينكّت ليييييييييه"!

أي والله ليييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييه؟


الخميس، 2 أغسطس 2012

من صندوق الجواهر
أم أبيها: فاطمة بنت محمد
                
تأخذني سيرة الزهراء؛ "فاطمة بنت محمد"، إلى جوف بحر الحزن المتلاطم، وترميني هناك أغالب الموج العاتي لججا من الشجن، والوجع، يخلع القلب الذي تستبد به الذكرى، وتعصره الآلام. وأقف سيدتي، أقف جدتي، أقف بين أيامك الخالدات، ترجفني الدموع، أرقب نحولك وضعف جسدك الذي كان عليه أن يتحمل ما لو ذقت طرفا منه، وقد ذقت الكثير، لتضعضعت وتفتت وذابت مني العظام، لكن هذا كان قدرك يا فاطمة بنت محمد مرسوم مدبر بحكمة شاءها الله فكانت، وكان قدرك أن تكوني المثال، والكمال، والتكامل، والقدوة لسرب وراءك لم ينقطع من المسلمات الرساليات، جئن على مدار ومرور وتعرجات الزمن الإسلامي، ناظرات إليك، متأسيات بك، متواسيات، يعرفن عندك عزة المسلمة، ويتعلمن صبرك. سرب وراءك يا فاطمة، لن ينقطع ما دامت ذكراك بازغة أبدا، ومواقفك تستحضر بقوة، كلما هم باطل تأخذه حمية الجاهلية ليعلو بصلف وغرور فما يلبث حتى يقذف الله بالحق عليه ليدحضه فإذا هو زاهق؛ أولست النموذج الإسلامي الذي نشأته البيئة النبوية لتترسخ فيه شمائل من أدبه ربه فهو على خلق عظيم؟ أولست فاطمة؟ فاطمة البتول الزهراء الطاهرة المتعبدة الزاهدة التي كلما قرصها الجوع سجدت، وكلما هدها التعب ذكرت، وكلما ألمت بها الحمى قالت: "يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، اللهم أصلح لي شأني كله ولا تكلني طرفة عين إلى نفسي ولا إلى أحد من الناس".

 إبنة محمد وخديجة وأخت الباسلات، زينب ورقية، صاحبة الهجرتين، وأم كلثوم. رفيقة عليّ بن أبي طالب، صاحب طفولتك الذي كرم الله وجهه، فلم يسجد كما لم تسجدي أبدا لوثن، عليّ زوجك فتى الفتيان وفارس الفرسان، وفقيه الفقهاء، والصلب الطاهر الذي خرجت منه ذرية نبينا الهادي: "جعل الله ذرية كل نبي من صلبه، وجعل   ذريتي من صلب عليّ". أم الحسن والحسين، وزينب وأم كلثوم، وفوقهم يناديك نبينا الحبيب: "فاطمة أم أبيها"، فتحملت بهذا وطأة المجد، ودفعت ثمن التميز، وحفظت بالحرمان والصبر أمانة مسئولية كونك ابنة الرسول المفدى، الذي أدّبك ورباك لتكوني النموذج للرسالية المسلمة.

ولدت مع بشائر النبوة، ومحمد الأمين يفض خصام القبائل في مكة عند إعادة بناء الكعبة وتنازُعها شرف حمل الحجر الأسود ووضعه في مكانه، في 20 من جمادى الآخرة في العام الثامن عشر قبل الهجرة. تعلمت الخطو وأبوها في غار حراء يتطهر ويتعبد وتأتيه الرؤى الصادقة كانبلاج الصبح، وتشربت منذ ذلك الحين، روح أمها الحانية، الطوافة حول الأب، الذي لم تعرف قريش مثله صدقا وطهرا وسموا.

 ومع تنزيل الآيات على المبعوث رحمة للعالمين، رددت وهي بنت خمس سنوات:  "اقرأ بسم ربك الذي خلق"، ونطقت: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله"؛ نطقتها حفظا ووعتها معنى، وحملتها مسئولية كاملة، وعاشتها حياة متصلة، شهيقا وزفيا، على مدى ثلاثة وعشرين عاما.

 دخلت شعب أبي طالب، وهي في الثانية عشرة، عندما ضربت قريش بعتوها الجاهلي الحصار الباغي على الرسول وأهله، وصحابته ومن يواليه، فلا بيع ولا شراء ولا مصاهرة ولا مكالمة ولا طعام ولا ماء، وقطع الطريق على من يبغي التسلل بزاد أو نجدة، فهي المعركة الضارية لإكراه المؤمنين على ترك اختيارهم العقائدي الحر بالإيمان بمحمد، رسولا ونبيا، ولا رسول ولا نبي بعده، والإسلام لوحدانية الله سبحانه، أو الموت جوعا وظمأ في الشعب الموحش في الجبل!

ورأت في هذه السن المبكرة كيف جاع المسلمون من كبيرهم حتى طفلهم، وكيف أكلوا ورق الشجر وما دونه، صامدين بالروح الشبعى بدين الله الحق، وينضج إيمانها ليصير سمة شخصيتها الرئيسية، وتتفتح روحها تحت الحصار الكافر بقوة وعناد يثقلان جسدا أكسبته سنوات الجوع الثلاث النحول والضعف، لازمانها إلى نهاية عمرها الكادح، الذي لم يتجاوز الثامنة والعشرين ربيعا، يوم تحققت لها بشرى اللحاق بأبيها الرسول المفدى بالجنة في الثالث من رمضان في العام الحادي عشر من الهجرة.

 وتأكل الأرضة المخبأة في الكعبة صحيفة تعاهد الكفار على الحصار فلا تترك منها إلا اسم الله، كما ينبئهم الرسول، لتخسأ قريش أمام الإرادة الإلهية التي أذنت بإنهاء الحصار بعد أن فتن فيه الظالمون، وامتحن المؤمنون إيمانهم فكان لهم فيما كرهوه الخير، رغم القرح، والله "فعال لما يريد". وتخرج "فاطمة" الصبية من الحصار فتاة في الخامسة عشرة قد حان أوان زواجها، لكن لا مجال، فقد اختبر قلبها الغض أولى جرعات الحزن الغائر حين يختار الله أمها خديجة السكن الرؤوم لتكون من شهداء ذلك الحصار، الذي باءت قريش بإثمه، فينتهي ذلك الدور الفذ الذي قدره الله بمقدار لخديجة الخالدة، وليتاح لفاطمة، صغرى البنات، مواصلته ظلا لخديجة وامتدادا لها، في ترتيب إلهي عجيب، ولم يكن من المنظور أن تقوم زينب الكبرى بهذا الدور، فقد رسم الله لها حياة لا تقود لذلك، وقد توفيت في السنة الثانية للهجرة، ولم يكن من المشيئة أن تكون رقية أو أم كلثوم، والأولى صاحبة هجرتين، واحدة إلى الحبشة والأخرى إلى المدينة، وكلتاهما قد تزوجتا عثمان بن عفان صاحب النورين، فقد توفيت رقية في السنة الثالثة للهجرة وحلت أم كلثوم مكانها بعدها في بيت عثمان، ثم توفيت في السنة التاسعة للهجرة. وهكذااختص قدر الله فاطمة بين شقيقاتها الباسلات  المحبات لتمتاز، ومن البداية، ولتكون لائقة لشرف إنجاب الذرية لنبينا الهادي؛ أخذ الله من خديجة القاسم والطيب مختبرا رسولنا بوجع الثكل، بعد وجع اليتم، وليعود فيعطيه عبر فاطمة وعليّ: الحسن والحسين رحمة ومنّة. ولا يخفيها الرسول، فيقول صلوات ربي وسلامه عليه: "جعل الله ذرية كل نبي في صلبه، وجعل ذريتي في صلب علي". (أخرجه أبو الخير، والحاكمي، مذكور في زينب، الأستاذ علي أحمد شلبي، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، ص 65). وانفردت مبكرة باستكمال دور الحدب والذود الذي كانت تتبع به خديجة الرسول، حيثما ذهب، في طرقات مكة وأنحاء  البيت العتيق.

 خبرت كثافة الباطل حين يهيش، ويحدق بالحق ويبدو لوهلة من الزمن كأن لا نهاية له فالكلمة تبدو كلمته والصوت صوته والأمر بيده وكأنه الغالب أبدا، رأت كيف يستهين أهل الباطل بالحق، كيف يقفون أمام نوره في صمم وعمى، "وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون"، الزمر 45.

تهرول هالعة: "وا كرب أبتاه"، والحنق يثقله العجز والقهر فلا تملك كبت شهقاتها وإخفاء نحيبها وهي ترى النبي المفدى، ساجدا في الكعبة، للذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، وقد وضع السفهاء على ظهره كرش بعير، وفق مؤامرة غليظة رسمها إمام الكفر والحقد أبو جهل عمرو بن هشام، ونفذها التعيس عقبة بن أبي معيط، وسط ملأ ساخر يضحك، وقد طابت أنفسهم الفظة لمشهد الأذى بالرسول، روحي فداه. وتزيح فاطمة عن أبيها الأذى فيأخذها إلى قلبه يهدئ من روعها، "يا بنية لا تبكي فإن الله مانع أباك"، ثم يرفع رأسه الشريف وهو يدعو: "اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بأبي جهل وعليك بعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط و..." وسابع نسى راوي الحديث اسمه ويرى الناس كل هؤلاء في قليب بدر قتلى ومعهم خزي الدنيا والآخرة، وقد شفى الله صدور المؤمنين وأذهب غيظ قلوبهم، ومع تصاعد الأذى وضراوة المكر الجاهلي تتعلم فاطمة الصبر وتعرف يوما بعد يوم كيف تروض نفسها على كظم الغيظ أمام استهزاء  قريش واستكبارها فالله يسمع ويرى ويربط علىقلب مختاره ومصطفاه: " وإن يكاد الذين كفرو ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين"،القلم 51،52.

وتتربى فاطمة بالقرآن وتقرأ وراء الرسول:لقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون"، الأنعام  10.

ثم تقرأ: "وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون"،الأنعام26.

ثم تقرأ: "قد  نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات  الله يجحدون ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله..."، الأنعام 33، 34.

ثم تقرأ: "فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون"، الأنعام 44.

وتتمكن الحكمة من قلب فاطمة وصدرها وهي توالي حفظ كلام الله، وتتأمل آياته متبتلة خاشعة قانتة لا تعرف لغوا ولا هذرا متخلقة بخلق أبيها الذي كان خلقه القرآن، وتشهد السيدة عائشة أم المؤمنين بعد سنوات فتقول: "ما رأيت أحدا من خلق الله أشبه حديثا ومشيا برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة"، وتقول: "ما رأيت أحدا أصدق في لهجة من فاطمة إلا أن يكون الذي ولدها صلى الله عليه وسلم".

ويكسبها الورع والتقى مع الطقس الجهادي الرسالي الذي تعيشه كاملا وقارا ومهابا وثقلا لم يعرف لامرأة في مثل عمرها، وتشهد لها السيدة عائشة مرة أخرى: " ما رأيت أفضل من فاطمة" و "....إن كنت لأظن أن فاطمة من أعقل نسائنا....".

وتعيش سنوات العُسرة الثلاث، ما بين وفاة السيدة خديجة وهجرة الرسول وقبل زواجه، مؤكدة للرسول بثباتها وإلزام نفسها الصبر والتحمل الهادئ، أنها الرسالية الجديرة بأن تكون السكن الباقي أثرا من ظل أمها الرؤوم فيجتمع فيها، مع تشابهها التام بالرسول المفدى، بيت النبوة كاملا، ولا يجد الرسول ما يصف به موقعها الفريد هذا إلا أن يدعوها: فاطمة أم أبيها.

 يأمر الله رسوله بالهجرة، فيهاجر ومعه الصديق أبو بكر إلى يثرب، المدينة المنورة، وسط ملابسات خطرة تتهددهم، وينام علي بن أبي طالب مكان الرسول في مكة ليغشي الله أبصار الكافرين فلا يرون النبي المفدى وهو يمر من أمامهم وقد جاءوا عصبة يمثلون القبائل لقتله. وتتوالى هجرة المؤمنين من بعده وتهاجر فاطمة بصحبة أم كلثوم إلى حيث يجمع الله شمل المسلمين ويكوّنون دولتهم بالمدينة المنورة يثرب، ويتزوج الرسول إبنة صاحبه في الغار، عائشة، وغيرها من بعدها ويتهيأ المجال لتتزوج فاطمة؛ خطبها أبو بكر فقال الرسول: يا أبا بكر أنتظر بها القضاء، وخطبها عمر بن الخطاب فقال الرسول: يا عمر أنتظر بها القضاء، فقالوا لعليّ: اخطب فاطمة إلى رسول الله، فقال: بعد أبي بكر وعمر؟ ثم خطبها. فقال صلى الله عليه وسلم: قد أمرني ربي عز وجل بذلك. وقال النبي لفاطمة: إن عليّا يذكرك. فسكتت فعرف موافقتها، وكانت قد بلغت الثامنة عشرة.

قال أنس بن مالك: "ثم دعاني صلى الله عليه وسلم بعد أيام، فقال لي: يا أنس اخرج وادع لي أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة والزبير وبعدتهم من الأنصار. قال فدعوتهم فلما اجتمعوا عنده صلى الله عليه وسلم وأخذوا مجالسهم وكان عليّ غائبا في حاجة النبي صلى الله عليه وسلم، قال النبي: الحمد لله المحمود بنعمته المعبود بقدرته المطاع بسلطانه المهروب إليه من عذابه ...إلى أن قال: ثم إن الله تعالى أمرني أن أزوج فاطمة من عليّ، وإني أشهدكم أني قد زوجتها إياه على أربعمائة مثقال من فضة، إن رضي علي بن أبي طالب بذلك، على السنة القائمة والفريضة الواجبة". وعندما دخل علي تبسم الرسول في وجهه وقال: "إن الله أمرني أن أزوجك فاطمة على أربعمائة مثقال فضة إن رضيت بذلك، فقال: رضيت بذلك يا رسول الله، ثم خر لله ساجدا". وباع عليّ درعه الحطمية وكان الرسول قد أهداها له وباع بعيرا له فتجمع له أربعمائة وثمانون فقال له النبي اجعل ثلثين في الطيب وثلثا في المتاع. وجهزها الرسول بقطيفة ووسادة من الجلد حشوها ليف، ورحيين وسقاء وجرتين. وتقول السيدة عائشة زوجة الرسول: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجهز فاطمة حتى ندخلها على عليّ فعمدنا إلى البيت ففرشناه ترابا لينا من أعراض البطحاء، ثم حشونا مرفضتين ليفا، فنفشناه بأيدينا، ثم أطعمنا تمرا وزبيبا وسقينا ماء عذبا وعمدنا إلى عود فعرضناه في جانب البيت ليلقى عليه الثوب ويعلق عليه السقاء، فما رأينا عرسا أحسن من عرس فاطمة"! (مذكور في مناقب علي والحسنين وأمهما فاطمة الزهراء دكتور عبد المعطي أمين قلعجي، دار الوعي، حلب 1979).

هكذا كان جهاز بنت رسول الله وهكذا كان عرسها! ويدعو الرسول لهما: " اللهم إنهما أحب الخلق إلي فأحبهما وبارك في ذريتهما"، ويتم هذا الزواج الذي أمر به الله وتولاه ليكون أصحابه بما هم عليه وما ينجبانه أهل بيت الرسول. عن صفية بنت شيبة قالت: "قالت عائشة: خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداة وعليه مرط مرحل، أي كساء منقوش، من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء عليّ فأدخله، ثم قال: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا". أخرجه الإمام مسلم في صحيحه.

والشاهد من هذا الحديث أن صفة أهل بيت الرسول تعني فاطمة وعليا والحسن والحسين. من أجل هذا لم يأذن الرسول لعليّ بإدخال زوجة ثانية على فاطمة حفاظا على خصوصية هذا البيت وتميزه، لكونه يضم النماذج الإسلامية الرسالية التي تربت على يد الرسول فنشأها لتأتم بها أجيال المسلمين عبر القرون وتتمثلها.
جاءت فاطمة تقول للرسول: "إن قومك يتحدثون أنك لا تغضب لبناتك. وهذا عليّ ناكحا ابنة أبي جهل، وكان أهلها يريدون أن يزوجوها بعد دخولها الإسلام بمن يليق بكبريائها، فقام الرسول إلى المنبر يقول: إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها وإني لست أحرم حلالا ولا أحل حراما ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد أبدا".  ويقول: "إن بني هشام بن المغيرة استأذنوا في أن ينكحوا ابنتهم عليّ بن أبي طالب، فلا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن، إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم". ويتراجع عليّ عن الخطبة التي تم السعي بها إليه ولم يكن هو ساعيا إليها. ولا تؤثر هذه الحادثة في خصوصية هذا البيت الطاهر، الذي ظل للرسول سكنه بل لعلها سجلت جانبا في الحلال يمكن أن يبغضه القلب وينفر منه الذوق وتؤذى منه النفس.

 ويستمر الرسول المفدى في إغداقه الحب والود وطيب الكلم لفاطمة وعليّ وأولادهما حتى تقول السيدة عائشة: "أحب الناس إلى قلب الرسول فاطمة وزوجها"، رغم أن السيدة عائشة قد أغاظت فاطمة يوما بقولها: "أنا البكر الوحيدة التي تزوجها رسول الله". فقال الرسول المحب لابنته: "قولي لها وأمي خديجة الوحيدة التي تزوجت أبي وهو بكر". وكان هذا التلطف ومعه المواساة كل ما يملكه الرسول المفدى لابنته البتول. إذا أتى من سفر بدأ بالصلاة في المسجد، ثم يذهب إليها ثم إلى نسائه، إلا أن هذا الحب المغدق كان معه التنبيه النبوي المتصل:

" لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها" و "يا فاطمة بنت محمد اعملي فلن أغني عنك من الله شيئا" و "ليست الدنيا من محمد ولا من آل محمد، ولو كانت الدنيا تعدل عند الله من الخير جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء". ويرى في يد فاطمة يوما سوارين من الفضة، فلا يدخل بيتها حتى تخلعهما وتبعث بهما إليه قائلة: "ابنتك تقرأ عليك السلام وتقول لك اجعل هذا في سبيل الله". فيفرح النبي المفدى: "قد فعلت فداها أبوها". ويراها بلال وهي تطحن وجسدها الضعيف لا يساعدها والصبي يبكي، فيطحن عنها ويقول له الرسول: "فرحمتها رحمك الله". لكن عندما يذهب عليّ ليسأله، وقد جاءه سبي، أن يعيطهما منه من يساعدهما لإن عليا سقى حتى اشتكى صدره، وفاطمة طحنت حتى كلت يداها واخشوشنتا، يرفض صلوات الله عليه: "والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم، لا أجد ما أنفق عليهم، ولكني أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم". ثم ما يلبث أن يذهب إليهما وقد دخلا في قطيفتهما إذا غطت رأسيهما تكشفت أقدامهما وإذا غطيا أقدامهما انكشف رأسهما، وقال لهما: "ألا أخبركما بخير مما سألتماني؟ قالا: بلى بلى، فقال: كلمات علمنيهن جبريل عليه السلام، فقال: تسبحان في دبر كل صلاة عشرا وتحمدان عشرا وتكبران عشرا، وإذا آويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثا وثلاثين واحمدا ثلاثا وثلاثين وكبرا أربعا وثلاثين ..." وتتابع الروايات وتتوالى الصفحات ولا نرى فاطمة إلا عاملة مجهدة مثقلة بالأعباء، تمر الأيام ولا يكاد يدخل جوفها طعام وجسدها الضعيف يرهقها بالمرض أو الحمى، ويسألها نبي الله عن حالها فتقول: "إني لوجعة"، ثم تقول: "وإنه ليزيدني أني مالي طعام آكله". وتدمع عين النبي المفدى: "يا بنية أما ترضين أنك سيدة نساء العالمين؟" وحين يمر عليها وهي تطحن بالرحى وعليها كساء خشن يبكي لمرآها وهو يقول: "تجرعي يا فاطمة مرارة الدنيا لنعيم الآخرة".

همس الرسول في أذنها وهو في مرضه الأخير فبكت ثم همس ثانية فضحكت، فسألتها السيدة عائشة تفسير الضحك والبكاء في لحظتين متقاربتين فقالت فاطمة: "ما كنت لأفشي سر رسول الله". فلما توفاه ربه أعادت عائشة سؤالها، فأخبرتها فاطمة بأن الرسول كان قد أنبأها بأن الأجل قد اقترب فبكت، ثم أنبأها بإنها أسرع أهله لحوقا به فضحكت.

وعاشت الزهراء بعد وفاة الرسول ستة أشهر تترقب متلهفة لحظة تحقيق النبوءة لتلحق به ولم يرها أحد تبتسم بعد رحيل النبي المفدى. يزيد من حزنها غضبها النابع من رؤيتها أن الحق يؤخذ من أصحابه وكان موقفها واضحا حاسما جابهت به أبا بكر وعمر، لا طمعا في دنيا وهي تعلم أنها على بوابة الرحيل ولكن إحقاقا لما شهدت أنه حق ومصلحة للإسلام والمسلمين. وحين استشعرت قرب الرحيل سألت صاحبتها أن تسكب لها غسلا، قالت صاحبتها فسكبت لها فاغتسلت كأحسن ما كانت تغتسل ثم طلبت ثيابها الجديدة ولبستها ثم قالت: قد اغتسلت فلا يكشف لي أحد كتفا.
ثم شاءت أن توارى في شيء فقالت لها صاحبتها أسماء بنت عميس، إني رأيت في الحبشة يعملون السرير للمرأة ويشدون النعش بقوائم السرير، فأعجبها ذلك وقالت: سترتموني ستركن الله. واستقبلت القبلة وهي تبتسم لأول مرة منذ وفاة الرسول المفدى والأب الحبيب، وحملها عليّ ليلا كما أوصته ليدفنها ومن دون أن يخبر بجنازتها أحدا والحسن لم يتجاوز الثامنة والحسين لم يتجاوز السابعة وزينب تتعثر في الخامسة وأم كلثوم دون ذلك.

* فاطمة سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم ابنة عمران،

* إذا كان يوم القيامة نادى مناد: يا معشر الخلائق طأطئوا رؤوسكم حتى تجوز فاطمة عليها السلام،

* إذا كان يوم القيامة نادى مناد من وراء الحجاب: غضوا أبصاركم عن فاطمة بنت النبي محمد حتى تمر.

فديتك عمري يا فاطمة بنت محمد، وسلام عليك يا ابنة رسولنا المفدى، يا زهراء، ومازال أبناء الإسلام  يأتون مرابطين إلى يوم القيامة، يغضبهم سيدتي ما يغضبك، ويريبهم جدتي ما رابك، لأنهم يعلمون أن ما يغضبك يغضب الرسول وما يغضب الرسول يغضب الله سبحانه وتعالى، الذي أرسل أباك بالهدى ودين الحق مبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا.