الخميس، 9 فبراير 2012

إنها بصمة المُدمّرين


..وما إن سمعت بخبر الحادث المروع، الأربعاء 1\2\2012، حتى طار لبي وتنقلت بين قنوات المذياع المرئي أبحث عن أخبار لا دش كلام  هجمات "التوك شو"، مطحنة الرغي في لغتنا الصحيحة، التي يبثها المذكور بكل قنواته وفضائياته، غير أنه لم يكن هناك مهرب مما توقعته و حدث بالفعل وهو؛ خروج كل ربابة بموالها يعزف عازفها ويغني منشدها الاجترارات بأصنافها المتعددة  مهتبلين اتساع رقعة منصات انطلاق متفجرات الكلام الخارجة من حاويات الأذى، التي كانت محدودة ومحصورة بقصور الإمكانات إلى أن فتحت الألفية الثالثة مغاليق الصناديق، ما تم تسميته "ثورة الاتصالات"، وطارت وطاويطها من محابسها لتلبس في وجوهنا صباح مساء توسوس وتصوصو وتصفر وتنهش وتمصمص ولا مجال لطردها ولو بالطبل البلدي.

سحبت الصوت وكان يكفيني إخبارا هلع الأمهات والآباء والأهل والأصدقاء الذي نطقت به الوجوه، وكان يكفيني التعرف على بصمة المدمرين الواضحة التي لم تتقن شيئا، سنوات حكمها المشين، غير الفتن والحرائق والقتل والشر الغبي، وهل نسيت حيثيات الحزن والغضب التي  إنبثقت من حريق مبنى مجلس الشورى المصري التاريخي العريق، 19/8/2008،  إذ رأيت حينها في ألسنة اللهب وحشا عنيدا واثقا بإمكانه أن تمتد أطرافه الأخطبوطية إلى حيث يشاء أو يشاؤون؟

كنت أخاف الزلازل والبراكين لأنها قوة دمار مباغتة يقف الإنسان أمامها عاجزا، لم يعلم كيف بدأت ولا يملك إرادة إنهائها، أما  حوادث القتل و الحرائق فهي، إن لم تكن بفعل فاعل مجرم، تكون بفعل إهمال فاحش آثم وتقصير خائن للأمانة.

شاهدت عام 1971 حريق دار الأوبرا الخديوية الملاصق للمركز الرئيسي لإدارة إطفاء الحريق بميدان العتبة، ودارت وقتها الثرثرة الخائبة التبريرية حول كيف أنها خشب في خشب ولذلك كان من السهل أن ينشب فيها الحريق، كأن قابلية الأوبرا للاشتعال كانت سرا تم اكتشافه على التو، كأنها لم تكن تضاء بالمشاعل والشموع من دون أن يمسها الخطر، لأن الذي أنشأها عام 1869 أقام بالقرب منها وحدة إطفاء جاهزة للدفاع عنها منبها على ضرورة تأمينها.

بعد حريق الأوبرا احترق متحف الفن الإسلامي بباب الخلق وتمت "كلفتة" الحدث بخسائره المروعة، مادية ومعنوية، بالثرثرة المعتادة عن الخشب وقابليته للاشتعال، وظلت حرائق منطقة الموسكي والصاغة، وما يجاورها من متاجر شارع الأزهر تأكل ورش الصناعات المحلية، أحذية وملابس وخلافه، بمعدل حريق كل أسبوع، أو ما يقرب من ذلك، حتى صارت من طبائع الأمور يدهشنا سكونها كأن النار قد تقاعست عن أداء عملها المتوقع!

حرائق، فتن، تخريب، كانت سياسة المدمرين وسلاحهم وفلسفتهم لتمكين فسادهم  حسبناها، في وقتها، من ابتكارات الإهمال واستفحالات التقصير والاستهتار واللا مبالاة، استكمالا لمشاهد طفح المجاري وانفجار المواسير واختلاط مياه الصرف الصحي مع مياه الشرب، سواء بسبب انتهاء العمر الافتراضي للمواسير القديمة أو بسبب خراب ذمة من أشرف على تجديدها بأردأ الأنواع وأسوأ المهارات، التي لا تهتم بغلق الفجوات لتصبح من جانبها آبار موت تبتلع الأطفال، وحوادث صعق المواطنين بأسلاك الكهرباء العارية المدلاة، ناهيك عن تلال القمامة التي تمرق جوارها العربات الفارهات لتجسيد مفارقة المثل المصري الشائع "زبال وفي يده ورده"! وإذا بالقاهرة العزيزة تنسحب برمتها إلى العشوائية، فبدلا من أن تنهض القرى وترتفع إلى صلاح المدينة وأحكام نظامها وتنسيقها وانضباطها ونظافتها وأمنها وأمانها، حدث العكس لتتحول القاهرة إلى قرية هبطنا معها حتى وصلنا إلى تهوين حريق مجلس تاريخي، منوط بفحص شكاوانا، لتعديل المائل، ودفع الأخطار، وتهدئة الخواطر، وتأكيد حقنا في الأمن والأمان والطمأنينة؛ ولم تكن  الخسارة في اللوحات النادرة لكبار فنانينا الرواد التي كانت تزين الجدران، ومعها تلك الوثائق التي قيل، بالكثير من الهدوء والتبسيط والاستهانة بقيمة الخسائر، أنه قد تم حفظها في الكمبيوترات! وكم كان هذا القول مؤشرا دالا على العقلية التي نظر بها القائل المسئول وقرينه إلى وسائل تأمين سلامة مبنى المجلسين الشورى والشعب، إذ كانت المصيبة التي استشعرناها هو  ذلك الهلع الذي بات يحاصرنا، ولم يكن سببه فحسب حافلات القهر والقمع التي كانت تحوّط الجامعات والمنشآت بالأمن المركزي، بواقع دائم، ولا الجوع، ولا غلاء الأسعار، ولا طوابير الخبز، والسحابة السوداء، وأوبئة الأمراض الفيروسية والسرطانية، وعصابات تجارة الأعضاء البشرية.. إلخ، كان  الهلع الأكبر هو  الكشف: أننا في "تيتانيك" تغرق ولا يهتم أحد من المكلفين حمايتنا بالبحث لنا عن أطواق إنقاذ بعد أن احتكروا لأنفسهم كل قوارب النجاة.

خلعتهم ثورة 25 يناير 2011 ولكن: لا تزال بصمتهم التدميرية تلاحقنا!



هناك 4 تعليقات:

  1. الأستاذة الفاضلة ألف تحية من الجزائر

    عندنا كان وقودها الناس

    200 ألف قتيل و7 آلاف مفقود هذه الأرقام أقرها النظام ،أما المعارضة فتقول أن الرقم أكثر من ذلك. و إلى اليوم لازال اهالي المفقودين ينظمون كل يوم أربعاء تجمعا أمام منظمة حقوق الإنسان.
    وللتوضيح هؤلاء ليسوا مفقودين، إنما مختطفين من بيوتهم أمام زوجاتهم وأولادهم أو من مقر عملهم

    ردحذف
  2. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
    الردود
    1. الدكتورة / صافي ناز
      أنت سيدة رائعة جدا. ثابتة على مبدأها. أحيكي وأحيي نوارة جيلنا ، الشجاعة بنت الشجاعة بنت الشجاع. أنتم شيئ مشرف وملهم. بارك الله فيكم وسدد خطاكم.

      حذف
  3. الاستاذة الجميلة ذات الرؤية السديدة فهم عميق للواقع المؤلم واشد مايؤسفني عدم انتشار الوعي بهذا الفهم بين بني مصر اطال الله عمرك بالخير ونفع بك ولكي كل التحية

    ردحذف