الأربعاء، 29 فبراير 2012

داء الثلج
كأنني في مطار مدينة أزورها فأجد أن ناسها من الثلج: يروحون ويجيئون وهم من الثلج ودماؤهم بيضاء وانا أقول: يا إلهي إن دماءهم ماء. أحس بحرارتي وينتابني الخوف من العدوى. أخرج مصحفي وأرفعه في مواجهتي أتقي به عدوى التحول إلى ثلج بينما الرجل الثلجي يتصفح جواز سفري. خوفي يتزايد فأحرك لساني بآيات أحفظها من القرآن الكريم ثم يعلو صوتي رويدا رويدا حتى أبدو كأنني أخطب بآية الكرسي وسورة الإخلاص والمعوذتين وعندها يتقدم مني أحد عمال المطار ويسألني: "هل أنت من مصر؟" فأهز رأسي بنعم وأنا مستمرة في تلاوة "قل هو الله أحد"، يبتسم لي وهو يهمس: "أنا كذلك من مصر ولكني أقيم هنا منذ وقت طويل ولا أزال أحفظ هذه السورة"، ثم يرتفع صوته مكمّلا معي: "الله الصمد لم يلد ولم يولد"، وإذا بي أكتشف مصريين كثيرين غيره تجتذبهم الكلمات، التي تبدو وكأنها توقظهم من سبات عميق كانوا قد استسلموا له، ويأتون نحونا، وفي امتزاج له رنين يتردد بين جنبات المكان يكملون معنا السورة بالآية الكريمة: "ولم يكن له كفوا أحد". أبكي تأثرا: "لماذا لا تعودون؟". أتسلم جواز سفري وأخرج من المطار عبر قنوات المغادرة التي لا تخلو من مصري مصاب بداء الثلج يردد كأنما يتذكر: "قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد".

أخوض تجربة مثل هذه الأحلام وتظل محفورة بذاكرتي ويكون بإمكاني استحضارها بتفاصيلها مهما جرت فوقها الأعوام؛ لا زلت أتذكر الرؤيا التي رأيتها سنة 1961، وكنت قد بدأت دراستي بالولايات المتحدة الأمريكية بمدينة لورنس بولاية كانساس، رايت من يقول:"النبي محمد حاضر بالمدينة"، فجرى المشتاقون يهرعون إلى حيث قيل إنه سيجتمع بالناس ليجيب على أسئلتهم. كان قلبي يخفق بشدة وأنا أبكي وأقول: " نعم يارسول الله لديّ أسئلة كثيرة" بينما أنا أدخل قاعة اللقاء بأرائكها المصفوفة على اليمين والشمال وبينها ممر. جلست على أريكة خلفية بسبب الزحام. الكل باك. الكل صامت ولا نسمع سوى دقات قلوبنا. نظرت أمامي، إلى حيث يفترض أن يكون الرسول جالسا إلى المنصة، فرأيت رجلا بعينيه حَوَل وليس به أي صلة شبه بما نعرفه من ملامح الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أو صفاته الوضيئة، قلت في نفسي: "هذا ليس النبي محمد، هذا لايمكن أن يكون محمدا صلى الله عليه وسلم"، وفجأة وقر في قلبي أن هذا الدّعي يمكن أن يكون "الّدجّال". ملأني الغضب وقلت لا بد أن أعلن هذا الأمر. تلفت حولي وبدت لي كل الوجوه مُصدّقة تصديقا تاما أن ذلك الدّعي على المنصّة هو النبي محمد ـ والعياذ بالله ـ وأنني لو وقفت وقلت له أنت كاذب فسوف يفتك بي هؤلاء الناس لا محالة، لكن حماسي غلب خوفي فنهضت صائحة: "أنت لست النبي محمدا أنت أحول كاذب....."، وواصلت خطابي بآية الكرسي؛ أقولها كأني أخطب وصوتي واضح قاطع للصمت حتى ختمت بشهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله، أقولها وأنا أستشعر الجرأة والمخاطرة وقد لبستني استجاشات فدائية، ثم أدرت ظهري وخرجت من القاعة ولدهشتي وجدت الجمهور، الذي خفت أن يفتك بي، يتشجع ويخرج معي تاركين وراءنا الدّعي الأحول وبطانته!

عندما صحوت، وقتها، قلت: هل يمكن أن يأتي اليوم الذي يكون نطقنا بشهادة التوحيد، مجرد نطقنا، بمثابة مخاطرة فدائية لا يقدم عليها إلا شجاع جرئ؟.

أما يوم الخميس 20 يونية 1996 الموافق 4 صفر 1417، فكانت الرؤيا الواضحة قد بدأت بأن رأيت نفسي داخل أرض فلسطين المحتلة بمكان وجدت في حديقته طفلتين يهوديتين تقولان "نتنيهودي"، فسألتهما: أهكذا تنطقان اسمه "نتنيهودي"؟ فقالتا "نعم"، وعندما دخلت البناية وجدتني في بهو به عدد من الحاخامات يقومون بمراسم احتفال ديني لترسيم "نتنياهو" فجلست أشاهدهم وهم لا يبالون بمشاهدتي لهم. كانت لهم هيئة مترهلة سوقية مثل هيئة حوذي العربات الشعبية، وكانوا جادين في أداء طقوسهم حول "نتنياهو" ومن بينها خطوات رقص هزلي. بعدها وجدتني في غرفة و نساء يهوديات شرسات يدرن حولي ويتلمظن لضربي ونهشي وأنا أدافع عن نفسي بترديد "الله أكبر" التي بدت كسياج يحميني و يدفعهن عني وهن كثيرات يصدر منهن طنين كطنين الزنابير. كنت في ورطة حقيقية لا شئ يبعدهن عني سوى آية الكرسي والمعوّذتين وسياج "الله أكبر"، حتى رأيت مجموعة من الرجال يفصل بيني وبينهم حائط به باب حديدي مغلق فوقه كوّة صغيرة مثل الثقب، نظرت إليهم فأشاروا إلى الثقب، فقلت: كيف أخرج من ثقب صغير؟ فقال أحدهم: انظري إلى الثقب بتركيز ورددي "الله أكبر"، ففعلت، فإذا بالثقب يتسع ويتقدّم واحد من الرجال ويشرع في معالجة قضبان الباب الحديدي بقوة فتنثني وتتسع، وهو لا يكف مع مجموعته عن ترديد "الله أكبر ولله الحمد"، بينما أنا أهرع خارجة من فتحة الخلاص، وأرى النساء اليهوديات الشرسات من خلف زجاج نوافذهن لا يزلن متلمظات غاضبات هائجات.

الأحلام بئر ثرية مليئة اغترف الفنانون منها الكثير، ولقد سيطرت الرؤى بقوة على عالم "سترينبرج" المؤلف المسرحي السويدي، كما أنها امتزجت بعوالم السينمائيين الكبار مثل "إنجمار بيرجمان" و"فلليني" و "أنتونيوني"، ولست أقصد بـ "السيطرة" معنى أنهم اكتفوا بحكاية أحلامهم، لكنهم تأملوا الإمكانات الموحية المستمدة من القدرات اللامحدودة الكامنة في الرؤى والأحلام بصفتها واقعا روحيا لا شعوريا، مماثلا ومتوازيا مع الواقع المادي المحسوس ذلك الذي نخوضه في اليقظةحياة يومية. وإذا كانت أحداث الحياة اليومية مؤثرا هاما في صياغة الأحلام؛ فإن الأحلام والرؤى مؤثر هام بدوره في صياغة الأحداث اليومية.

هناك تعليقان (2):

  1. الله يسامحك دكتورة صافي ناز ، كتمتي أنفاسي حتى انتهيت من قراءة المقال. ومع انبهاري به الا أني أجد في صدري نوعا من الرهبة من قراءته ثانية. لعلها بسبب أسلوبك في السرد الذي يعيدني الى قصص جدتي رحمها الله التي كانت دائما بوليسية وميتافيزيقية تخيفني طيلة الليل.
    نعود للموضوع ، شعرت والله أعلم ثم كاتبة المقال طبعا بمعنا خلف سطورك اليوم. لعلك تلمحين الى أن صلاح شأن الدولة حاليا في التمسك بالدين ، لكن كما فهمت هناك أدعياء للدين ومتاجرون به. وهو تسجيل لواقعنا حاليا بعد الثورة من حيث الأحزاب الدينية والبرلمان والصفقات مع العسكر والأفكار القادمة من وراء البحر الأحمر وخلافه.
    في النهاية أدعو الله أن يحفظكي بالقرآن ، ويحفظ لكي ولنا نوارة التي أراها أيضا بطلة حلمك الثاني ، أنجاها الله بحفظه ورعايته من كل أعور وكائد.
    تحياتي.

    ردحذف
  2. أضحك الله سنّك يا وحيد! أما بعد: فهذه الرؤى صحيحة وصادقة ولقد دوّنتها كما رأيتها من دون كذب والأحلام لا ينكذب فيها! والحلم الثاني أبطاله، إن كان للأحلام أبطال، كلنا وليس نوارة فحسب، لكن الدجال ربما أنه كان يشير إلى عبد الناصر الذي كان في ذلك العام 1961 يدّعي الإشتراكية والعدالة الإجتماعية والكثير من الأوهام التي صدّقناها في زمنها وثبت أنها كذب × كذب، وكانت رؤيه لكل الأمور حولاء، ولا ننسى قرار حرب اليمن وأمامنا تحرير فلسطين ...إلخ. نهايته!

    حفظنا الله جميعا بهدي القرآن الكريم وسنة نبينا المنذر والبشير محمد صلى الله عليه وسلّم. ولك أن تعرف أنني أعد الآن مقالا للمصوّر عن التدين المريب.

    ردحذف