الجمعة، 22 يوليو 2011


الضلع الثالث لنجم والشيخ إمام

حالا مر عامان على رحيل الفنان محمد علي، الذي تمنى الرحيلا فجاءه 9 سبتمبر 2009، هذا الفنان المنكر لذاته  واهبا بيته في عطاء لا حدود له للكيان الفني: الشاعر أحمد فؤاد نجم والموسيقي المغن الشيخ إمام عيسى  وكان بحق الضلع الثالث لثنائيتهما من دون منازع أو إدعاء.

جاءني يوما لأرى صور آخر إنتاجه في فنه "لتلقائي" صعد معه البواب حتى باب شقتي. كان البواب مذهولا، فقد بدا محمد علي بملابسه وهيئته مزركشا زركشة تلقائية خليقة بأن يظنه من يجهله مجذوبا في أفضل الظنون. يرتكز على عصاه مع البنطلون والسترة الجينز الفضفاضة ولونهما الأزرق الكالح، بانت تحت السترة أطراف متعددة الألوان بين البمبي والبنفسجي والأخضر لملابس كدسها فوقه لتقيه البرد، ووضع على رأسه طاقية مغربية جوخ حمراء طربوشية فاقعة الاحمرار تاركا شعره الأبيض من تحتها مسترسلا طويلا، وعلى كتفه تعلقت حقيبة كبيرة سوداء بالغة الأناقة، تلك التي أخرج لي منها صور لوحاته التي ما زالت تدور حول الشيخ إمام والشاعر نجم، وأهل حارته وحجر رصف الطريق، وزخارف الشبابيك، والقباب والمآذن والألوان الزاعقة الصاخبة يكسرها ثم يعقلها اللون الأزرق.

قلت: قهوة يا محمد؟

قال: طيب.

قلت: أو تفضل الشاي؟

قال: طيب.

قلت: القهوة تركي أم نسكافيه؟

قال: أي حاجة.

قلت: باللبن؟

قال: أي حاجة.

كل إجابته تأتي بهدوء وبلا اهتمام فالأمور عنده متساوية. وضعت أمامه كوب القهوة باللبن والسكر الزائد حسب تقديري لما يمكن أن تكون رغبته، مدركة أنه من الصعب تحديد رغبة من لم تعد لديه رغبة في شيء.

محمد علي مولود في مايو 1930.  مسكنه كان في درب المقشات عند جامع الصالح طلائع بعد أن تهدم منزله العريق في حارة حوش قدم المتفرعة من شارع حوش قدم المتفرع من شارع الغورية. ولد وعاش وتغيرت به الأحوال وتبدلت معه الحرف، لكنه في كل هذا لم يخرج عن عالم الغورية. كان صائغا حتى تعرف على الشيخ إمام عيسى، رحمه الله، ثم أصبح واحدا من ثلاثي فرقة الكيان الفني إمام نجم. لم يتعلم القراءة أو الكتابة، لكنه يستطيع توقيع اسمه "محمد علي"، بطانة الشيخ إمام، يأخذ بيده في المشاوير، ويرتب له احتياجاته، ويرعاه ويستضيف الجميع في بيته، المكون من غرفة معيشة وغرفة نوم صغيرة جدا، ويحفظ ألحان الشيخ ويردد وراءه المقاطع المطلوب ترديدها مع الكورس. كان الشيخ إمام يشهد له بأذن موسيقية دقيقة تجيد النشان على المقام الموسيقي. يتحدث الشيخ إمام، يتكلم الشاعر أحمد فؤاد نجم ويصول ويجول مع الضيوف والمستمعين، ويظل محمد علي صامتا معظم الوقت إلا في المقتضب مثل "تشرب شاي" و"تفضل" وتبقى لديه وسط الضجيج ابتسامة لا تفارق عينيه كأنه على وشك الانفجار بضحكة ساخرة.

حين عرف الغناء والموسيقى عرف معهما الألوان والفرشاة، فأصبح الرسم قراءته وكتابته، وحديث صمته الطويل الدائم. لا يعرف الحماس إلا عندما يؤكد أنه حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قبل توبته عن المعاصي التي تمنى أن تغسلها عنه فريضة الحج.

صنفه النقاد تحت لافتة "لفنان التلقائي" ولكني اخترت له فنان النبض الشعبي، لأنه نهل من النبع الأصلي مباشرة بلا واسطة، فهو في موقع ومن موقع التماس البكر مع رؤية الشعبيين ونبضهم، لوحاته الكثيرة كلها رجال ونساء وأطفال تعكس التعب والمشقة والقهر والصبر ولا عجب، فهي وجوه سواد الشعب المصري المتعب العامل دأبا في احتمال ونكتة تحت طحن الرحى.  

كنت قد سألته، وهو يرشف قهوته، ما أخبار الفنان محمود اللبان؟ قال: مااااات. قلت: وما أخبار بيت الشيخ إمام؟  أخته لا تزال تسكن فيه؟ قال: ماااااتت... قلت: أنا زرت حوش قدم وشفت أنقاض بيتكم القديم، وقابلت صاحب القهوة جاركم حسن بطنجها،قال: ماااااااات.

كل مرة يخبرني فيها بموت أحد ترتسم على وجهه ابتسامة تتهلل فيها نظرة عينيه كأنه يعلن عن نيل المتوفى لجائزة "كسب المليون"و"عقبال أمالتك"!

 هذه البشاشة مع سيرة الموت يا محمد؟

سعل ضاحكا، أو ضحك سعالا، وهو ينظر في اغتباط أمامه إلى الأفق وراء زجاج النافذة، ثم استطرد: محمود اللبان مات صباح حصوله على قرار منحة التفرغ. بعد قوله هذا ظل يهز رأسه بما يمكن أن يكون تعجبا من المفارقة أو أسفا لتأخر صدور القرار حتى مات محمود اللبان، ثم أردف بابتسامة واسعة: أنا ما أخدتش منحة تفرغ. قلت: هل قدمت؟ كرر: ما أخدتش تفرغ.

لماذا تبدو السعادة كلها على وجهك يا محمد، كلما ذكرت خبرا مؤسفا؟ هل أنت مسرور لأن توقعاتك كلها جاءت في محلها؟

بادرته: هل استطعت أن تبيع معرضك الأخير؟ قال برضاء: بتوع المقتنيات أخدوا ثلاث لوحات بس ما صرفتش، قالو السنة الجاية الصرف.

بعد قوله هذا انتابته حالة، ولم استطع أن أعرف هل كانت قهقهة عالية أم نوبة سعال حادة.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق