الثلاثاء، 30 أغسطس 2011

وكل عام ونحن جمعا بخير آمين يارب العالمين

التطبيع مع إسرائيل بدأ في ظل عبد الناصر

عام 1968 كتب عبد الرحمن الشرقاوي مسرحيته «وطني عكا»، وفي الموسم المسرحي 1969 – 1970 قدمها المسرح القومي عرضا مسرحيا من إخراج كرم مطاوع.
سبب لي النص الذي قرأته، والعرض الذي شاهدته لـ«وطني عكا»، في ذلك الوقت، نوفمبر 1969، حالة اندهاش وصدمة وغضب شديد مرتبطة بما طرحته المسرحية من مغالطات وأفكار حول فلسطين وصراع العرب ضد الصهيونية.
في ذلك الوقت كنت، رغم كل الانهيارات، بريئة الذهن حسنة الظن فتصورت أن ما طرحه الشرقاوي من افتراضات خطرة مجرد خطأ وقع فيه بحسن نية بسبب ما اسميته «ليبراليته الميلودرامية» وبسبب عدم المامه بحقائق موضوع الاحتلال الاستيطاني الصهيوني لفلسطين، ولكن موقف عبد الرحمن الشرقاوي فيما بعد، بتأييده خط الصلح الكامل الذي انتهجه السادات وتطابق المغالطات التي طرحها عام 1969 في مسرحيته تلك مع المغالطات التي ظل إعلام السادات يرددها حول علاقتنا بالكيان الصهيوني المغتصب، جعلني اكتشف أن عبد الرحمن الشرقاوي لم يكن واقعا في خطأ كما حسبت ولكنه بكامل قواه العقلية والايديولوجية كان متبنيا لتلك المغالطات.
تبدأ مسرحية «وطني عكا» ببطلها الفلسطيني حازم يروي في تمهيد قصة ضياع الأرض الفلسطينية قائلا: «إنكم لم تعرفوا المأساة حقا..»، وتحسب أنه سيقول ما لم يوضع من قبل في إطاره السليم أن المأساة تبلورت بدايتها منذ وعد بلفور، 2 نوفمبر 1917، المؤيد للصهيونية التي تعتبر اليهودية جنسا وقومية، وكيف اعتمدت على قوى الاستخراب الغربي القديم ثم تقدمت مع الاستخراب الجديد الذي تحمل لواءه اميركا، وكيف أنها لصيقة بالإمبريالية العالمية، مستفيدة منها ومدعمة بها وخادمة لأغراضها ولم تكن أبدا ضحيتها أو متورطة معها، لكننا نرى بطل الشرقاوي حازم هذا لا يكف عن ترديد الخطابة القديمة والرؤيا المسطحة بأن المأساة بدأت 1948 بهزيمة النظم العربية أمام الجيش الصهيوني الصغير.
من ثم يبدأ الشرقاوي في تقديم افتراضات لنماذج من العسكرية الإسرائيلية يفترسهم تأنيب الضمير صبيحة انتصارهم واستيلائهم على الأراضي العربية عام 1967، ويظهرون كلهم كضحايا تضليل الصهيونية، حتى الذي شارك في تكوين تنظيم لشباب الصهيونية في لندن، ويصل تأنيب الضمير بواحد منهم اسمه «مارسيل» وهو فرنسي الأصل إلى أن يترك إسرائيل ويعود لفرنسا احتجاجا على مخالفات إسرائيل!
خلال عرضه لا ينسى الشرقاوي أن يقدم لنا كذلك شخصية صحفية فرنسية اسمها «إيمي»، أدتها سميحة أيوب، جاءت لتكتب عن المقاومة الفلسطينية وتحكي لنا عن: «جندي إسرائيلي حر، سئم الحرب ففر، ومات الجندي المسكين، وكانت آخر كلمات أطلقها، فليحيا الإنسان صديقا للإنسان!» ـ هذا المقتطف بين الأقواس من نص المسرحية ـ وعندما نصل إلى المشهد الأخير يصور لنا الشرقاوي نضج وكثافة ما ادعاه طوال مسرحيته من الأصوات الحرة التي ارتفعت داخل إسرائيل وتأثيرها في الموقف الحاسم عندما يأمر الضابط الإسرائيلي «يعقوب» بنسف القرية العربية إذا لم تسلم الفدائيين فيتقدم الضابط الإسرائيلي «الحر» سلامسكي معترضا في غضب وثورة على أمر قائده يعقوب، ومعه ضابط إسرائيلي آخر، «حر»، كذلك اسمه سعد هارون من يهود فلسطين القدامى يؤيد معارضة سلامسكي في التعبير عن رفضه لأمر الضابط يعقوب بنسف القرية العربية.
في هذه اللحظة نفسها والشرقاوي يصور لنا الأصوات «الحرة» في إسرائيل تعارض وتمنع «الذبح» و«النسف» و«القتل» وتبدو منتصرة على التيار المعادي للعرب، في هذه اللحظة بالذات يدخل الفدائي الفلسطيني «أبوحمدان» بالمفرقعات وبخدعة ساذجة يستطيع أن يقنع الفرقة العسكرية الإسرائيلية، الطيبة الإنسانية، بالالتفاف حول صندوق المفرقعات فينفجر وتقتل الفرقة العسكرية كلها. ويضاء المسرح ونرى الفرقة الإسرائيلية «الإنسانية» جثثا مبعثرة على الأرض أشلاء للأصوات الإسرائيلية «الحرة» التي قتلها الفدائي الفلسطيني!
وهنا يكون الشرقاوي قد وصل بمدلول اللغة المسرحية المرسلة مع هذا المشهد إلى أن المقاومة الفلسطينية إنما تقتل بأعمال «العنف» الأصوات الحرة التي نكسبها داخل معسكر الأعداء، وبذلك يخلص إلى إدانة المقاومة لصالح تلك الأصوات الحرة المزعومة، التي يدعي من دون مبرر وجودها في داخل الكيان الصهيوني المعتدي ومؤسسته العسكرية، والتي تدعونا المسرحية إلى الاعتراف بها واليقين بوجودها وفق خطة رؤيته المضلة طيلة العرض المسرحي.
كتبت في ذلك الوقت نقدا للمسرحية بعنوان: «الجدوى واللاجدوى في مسرح عن المقاومة، ثم الشرقاوي والميلودرامية الليبرالية» ونشر هذا النقد بمجلة المصور في 19 ديسمبر 1969 وركزت فيه على حقيقة من الحقائق التي كان علينا، وما زلنا، أن نواجهها وهي، أنه حين رفعت السلطة في بلادنا شعار أعرف عدوك قبل وبعد الهزيمة كان لابد أن ندرك أننا بحاجة ملحة إلى رفع شعار «أعرف قضيتك»، إذ لابد لنا أن نعترف بأن الكثير من سواد الناس ومن المثقفين ظلوا إلى ما قبل هزيمة 1967 يرزحون تحت سحابة من الأمية السوداء في كل ما يختص ويتعلق باغتصاب فلسطين: لا يعرفون على وجه الدقة الكثير من الجوهري والأساسي في ملابسات وظروف ونوعية نشأة وتطور التسلل الصهيوني إلى عقر دارنا.
وبناء على هذه «الأمية» ظل الاحتكاك بقضية فلسطين مشوشا غائصا في لجج من الخزعبلات، ونتجت عن ذلك حالتان نقيضتان في المظهر لكنهما شيء واحد في تأثيرهما النهائي: أولا حالة الاندفاع العاطفي المعبئ لكراهية عمياء من السهل محوها، ثانيا رد الفعل على ما جرته علينا حالة الكراهية العمياء من اندفاع عصبي طائش، وأخذت تلك الحالة الثانية شكلا أعمى، بدوره، «من سعة الأفق» و«العقلانية».
ومع الجهل والتجاهل لطبيعة الواقع العدواني في الكيان الصهيوني وبمبالغاتها في تفادي الوقوع في الكراهية العمياء؛ وقعت تلك الحالة في تقدير مبالغ فيه لإمكانيات العدو الفكرية والبشرية والتنظيمية والديمقراطية، تقدير يحط من معنوياتنا على الجانب الآخر ويحور الصراع من أساسه إلى المقولة الخطرة المتميعة القائلة بأن الصراع مع إسرائيل في واقعه «صراع حضاري»، وأن علينا أن نجتهد لنلحق بالبناء الشاهق للحضارة المتمثلة في الكيان الصهيوني بحيث تنتفي وتلغى تماما، من جانبنا، توقعات المواجهة العسكرية التي لم تلغها الصهيونية من جانبها كما دللت الأحداث المأساوية على ذلك بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد للسلام المزعوم وحتى الآن.
ارتفعت أصوات من ركبتهم هذه الحالة بمغالطة منطقية غريبة وهي أن هناك أصواتا حرة داخل إسرائيل تنطلق من إطار ديمقراطي وبمساعدة هذه الأصوات يمكن أن ننجح في تشكيل تيار عام يؤنبه ضميره على ما اقترفته إسرائيل من جرائم ضد العرب، ولعلنا لا ننسى المفارقة أن الكيان الصهيوني هو الذي للأسف نجح في تشكيل تيار عام داخلنا نحن لصالحه.
وكما خلق لنا المنطق الأول الأعمى الوسادة التي نام فوقها البعض بأننا سندخل تل أبيب بقيادة عبد الناصر الحبيب، خلق لنا المنطق الثاني المزيف لواقع إسرائيل العدواني وسادة يحلو للبعض أن ينام بدوره فوقها منتظرا ان يأتي عدونا تائبا معتذرا ناقدا نفسه نقدا ذاتيا لما ارتكبه في حقنا من جرائم لأنه كان مضللا وأفاق!
وقد تولد هذا المنطق منذ عهد عبد الناصر بعد الهزيمة وتسلمه أنور السادات وبلوره وحمله على عاتقه إلى الكنيست الصهيوني 19 نوفمبر 1977 حين تحدث وصافح وعانق وغرق في حب الأصوات الحرة الإسرائيلية أمثال بيغن وديان وغولدا مائير...إلخ! وحيث وجدنا بيغن بعدها تبلغ به التوبة ويبلغ به الندم حد إقامة المذابح لإبادة اللبنانيين والفلسطينيين على حد سواء حفظا لود الصراع الحضاري والحوار الثقافي بينه وبين أنور السادات.
الأمر الذي يجدر الإشارة إليه بعد هذا كله أن مسرحية «وطني عكا» برسالتها الممهدة للتطبيع مع الكيان الصهيوني لقيت وقت عرضها، عام 1969، احتفاء وتكريما وتدعيما من السلطة الناصرية، إذ حضر العرض خبراء تلك السلطة السياسية وعلى رأسهم ضياء الدين داوود، وحكمت أبو زيد، وشعراوي جمعة، وأبدوا إعجابهم الشديد بالعرض ورضاءهم الكامل عن رؤيته تلك «العقلانية»، بل إن التكريم الأكبر جاء من قبل بعض ممثلي القيادات الفلسطينية الذين قدم «أبوإياد» باسمهم درع المقاومة جائزة تقديرية للمخرج كرم مطاوع والمؤلف عبد الرحمن الشرقاوي عن عملهما ذلك المشوه! ومازلت أذكر أنني ظللت، بعد العرض، أصرخ في وجه أبوإياد: هل تعرف ما معنى: "مقاومة"؟

هناك 4 تعليقات:

  1. الأستاذة الفاضلة صافي ناز كاظم ألف تحية من الجزائر . وعيد سعيد وعمر مديد وكل عام وأنت بألف خير وصحة وعافية.
    في حقيقة الأمر دخلت المدونة من أجل تهنئتك بالعيد فوجد مقالا جميلا رائعا أذهلتني لغته الجميلة، لا أقول أغبطك ، إنما أحسدك عليها . كما أذهلتني قدرتك على تلخيص المسرحية ونقدها في أسطر معدودات . لكن ذلك ليس بغريب على ناقدة متمرسة ومتخصصة تسيطر على أدواتها النظرية والمنهجية
    الأستاذة الفاضلة .هناك مشهد واقعي رواه صحفي فرنسي كان يرافق اسحق رابين في الطائرة العسكرية التي كانت تحلق فوق الأشلاء بعد الهزيمة . ولما علق الصحفي عن هول ما رأى، يقول الصحفي أن اسحق رابين رد عليه وهو شارد بقوله :وماذا بعد ؟ فلم يفهم الصحفي كلام رابين ،كما قال، إلا بعد التسوية ومصافحته لعرفات ..
    سيدتي الفاضلة أرجو ألا يفهم كلامي أنني ممن يقولون بالصراع الحضاري مع العدو لأنني كدت أن ادفع ثمنا لما قلت من على احد المدرجات أن هزيمة 67 مسئول عنها أحزاب البرجوازية الصغيرة، ممثلة في الناصرية وحزب البعث . لكن أيتها الأستاذة الفاضلة ،هل استطعنا أن نقدم قضيتنا الفلسطينية للرأي العام العالمي كما يجب أن تقدم . هل خاطبناه بالعقلانية التي كان يجب أن نخاطبه بها وليس بالشعرات الديماغوجية مثل ثورة ثورة حتى النصر. ألم نخسر أنصارا لقضيتنا لأننا كنا ولا نزال لا نحسن مخاطبة الآخر بعقل بارد وعقلاني .ونموذج ذلك مقال نوارة "اللص و الكلاب " الذي فاجأني مستواه الفكري المتقدم بخاصة تحليل بعض جوانب الثقافة و الحضارة الغربية التي تنطوي على الكثير من الأنانية والمركزية. لكن ذلك النقد ظل وحيد الجانب في وقت كان يجب أن يكون نقدا مزدوجا يتناول الذات أيضا التي لا ترى الآخر إلا دار حرب وقتال وربما غنائم وسبايا .
    سيدتي الفاضلة لا أريد أن أطيل عليك ، رأي أخير ، عبد الناصر لما بدأ يتعامل مع بعض القرارات الأممية كان بصدد التحول من بكباشي إلى سياسي
    مرة أخرى كل عام وأنت بألف خير

    ردحذف
  2. كل عام وأنتِ بالف خير ودوام صحة وتمام عافية

    ردحذف
  3. من خلال ماسبق وتفضلتي به
    ارى انك متحاملة جداً على هذه المسرحية
    ولا ارى فيما اشرت اليه بنقدك نوعاً من تمهيد الطريق للتطبيع والمطبعين او انه كان مع سبق الاصرار والترصد
    فهي مجرد رواية وكما كان ظنك بأآنها تأثرت ب"ليبرالية الميلودرامية"
    وارى في ابراز نماذج انسانية في صفوف المعتدي الغاصب آن ذاك تأكيدا للجريمة ووليس نفياً لها او تهوينا
    كما ارى ايضاً في اشارة الكاتب الى تهور المقاومة
    وارتكابها اخطاء فادحة شيئ من الحقيقة التي للاسف مازالت موجودة حتى الآن

    وفي النهاية هو مجرد رأي

    تقبلي تحياتي وكل عام وانتم بخير

    ردحذف