الثلاثاء، 30 أغسطس 2011

وكل عام ونحن جمعا بخير آمين يارب العالمين

التطبيع مع إسرائيل بدأ في ظل عبد الناصر

عام 1968 كتب عبد الرحمن الشرقاوي مسرحيته «وطني عكا»، وفي الموسم المسرحي 1969 – 1970 قدمها المسرح القومي عرضا مسرحيا من إخراج كرم مطاوع.
سبب لي النص الذي قرأته، والعرض الذي شاهدته لـ«وطني عكا»، في ذلك الوقت، نوفمبر 1969، حالة اندهاش وصدمة وغضب شديد مرتبطة بما طرحته المسرحية من مغالطات وأفكار حول فلسطين وصراع العرب ضد الصهيونية.
في ذلك الوقت كنت، رغم كل الانهيارات، بريئة الذهن حسنة الظن فتصورت أن ما طرحه الشرقاوي من افتراضات خطرة مجرد خطأ وقع فيه بحسن نية بسبب ما اسميته «ليبراليته الميلودرامية» وبسبب عدم المامه بحقائق موضوع الاحتلال الاستيطاني الصهيوني لفلسطين، ولكن موقف عبد الرحمن الشرقاوي فيما بعد، بتأييده خط الصلح الكامل الذي انتهجه السادات وتطابق المغالطات التي طرحها عام 1969 في مسرحيته تلك مع المغالطات التي ظل إعلام السادات يرددها حول علاقتنا بالكيان الصهيوني المغتصب، جعلني اكتشف أن عبد الرحمن الشرقاوي لم يكن واقعا في خطأ كما حسبت ولكنه بكامل قواه العقلية والايديولوجية كان متبنيا لتلك المغالطات.
تبدأ مسرحية «وطني عكا» ببطلها الفلسطيني حازم يروي في تمهيد قصة ضياع الأرض الفلسطينية قائلا: «إنكم لم تعرفوا المأساة حقا..»، وتحسب أنه سيقول ما لم يوضع من قبل في إطاره السليم أن المأساة تبلورت بدايتها منذ وعد بلفور، 2 نوفمبر 1917، المؤيد للصهيونية التي تعتبر اليهودية جنسا وقومية، وكيف اعتمدت على قوى الاستخراب الغربي القديم ثم تقدمت مع الاستخراب الجديد الذي تحمل لواءه اميركا، وكيف أنها لصيقة بالإمبريالية العالمية، مستفيدة منها ومدعمة بها وخادمة لأغراضها ولم تكن أبدا ضحيتها أو متورطة معها، لكننا نرى بطل الشرقاوي حازم هذا لا يكف عن ترديد الخطابة القديمة والرؤيا المسطحة بأن المأساة بدأت 1948 بهزيمة النظم العربية أمام الجيش الصهيوني الصغير.
من ثم يبدأ الشرقاوي في تقديم افتراضات لنماذج من العسكرية الإسرائيلية يفترسهم تأنيب الضمير صبيحة انتصارهم واستيلائهم على الأراضي العربية عام 1967، ويظهرون كلهم كضحايا تضليل الصهيونية، حتى الذي شارك في تكوين تنظيم لشباب الصهيونية في لندن، ويصل تأنيب الضمير بواحد منهم اسمه «مارسيل» وهو فرنسي الأصل إلى أن يترك إسرائيل ويعود لفرنسا احتجاجا على مخالفات إسرائيل!
خلال عرضه لا ينسى الشرقاوي أن يقدم لنا كذلك شخصية صحفية فرنسية اسمها «إيمي»، أدتها سميحة أيوب، جاءت لتكتب عن المقاومة الفلسطينية وتحكي لنا عن: «جندي إسرائيلي حر، سئم الحرب ففر، ومات الجندي المسكين، وكانت آخر كلمات أطلقها، فليحيا الإنسان صديقا للإنسان!» ـ هذا المقتطف بين الأقواس من نص المسرحية ـ وعندما نصل إلى المشهد الأخير يصور لنا الشرقاوي نضج وكثافة ما ادعاه طوال مسرحيته من الأصوات الحرة التي ارتفعت داخل إسرائيل وتأثيرها في الموقف الحاسم عندما يأمر الضابط الإسرائيلي «يعقوب» بنسف القرية العربية إذا لم تسلم الفدائيين فيتقدم الضابط الإسرائيلي «الحر» سلامسكي معترضا في غضب وثورة على أمر قائده يعقوب، ومعه ضابط إسرائيلي آخر، «حر»، كذلك اسمه سعد هارون من يهود فلسطين القدامى يؤيد معارضة سلامسكي في التعبير عن رفضه لأمر الضابط يعقوب بنسف القرية العربية.
في هذه اللحظة نفسها والشرقاوي يصور لنا الأصوات «الحرة» في إسرائيل تعارض وتمنع «الذبح» و«النسف» و«القتل» وتبدو منتصرة على التيار المعادي للعرب، في هذه اللحظة بالذات يدخل الفدائي الفلسطيني «أبوحمدان» بالمفرقعات وبخدعة ساذجة يستطيع أن يقنع الفرقة العسكرية الإسرائيلية، الطيبة الإنسانية، بالالتفاف حول صندوق المفرقعات فينفجر وتقتل الفرقة العسكرية كلها. ويضاء المسرح ونرى الفرقة الإسرائيلية «الإنسانية» جثثا مبعثرة على الأرض أشلاء للأصوات الإسرائيلية «الحرة» التي قتلها الفدائي الفلسطيني!
وهنا يكون الشرقاوي قد وصل بمدلول اللغة المسرحية المرسلة مع هذا المشهد إلى أن المقاومة الفلسطينية إنما تقتل بأعمال «العنف» الأصوات الحرة التي نكسبها داخل معسكر الأعداء، وبذلك يخلص إلى إدانة المقاومة لصالح تلك الأصوات الحرة المزعومة، التي يدعي من دون مبرر وجودها في داخل الكيان الصهيوني المعتدي ومؤسسته العسكرية، والتي تدعونا المسرحية إلى الاعتراف بها واليقين بوجودها وفق خطة رؤيته المضلة طيلة العرض المسرحي.
كتبت في ذلك الوقت نقدا للمسرحية بعنوان: «الجدوى واللاجدوى في مسرح عن المقاومة، ثم الشرقاوي والميلودرامية الليبرالية» ونشر هذا النقد بمجلة المصور في 19 ديسمبر 1969 وركزت فيه على حقيقة من الحقائق التي كان علينا، وما زلنا، أن نواجهها وهي، أنه حين رفعت السلطة في بلادنا شعار أعرف عدوك قبل وبعد الهزيمة كان لابد أن ندرك أننا بحاجة ملحة إلى رفع شعار «أعرف قضيتك»، إذ لابد لنا أن نعترف بأن الكثير من سواد الناس ومن المثقفين ظلوا إلى ما قبل هزيمة 1967 يرزحون تحت سحابة من الأمية السوداء في كل ما يختص ويتعلق باغتصاب فلسطين: لا يعرفون على وجه الدقة الكثير من الجوهري والأساسي في ملابسات وظروف ونوعية نشأة وتطور التسلل الصهيوني إلى عقر دارنا.
وبناء على هذه «الأمية» ظل الاحتكاك بقضية فلسطين مشوشا غائصا في لجج من الخزعبلات، ونتجت عن ذلك حالتان نقيضتان في المظهر لكنهما شيء واحد في تأثيرهما النهائي: أولا حالة الاندفاع العاطفي المعبئ لكراهية عمياء من السهل محوها، ثانيا رد الفعل على ما جرته علينا حالة الكراهية العمياء من اندفاع عصبي طائش، وأخذت تلك الحالة الثانية شكلا أعمى، بدوره، «من سعة الأفق» و«العقلانية».
ومع الجهل والتجاهل لطبيعة الواقع العدواني في الكيان الصهيوني وبمبالغاتها في تفادي الوقوع في الكراهية العمياء؛ وقعت تلك الحالة في تقدير مبالغ فيه لإمكانيات العدو الفكرية والبشرية والتنظيمية والديمقراطية، تقدير يحط من معنوياتنا على الجانب الآخر ويحور الصراع من أساسه إلى المقولة الخطرة المتميعة القائلة بأن الصراع مع إسرائيل في واقعه «صراع حضاري»، وأن علينا أن نجتهد لنلحق بالبناء الشاهق للحضارة المتمثلة في الكيان الصهيوني بحيث تنتفي وتلغى تماما، من جانبنا، توقعات المواجهة العسكرية التي لم تلغها الصهيونية من جانبها كما دللت الأحداث المأساوية على ذلك بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد للسلام المزعوم وحتى الآن.
ارتفعت أصوات من ركبتهم هذه الحالة بمغالطة منطقية غريبة وهي أن هناك أصواتا حرة داخل إسرائيل تنطلق من إطار ديمقراطي وبمساعدة هذه الأصوات يمكن أن ننجح في تشكيل تيار عام يؤنبه ضميره على ما اقترفته إسرائيل من جرائم ضد العرب، ولعلنا لا ننسى المفارقة أن الكيان الصهيوني هو الذي للأسف نجح في تشكيل تيار عام داخلنا نحن لصالحه.
وكما خلق لنا المنطق الأول الأعمى الوسادة التي نام فوقها البعض بأننا سندخل تل أبيب بقيادة عبد الناصر الحبيب، خلق لنا المنطق الثاني المزيف لواقع إسرائيل العدواني وسادة يحلو للبعض أن ينام بدوره فوقها منتظرا ان يأتي عدونا تائبا معتذرا ناقدا نفسه نقدا ذاتيا لما ارتكبه في حقنا من جرائم لأنه كان مضللا وأفاق!
وقد تولد هذا المنطق منذ عهد عبد الناصر بعد الهزيمة وتسلمه أنور السادات وبلوره وحمله على عاتقه إلى الكنيست الصهيوني 19 نوفمبر 1977 حين تحدث وصافح وعانق وغرق في حب الأصوات الحرة الإسرائيلية أمثال بيغن وديان وغولدا مائير...إلخ! وحيث وجدنا بيغن بعدها تبلغ به التوبة ويبلغ به الندم حد إقامة المذابح لإبادة اللبنانيين والفلسطينيين على حد سواء حفظا لود الصراع الحضاري والحوار الثقافي بينه وبين أنور السادات.
الأمر الذي يجدر الإشارة إليه بعد هذا كله أن مسرحية «وطني عكا» برسالتها الممهدة للتطبيع مع الكيان الصهيوني لقيت وقت عرضها، عام 1969، احتفاء وتكريما وتدعيما من السلطة الناصرية، إذ حضر العرض خبراء تلك السلطة السياسية وعلى رأسهم ضياء الدين داوود، وحكمت أبو زيد، وشعراوي جمعة، وأبدوا إعجابهم الشديد بالعرض ورضاءهم الكامل عن رؤيته تلك «العقلانية»، بل إن التكريم الأكبر جاء من قبل بعض ممثلي القيادات الفلسطينية الذين قدم «أبوإياد» باسمهم درع المقاومة جائزة تقديرية للمخرج كرم مطاوع والمؤلف عبد الرحمن الشرقاوي عن عملهما ذلك المشوه! ومازلت أذكر أنني ظللت، بعد العرض، أصرخ في وجه أبوإياد: هل تعرف ما معنى: "مقاومة"؟

الخميس، 25 أغسطس 2011

يا سيد أبو هاجر: عبد الناصر ورطنا في هزيمة 5 يونيو 1967، ثم ورطنا في قبول الإعتراف بالكيان الصهيوني حين قبل قرار 242 الذي ينص على حدود آمنة معترف بها لإسرائيل، والتطبيع بدأ في ظله وبتوجيهاته، وهوالذي فرض علينا أنور السادات حين إختاره نائبا له!

أبو هاجر: أنت تغيظني كثيرا وعليك أن تعرف أننا نعرف الرجال بالحق ولا نعرف الحق بالرجال!

الثلاثاء، 23 أغسطس 2011

هذا الشعب المبدع!
يابلادي: لا تخافي ولا تحزني!

كانت هذه صيحتي وأنا أشاهد أحمد الشحات يتسلق الحائط المرتفع لينكس العلم النجس ويمزقه ويلقي به من شاهق لتحرقه جموع المتظاهرين أمام سفارة الكيان الصهيوني في قلب القاهرة مطالبين بإغلاقها وطرد سفيرها.

آه كم عذبنا مشهد ذلك العلم، منذ سافرت إلى السويس يونيو 1967 غير مستوعبة إرتفاعه مغروسا أمامي عند الضفة الأخرى على أرض سيناء، حتى نصرنا الله سبحانه في العاشر من رمضان 1393\ السادس من أكتوبر 1973 ورأينا فرحة جنودنا الأبطال تنزعه ليرتفع مكانه كما يجب علم مصرنا عزيزا على أرضنا المحررة!

لحظة النصر لم يتصوّر أحد أن يظهر هذا المكروه لنراه مرة أخرى مفروضا على إرادتنا الشعبية، حين أعاده محمد أنور السادات على أرضنا وأين؟ في قلب قاهرة المعز لدين الله يوم قرر حضرته برأيه المنفرد إفتتاح سفارة العدو الثلاثاء 26 فبراير 1980!

بعد 39 سنة رمضانية، في يوم مماثل لروعة الإرادة الشعبية  التي طهرت سيناء من رمز المذلة والإنكسار في العاشر من رمضان 1393، يأتي فجر الواحد والعشرين من رمضان 1432\ 21 أغسطس 2011  ليداوينا من جرح الطعنة الجائرة، التي ضربنا بها من أعاد رفع راية الإغتصاب 26 فبراير 1980 في قلب عاصمة مصرنا العزيزة، ويشاء الله تنكيسه بيد مُبدع في الرابعة والعشرين ربيعا من شباب ثورتنا المحروسة بعناية الله جل وعلا: النقاش خريج الصنايع أحمد الشحات حفظه الله ورعاه.

هذا الشعب المبدع يتجلى متناغما متكاملا، من دون سابق موعد أو تخطيط، مع احتياجات الوطن يلبي المطلوب بذكاء وفطنة ببداهة وتلقائية بما يفاجئ ويدهش أصحاب العقليات الحسابية القديمة التي لم تفهم بعد العملية الحسابية الجديدة!

الله يابلادي! هاهي مهارات شعبنا تتوظف للمفيد؛ ولم تعد مجرد أكروبات لماهر يصعد الهرم ويهبط منه في خمس دقائق لتسلية السياح!

الله يابلادي كم غنينا في سنوات القهر بيقين: يابلدي لما يموت ثاير، تطرحي بدله ألفين ثاير، ياحضانة الثوريين، طرحك كله فدائيين!

الله يابلادي، مستعيدة ذكرى "العريف توفيق ذهني خليل حجاج": الجندي المصري المأسور، في يونية 1967، يرفع صوته في أسر العدو الفاجر رافضا المذلة وبيده قطعة حجر، قتلوه نعم لكن بقى أنه رفع صوته برفض الإستسلام وبيده قطعة حجر!

شهيدنا المُخلّد في ذاكرتي مأسورا قال بوضوح: ولو بقطعة حجر لكن لابد! لم يفكر لكنه فعل؛ "العريف توفيق ذهني خليل حجاج": إختار أن يموت حتى لا نذوى!

"أحمد الشحات"، في فجر الأحد 21 رمضان 1432\21 أغسطس 2011، نظر إلى أعلى وحدد الهدف ووظف مهارته و لياقته البدنية ليحقق واحدا من مطالب الكرامة المصرية!

آه يابلادي: لا تخافي ولا تحزني!













الخميس، 18 أغسطس 2011

صلاة الطغاة
 يكثفون صلاتهم، يصلون طيلة الوقت، يهرعون للصلاة في الشدائد يستمدون منها القوة...إلخ.  لا بأس! لكني أهز رأسي تعجبا وأنا أبتسم، رغم أن أخبارهم غير  مكتوبة بصيغة ساخرة، بل الحقيقة أن الصيغة الجادة التي نقلت إلينا هذا الكلام عن أحوال جناكيز  العصر والأوان، هي التي أضحكتني وتذكرت على الفور كلمات للمسرحي الإنجليزي وليام شكسبير (المولود في أبريل 1564 والمتوفي في أبريل 1616) جاءت على لسان الملك "كلوديوس" في مسرحية "هاملت".

 هذا الملك (كلوديوس) قاتل وداعر وفاسد ومن جرائمه العديدة قتله أخاه الملك هاملت (والد الأمير هاملت ) وزواجه المحرّم من الملكة أرملة أخيه، واغتصابه العرش من وريثه الشرعي الأمير هاملت، ولكي يحافظ على مكاسب جرائمه ملأ القصر الملكي بحاشية فاسدة تتولى مهام قذرة من تجسس ومراقبة وخطط لاغتيال الأمير هاملت؛ مع ذلك خطر لهذا الملك الفاسد أن يصلي، متصورا أنه يمكن أن يستحوذ على كل شيء : الدنيا والآخرة. وفعلا أخذ نفسه إلى "حالة" الصلاة وأخذ يبتهل إلى جسده أن يخشع قائلا، بما أترجمه عن النص الإنجليزي على مسؤوليتي:

 "انحنيا يا ركبتي العنيدتين، وأنت أيها القلب، بشرايين من حديد، كن طريا، مثل عضلات طفل وليد".

 لكن لا أمل أمام السفاح "كلوديوس"، المعترف بجرائمه أمام نفسه في خلوته، وقد عددها قائلا:

 "إن جريمتي منتنة، تصل رائحتها إلى السماء،
لا يمكنني الصلاة، رغم أن رغبتي فيها معها إصراري،
 إن إثمي الكبير يهزم إصراري،
 لقد ازدادت يدي سمكا، بدماء أخي،
 هل هناك في رحمة السماوات، الماء الكافي لغسل يدي، وتكون بيضاء كالثلج؟
 ما هي وظيفة الرحمة، إن لم تكن لمواجهة الذنب؟
 لكن أي شكل من الصلاة أقول؟
 هل أقول: اغفر لي يا ربي، جريمة قتلي البشعة؟
 هذا لا يمكن، طالما أنني لا أزال أمتلك الغنائم التي من أجلها ارتكبت جريمتي،
 هل يمكن أن يغفر لي ربي، مع استبقائي لغنائم جريمتي؟
 هذا ممكن في مجريات هذا العالم الفاسد، فمن الممكن ليد الجريمة الثرية أن تزيح العدالة جانبا، وغالبا ما نرى الرشوة الوغدة، تشتري القانون، ولكن الأمر ليس هكذا في السماء، فليس فيها أي إمكانية للتلاعب!،
 آه يا نفسي الملعونة، آه يا صدري الأسود كالموت، آه يا روحي الواقعة في الفخ، تصارع من أجل الفكاك، فتزداد قيودها، النجدة يا ملائكة!"

بنهاية هذه المحاولة الميئوس منها، للصلاة، يعترف المجرم القاتل كلوديوس بالفشل مرددا هذه الحكمة:
"كلماتي تطير، وأفكاري تظل هابطة. كلمات بلا نية معقودة على التوبة، لا يمكن أن تقبلها السماء"!

لقد صار العالم أمامي المرادف للقصر الملكي في مسرحية هاملت، وها هو كلوديوس  وأعوانه: بولونيوس، وجولد نستين، وروزنكرانتس، يديرون معركتهم الماكرة لخداع "هاملت": رمز المقاومة النبيلة ضد الفساد والبغي والجبروت، لكن مهما ركب هذا الطغيان أعلى ما في قدراته من كذب وتضليل فإنه إلى هلاك وكساد.

وقد قالها وليم شكسبير لكل هؤلاء القتلة واللصوص منذ أربعة قرون: "سوف تنالون الخزي بانتصاراتكم الشريرة"!





السبت، 13 أغسطس 2011

سجل لحقوق الإنسان من سبعة قرون

إنه كتاب "معيد النعم ومبيد النقم"، من تأليف تاج الدين السبكي، المولود بالقاهرة عام 727هـ/1326م، في عصر السلطنة الثالثة للناصر محمد بن قلاوون، وتوفى بالطاعون في دمشق وهو في الثالثة والأربعين سنة 771هـ/1369م في سلطة الأشرف زين الدين بن حسين بن محمد بن قلاوون. أهمية هذا الكتاب الآن أنه يعزينا، بلغته المتهكمة على الظالمين، فيما نلقاه ونتصوره من المصائب التي لم تلحق الأولين ولا الآخرين، لكنه يؤكد إلى جانب ذلك ضرورة ألا نيأس من قول ما يجب أن يقال لإيقاظ الغافلين ولله الأمر من قبل ومن بعد.

# حين يضرب تاج الدين السبكي الأمثلة التي تخص سلبيات رجال الحكومة في زمانه، والتي تؤدي إلى زوال النعم يقول: "إن الله لم يوله ـ (أي السلطان) ـ على المسلمين ليكون رئيساً آكلاً شاربا مستريحا، بل لينصر الدين ويعلي الكلمة. ومن وظائف السلطان أن ينظر في الإقطاعات ـ (أي الإمتيازات) ـ ويضعها في مواضعها… فإن فرق الإقطاعات على مماليك اصطفاها وزينها بأنواع الملابس والزراكش المحرمة وافتخر بركوبها بين يديه، وترك الذين ينفعون الإسلام جياعاً في بيوتهم، ثم سلبه الله النعمة وأخذ يبكي… فيقال له يا أحمق أما علمت السبب، أو لست الجاني على نفسك؟ وإن استكثر على الفقراء ما بأيديهم وتعرض لأوقاف وقفها أهل الخير… عليهم فهو بلاء على بلاء… فإن ضم إلى ذلك أنه يبيعها بالبرطيل ويضعها في غير مستحقها فما يكون جزاؤه؟….. وإن أخذ يصرف الأموال على خواصه ومن يريد استمالة قلوبهم لبقاء ملكه وأعجبه مدائح الشعراء لكرمه فذلك خرق، ولقد رأينا منهم ـ (يعني السلاطين والحكام) ـ من يعمر الجوامع ظاناً أن ذلك من أعظم القرب فينبغي أن يفهم أن إقامة جمعتين في بلد لا يجوز إلا لضرورة، عند الشافعي وأكثر العلماء، فإن قال قد جوزها قوم قلنا له: إذا فعلت ما هو واجب عليك عند الكل، فذاك الوقت إفعل الجائز عند البعض، وأما أنك ترتكب ما نهى الله عنه وتترك ما أمر به، ثم تريد أن تعمر الجوامع بأموال الرعايا ليقال هذا جامع فلان، فلا والله لن يتقبله الله تعالى أبداً…". ثم يقول: "… وعليه أن يرفق بأهل القرى ويؤدي أمانة الله التي علقها في رقبته للفلاحين"، ويقول: "… ومن حق البريدي أن لا يجهد الفرس بل يسوقها بقدر طاقتها، وقد كثر منهم سوق الخيول السوق المزعج  بحيث تهلك تحتهم، أفما علموا أنها خلق من خلق الله تعالى؟".

#  ويقول في ناظر الجيش: "ومن قبائح الجيش إلزامهم الفلاحين في الإقطاعات بالفلاحة ـ (السخرة) ـ والفلاح حر لا يد لآدمي عليه وهو أمير نفسه".

#  ويعلن: "… فمن خطر له أنه إن لم يسفك الدماء بغير حق ويضرب المسلمين بلا ذنب، لم تصلح أيامه، فعّرفه أنه باغ جهول أحمق حمار، دولته قريبة الزوال ومصيبته سريعة الوقوع، وهو شقي في الدنيا والآخرة، وإذا أخذه الله لم يفلته… فإن قال حمار من هؤلاء من أين أعرف هذا…… قلنا له: إذا كنت لا تعرف فاسأل أهل الذكر…. وإن عجزت عن الفهم فمالك والدخول في هذه الوظيفة ـ (خادم السلطان) ـ دعها"!

#  ويعود ليوصي بالفلاحين من ظلم جنود السلطان: "…. لو شاء الله تعالى لقلب الفلاح جندياً والجندي فلاحاً، فإذا كان لا يشكر نعمة الله تعالى على أن رفعه على درجة الفلاح، فلا أقل من أن يكفي الفلاح شره وظلمه…".

 #  وعن البنائين: "اللطف والرفق بالبنائين وأن لا يستعمل أحداً فوق طاقته ولا يجيعه، بل يمكنه من الأكل أو يطعمه… وعليه أن يطلق سراحه وقت الصلوات فإنها لا تدخل في الإجارة وما يعتمده بعضهم من تسخير البنائين وإجاعتهم وإعطائهم من الأجرة من دون حقهم واستعمالهم فوق طاقتهم، ومن أقبح الحرمات وأشنع الجرأة على الله في خلقه، وأقبح من ذلك أنهم يعتمدونه في بناء المساجد والمدارس، فليت شعري بأي قربة يتقربون"؟

هل هذه المقتطفات التي اخترتها من كلام تاج الدين السبكي، في كتابه "معيد النعم ومبيد النقم"، أمثلة من وثيقة حقوق الإنسان والحيوان في الإسلام ذكّرنا بها عالم من أهل الذكر، أم هي سجل للجرائم والانتهاكات التي جهر بها في مواجهة الطغاة والبغاة من حكام عصره وكل العصور؟ الإثنان معاً بالطبع.. نعم بالطبع.



الأربعاء، 10 أغسطس 2011

المظلوم أظلم لو سالم  أو سلّم و ماخدش التار!
في الموسم المسرحي 1970/1971، قدم مسرح البالون بالقاهرة عرض مسرحية نجيب سرور «ملك الشحاتين»، بإخراج جلال الشرقاوي. ورغم التشابه الظاهري بين نص نجيب سرور، ونص «أوبرا الثلاثة بنسات» لبريخت، التي أخذها عن مسرحية إنجليزية قديمة اسمها «أوبرا الشحاتين» لجون جاي، إلا أن مسرحية نجيب سرور تختلف عنها اختلافا بينا، في مسار الحدوته، وفي عرض وتوظيف الشخصيات الأساسية للمسرحية، وفي مدلولات الحوار السائد، وإيحاءات المونولوجات الشعرية، ثم في المضمون النهائي للعمل الذي أراد المؤلف لنا أن نخرج به.

في مسرحيته «آه يا ليل يا قمر»، يحدد نجيب سرور ما تعنيه شخصية «الإنجليزي» في مسرحه، حين يقول أحد أبطاله: «اللي ياكل حقنا يبقى إنجليزي، حتى لو كان دمه مصري».

«الإنجليزي» في تاريخنا المصري الحديث كان هو المحتل الباغي الذي يمارس سلب الرزق وسلطة القهر بالظلم والعدوان. ومن ثم، فحيثما ظهرت دلائل وأفعال السطوة والظلم، واتحدت الأهداف والمصلحة مع المحتل، لا تعود الملامح القومية سوى مجرد أقنعة للعدو الذي ما فتئ يسعى ويتخفى ليتمكن من محاصرة الشعوب المكافحة وقهرها من بين صفوفها ومن داخل جسمها. الحاكم الدكتاتور الطاغية، والإقطاعي، والخائن، والعميل، كلهم لهم عند نجيب سرور مرادف «إنجليزي» بمعنى المحتل، العدو، القوة الأجنبية الغازية. ويتأكد لنا هذا التحديد لـ «الإنجليزي» عند نجيب سرور حين يضع في نصه «ملك الشحاتين» شخصية «جورج» الإنجليزي الذي يكسب من وراء فساد قطبي المسرحية «أبو دراع ملك الشحاتين» و«أبو مطوة زعيم الحرامية». «أبو دراع» و«أبو مطوة» مركزا قوة ـ من أهل البلاد ـ يتصارعان حول المنفعة الذاتية والتسلط المستمد على الدوام من مساندة «جورج» المحتل، وهما بذلك أصبحا تابعين لجورج: ينفذان أغراضه، ويلذ له اللهو واللعب بهما مع الاستفادة المستمرة من وراء رغبة كل منهما الإطاحة بالآخر والانتصار عليه ولو بالتنافس في دفع الرشاوى السخية للسيد «جورج».

نعرف أن «أبو دراع» يبني دولته بالاستغلال الذي يمارسه بتجارة الفقر، ونعرف أن «أبو مطوة» يحكم سيطرته بالرعب الذي يشيعه. ويصبح النزاع بين «الاستغلال» و«الرعب» وأيهما يظفر بالمعْلمة على البشر، والحَكَم في هذا النزاع هو «جورج» الذي يرجح أحد الجانبين وفقا لكمية ما يقبضه منهما، وهكذا يكون من المنطقي أن تعلو الصرخة الثائرة في وجه «الرعب» و«الاستغلال» و«المحتل»، هؤلاء «الإنجليز» جميعا؛ «لحد إمتى ح يفضلوا المساجين مصريين والسجانة إنجليز؟».

يقدم نجيب سرور شخصيتي «أبو دراع» و«أبو مطوة» تقديما مركبا: كلاهما يلعب شخصيته الفاسدة، ويدينها في الوقت نفسه ويقوم بدور «المرشد» عن فساده و«المنبه» الموضح لأوجه التلاعب في منطقه الملتوي وطيبته الكاذبة المخادعة. غير أننا نجد أن المؤلف اختص «أبو مطوة» ـ زعيم الحرامية ـ بتوظيف إضافي فيعطيه أحيانا «لسانه» واحتجاجه، فنجد «لأبو مطوة» مونولوجاته المفعمة بالسخط والثورة على الفساد والرعب، المتسبب هو شخصيا بجزء مباشر فيه، إلى أن يصل، بعد كلمات متدافعة متضاربة هستيرية منفعلة ومتهكمة، تبنى بتراكمها المهوش والمشوش عن عمد، حالة ألم محض، نحسه غائراً في القلب. بين قطبي النزاع «أبو دراع» و«أبو مطوة»، هناك «ألماظ»، ابنة الأول التي خطفها الثاني ليتزوجها. «ألماظ» ابنة «الاستغلال» وحبيبة «الرعب»، لكنها مع ذلك هي عند المؤلف خيط التحول إلى الأمل، كيف يكون ذلك؟ لو أننا نظرنا إلى «أبو دراع/ الاستغلال» لوجدنا أنه قرين «الغيبوبة»، فزوجته «نفوسة» لا تفيق من الخمر، وهي كذلك طرف في شركة للتجارة في الرقيق الأبيض مع «لواحظ» صاحبة بيت للدعارة والزوجة الأولى لـ«أبو مطوة/ الرعب»، فتصبح الدائرة المتحدة، كما تصورها المسرحية، هكذا: «الاستغلال» + «الغيبوبة أو فقدان الوعي» + «الدعارة» + «الرعب»: هي أصابع «جورج/ الاحتلال» المكتملة المطبقة على عنق الشعب المسجون. حين تتجاذب الأحداث «ألماظ» وترى حدة التناحر بين والدها وزوجها تكتشف رويدا رويدا أطراف الدائرة وترى بوضوح يقظ أن قبضة «جورج» القوية الضاغطة على عنق بلادها، ليست سوى تجميع للاصابع المنحرفة من أهلها، وتعلو أغنية المساجين لتملأ أذني «ألماظ» بالوعي والتطهير المتعاظم: « يا لابسين الجوانتي إديكو فيها الدم، هي استغماية ولا دي التلات ورقات؟». ويكون متوقعا أن تتناهض «ألماظ» ابنة الدائرة المظلمة، وتتعاون مع المظلومين وتغني شعارها: «البادي بالعدوان ظالم، والظالم بالعدوان بادي، والمظلوم أظلم لو سالم، أو سلم وما خدش التار». وحين يعود النزاع بين «أبو دراع» و«أبو مطوة»، يكون الرد الحاسم: «لا أبو مطوة ينفع ولا أبو دراع!».




       




السبت، 6 أغسطس 2011

الشهيد سيد قطب  صاحب رسالة الشاعر ومهمته في الحياة

لم يتيسر لي معرفة تراث الشهيد سيد قطب الثقافي والفكري والعلمي، الا بعد استشهاده بسنوات، وكنت قد قرأت كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، الذي أصدره عام 1947 في العهد الملكي، مترجما إلى اللغة الانجليزية حين وجدته، قدرا، في مكتبة نيويورك، وأنا أبحث عن مراجع لبعض مواد دراستي في المسرح. وكان ذلك عام 1965، وكان اسم سيد قطب كفيلا بإلقاء الرهبة في القلب والاحساس بالخطورة، ذلك لأنني من الجيل الذي ومنذ وعي، لا يعرف اسم سيد قطب الا متهما ومدانا وراء القضبان. أمسكت بالكتاب اقرؤه لأعرف أبواب الخلل في فكر هذا المتهم بالتخريب والارهاب والتآمر على أهداف «ثورة يوليو 1952»، والتي كما كانوا يقولون، تسعى لتحقيق «الاشتراكية العربية» الرامية الى «العدالة الاجتماعية». لم أصدق عيني ودعوة الكتاب منذ 1947 تندد بالظلم الاجتماعي، وتؤكد ضرورة صياغة «اشتراكية» نابعة من العقيدة الاسلامية. أدق بيدي على صفحات الكتاب وأقول لأصدقائي: هذا رجل نطق بكلمة العدالة الاجتماعية في العهد الملكي، وقت أن كانت الاشتراكية تعد من مفرادت الكلمات القبيحة! لم افهم بتاتا كيف يمكن لمثل هذا الكاتب أن يكون «هو» من أعداء «أهداف» يوليو 1952، وكيف يمكن أن يكون متآمرا على مصالح شعبنا الفقير، بينما كنت أرى أمامي موفدين من قبل نظام الحكم الناصري يبعثرون «العملة الصعبة» في تفاهات وشراء سلع استهلاكية، يعودون بها من «أمريكا» إلى أرض الوطن المزروعة بلافتات الصراخ ضد الامبريالية الأمريكية.

في 7 أغسطس 1966، عدت إلى مصر بعد غيبة ست سنوات متواصلة، قضيتها في الدراسة والعمل بالولايات المتحدة، ذهبت بعدها بأيام أتفقد اصدقائي أسلم عليهم، وكان من بينهم الكاتب أحمد بهجت بمبني الاهرام القديم، بشارع مظلوم بباب اللوق، وجدته واجما يهمس: «اليوم تم تنفيذ حكم الاعدام في سيد قطب»، لعله كان يوم 20 أغسطس 1966، بلعت غصتي، وتذكرت مآسي ومحن السابقين من الكتاب والمفكرين والمجتهدين، الذين نكل بهم الطغاة الأغبياء الجهلة: تذكرت ابن حنبل، وابن المقفع، وتاج الدين السبكي والكثير غيرهم من المعروفين أو المجهولين، في قوائم وسجلات أمة الإسلام المليئة بوجع القلب.

ظلت كتابات سيد قطب ممنوعة ومحظورة طوال المرحلة الناصرية من 1954 حتى 1970، لا تتوفر قراءتها لجيلي ـ من مواليد الثلاثينيات ـ حتى جاءت مرحلة حكم أنور السادات، حين بدأت ـ تدريجيا ـ السماح لدور النشر بالإفراج عن عمله الموسوعي الجليل في تفسير القرآن الكريم «في ظلال القرآن»، الذي مكنه الله سبحانه وتعالي بما يشبه المعجزة، من تنقيحه ومراجعته وزيادته، قبل استشهاده في ظروف المرض والتعذيب والآلام المبرحة في سجنه الطويل، حتى بلغ اكتماله الحالي ليصل الي ستة مجلدات بلغ مجموع صفحاتها 4012 صفحة، ثم اتسعت الانفراجة وتدفقت مؤلفات سيد قطب.

رغم أن مرحلة حكم السادات كانت بالنسبة لي شخصيا، سنوات قحط وظلم وعسف، ذقت فيها الحرمان من النشر، الذي استمر 12 سنة كاملة، مع الاعتقال وتلفيق القضايا الوهمية والاتهامات الجائرة من أغسطس 1971 حتى 25 مارس 1983، إلا أنني اشكر لتلك الحقبة الساداتية أنها مكنتني من قراءة مكتبة سيد قطب كاملة والحمد لله، وأذكر حينما انتهيت من إتمام قراءة «في ظلال القرآن»، الذي أعود إليه كثيرا، أنني كنت متعجبة من البشاشة والهدوء وأجواء السلام، التي تنبعث من سطور تلك المجلدات، كأنها لم تكن مكتوبة من وراء قضبان، ولا في وقفات الاستراحة الخاطفة بين وجبات التعذيب، ودورات التحقيق وظلمات الظلم.

وكان ما استلفت اهتمامي كتيبه الجميل تحت عنوان: «مهمة الشاعر في الحياة»، الذي صدر في الطبعة الأولى عام 1932، واقتنيته في مايو 1975، ويقع في 98 صفحة، في طبعة دار الشروق، وقدم له الدكتور محمد مهدي علام أستاذ التربية بدار العلوم بكلمة مؤرخة 28 فبراير 1932، وهذا يعني أن سيد قطب نشر هذا الكتيب، وهو لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره.
.
يبدو كتيب «مهمة الشاعر في الحياة»، كأنه عريضة دفاع عن الشعراء الجدد عام 1932، وتبشير بنهضة جيل من الشباب، يحرث أرض الشعر ويسقيها الحيوية والعافية، ولكنني بعد كل هذه السنوات، وعلى ضوء كل كتابات سيد قطب وملحمة حياته وقلمه حتى استشهاده، أجده الخريطة الكاشفة لمهمة سيد قطب في الحياة، والتي حددها لنفسه منذ البداية واستقام عليها، نافية ما ظنه البعض من تحولات وتغيرات وانتقال. يقول سيد قطب في تقديمه للكتيب: «هذا مجهود ضئيل صغير الحجم، أعد ليكون محاضرة فحسب.. والذي أريد أن أقوله في مقدمة هذا المجهود الضئيل الصغير الحجم: أن أهم ما فيه اقتناعي بما فيه، اقتناعا كاملا متغلغلا في نفسي، حتى لهو جزء من عقيدتي، أدافع عنه كما يدافع كل مؤمن عن عقيدته.. ».
 
وبعد ان يتكلم عن: من هو الشاعر، الخيال في الشعر، ذوق الشاعر، التعبيرات الشعرية، شخصية الشاعر، ينهي كتيبه بكلمات غاضبة لاسعة تقول: «.. لاحظتم في كل النماذج التي أخذناها لشعرائنا الناشئين لمحة من البؤس الصامت أو الصارخ، وبعضكم يعجب بهذه الظاهرة المتشائمة الشاكية.. ولكن ذلك في نظرنا دليل صدق هؤلاء الشعراء وسلامة فطرتهم، فهم صورة من النفسية المصرية العامة في هذه الفترة.. مدوا أبصاركم في كل نواحي الحياة المصرية ألا ترون التصادم بين القوى الناشئة والظروف المحيطة التي تناوئها مناوأة قاسية؟ ألا تسمعون الصيحات داوية بالألم والاستنكار من كل جانب؟ فعلام اذن لا يكون كذلك الشعر؟.. علام يغرد الشعراء بأناشيد الفرح والمراح، وكيف تدب روح النشاط الطروب في الفنون؟ انتصرنا في موقعة حربية على جيوش الأعداء؟ افتحنا في العالم فتحا جديدا؟ لا.. أحصلنا على استقلالنا المغصوب؟ أنتنفس بحرية في أي جو من الأجواء؟.. كل ما في البلد جدير بالشكوى وكل ما فيها يلذع بالألم.. وإن التألم والشكاة لدليل عدم الرضاء، ودليل السعي لتغيير هذه الحال.. ولو إن هذه الشكوى الدائبة صمتت اليوم أو انقلبت الى لهو ومراح، لكان ذلك دليلا على الموت والاضمحلال.. إن الذين يهزلون اليوم أو يغنون ويمرحون هم أحد فريقين: فريق أناني مجرم لا يعنى بهذه الأمة، ولا يحفل بآلامها لأنه في ظل نعمة.. وفريق ميت الوجدان، ذليل الكرامة، لا تنبض به حياة إلا كالدواب والجراثيم...».

كتب سيد قطب هذه الكلمات ونشرها في ظل حكم الملك فؤاد الأول، وتحت وطأة الاحتلال الانجليزي في العام الذي توفي فيه الشاعران حافظ إبراهيم وأحمد شوقي، واستغرق مشواره في الحياة 60 عاما، الا 51 يوما ما بين يوم مولده في 9 أكتوبر 1906 في قرية صغيرة من قرى صعيد مصر اسمها «موشا»، تقع في زمام محافظة أسيوط، حتى يوم 20 أغسطس 1966 حين قدم عنقه قربة لوجه الله  ليلتف عليه حبل مشنقة ظالمين جبارين، من «دون تلعثم أو تحرج» على حد تعبير له كتبه في واحد من مقالاته التي نشرها في 2 أغسطس 1951 .