الأحد، 31 يوليو 2011

محمود درويش

حين خرج محمود درويش من حصاره في الأرض المحتلة ودخل القاهرة مطلع 1971، بعد هزيمة 5/6/1967 وبعد وفاة عبد الناصر 28/9/1970، لتكون أول مدينة عربية يراها ويسمعها ويمشي في أسواقها، كانت القاهرة قد عرفته من كتابات غسان كنفاني أولا، التي حرص أحمد بهاء الدين على نشرها بمجلة «المصور»، وكان أحمد بهاء الدين هو الاحتضان المصري الأول والمخلص لمحمود درويش، وقد أطلق عليه وصفه بـ«فلذة الكبد»!

غسان كنفاني هو صاحب البحث والمصدر الأول لإذاعة أنباء وأخبار وأبيات «شعراء الأرض المحتلة». «شعراء الأرض المحتلة»، كان مصطلحا جديدا سمعته لأول مرة من فم غسان كنفاني مطلع عام 1967، قبل هزيمة 5/6/1967، حين كنت في بيروت أحضر مؤتمرا أدبيا، لعله كان الآسيوي الأفريقي، ودعاني غسان كنفاني لتمضية يوم عائلي مع زوجته الوفية آن وأطفاله، جلس غسان يتكلم ونحن نتناول طعام الغداء، نحن نأكل وغسان يتكلم فرحا بشوشا متوقدا بالبلاغة والحماسة والتأثر، حول بحثه وكشفه ووسائله الفدائية ليحصل على قصائد «شعراء الأرض المحتلة»: محمود درويش، مولود في 13 مارس 1942، وزميلاه سميح القاسم، وتوفيق زياد.

كان غسان يقول بفخر إنهم البرهان المادي لمقاومة الفلسطيني الذي ظل على أرضه ولم يبرحها منذ اغتصابها عام 1948، لم ينس اللغة ولم ينس الحق ولم ينس... إلخ. وظل غسان يعدد مناقب الذين لم يبرحوا الأرض ويحكي كيف حاكم هو والده بقوله: لماذا تركت وكيف تحملت الرحيل، وكيف، وكيف؟

كان غسان مفتونا بقصيدة محمود درويش «سجل أنا عربي»، وكنت أنا منبهرة بقصيدته الأخرى: «يا وجه جدي/ يا نبيا ما ابتسم/ من أي قبر جئتني/ لتحيلني تمثال سم/ الدين أكبر/ لم أبع شبرا/ ولم أخضع لضيم/ لكنهم رقصوا وغنوا/ فوق قبرك فلتنم/ صاح أنا صاح أنا/ صاح أنا حتى العدم». مازلت أحفظ القصيدة من لسان غسان وهو ينشدها على أذنيّ، وقتها: لم تكن المسألة عنده وعندي مسألة شعر فحسب، وإن أطربنا وإن أذهلنا بجماله وقوته وصدقه ونبضه، لم نفكر لحظة في محاكمته بميزان النقد البارد، كان الأمر بالتحديد يتماثل مع فرحة من عثر على بقية أهله أحياء تحت الأنقاض، لذلك لم أفهم ولم أقبل ما حاوله محمود درويش، بعد ذلك بسنوات، تعديل مشاعرنا بصيحة: «أنقذونا من هذا الحب القاسي»، طالبا نقدا يتعامل مع المستوى الجمالي لشعره وشعر «الأرض المحتلة»، فلم يكن من حقه تصور أن «شعراء الأرض المحتلة» كانوا ظاهرة وجدنا فيها تعويضا معنويا عن هزيمة 5/6/1967، كما جاء في كلام له نشرته «الأهرام» 19/2/2008.

كان فرحنا بشعرهم قد سبق هزيمة يونيو، وكان الزمن السابق لهزيمة يونيو لا توجد به أية توقعات لهزيمة كالتي جرت.

الذي أذكره أنني أخذت محمود درويش، حال وصوله إلى القاهرة 1971، من نزله بفندق شبرد، ودعوت عبد الرحمن الأبنودي ليصاحبنا إلى شارع الغورية، آملة أن ألقي بمحمود درويش في أحضان الشعب المصري، بعيدا عن الدائرة المغلقة التي حاولت أن تضرب حوله سياجا من العزلة، بزعم الحرص والحماية، وقد تسببت في أن توغر صدر بعض شعراء مصر النابغين المفلسين الجالسين على مقهى ريش يؤيدون منطق نجيب سرور الساخر: «اشمعنى محمود درويش مدلل في فندق شبرد، طب ما احنا كمان شعراء الأرض المحتلة»!

ترك محمود درويش القاهرة بعد 15 مايو 1971 وعاد إليها زائرا في مناسبات لم تتح له إلا بعد رحيل محمد أنور السادات، وكانت القاهرة، كعهدها، تستوعب كل شيء!



هناك 4 تعليقات:

  1. بوست جميل


    كل عام وانتى بالف صحة وسلام

    ردحذف
  2. تدوينة رائعة..مشبعة بالتفاصيل والذاكرة
    سلمت يداك

    ردحذف
  3. محمود درويش غادر القاهرة فى منتصف عام 1972 بعد أكثر من عام كامل على أحداث 13 مايو 1971.

    ردحذف