الخميس، 7 يوليو 2011

مقالي المنشور بمجلة الدوحة عدد يوليو 2011

من سيرتي التي على لساني

كانت معلمة الجيل الأستاذة نبوية موسى قد كتبت سيرتها الذاتية بعنوان: "تاريخي بقلمي"، فقلت لنفسي لو أني كتبت يوما شيئا من سيرتي لأخترت عنوان: "سيرتي على لساني"، مع أنني لست جادة في إنجاز هذا الأمر، اللهم إلا مايستحق ذكره بين حين وآخر عندما تلفق عني الحكايات وتتكاثر معها الأكاذيب أو تسقط المعلومات في عدم الدقة. 

من باب الحيطة أرجع إلى مناسبة زواجي من الشاعر الفاضل أحمد فؤاد نجم الذي تم يوم 24\8\1972، بعد عام من صدور منعي من النشر 1\8\1971 بقرار من يوسف السباعي في بداية حكم محمد أنور السادات، ذلك المنع الذي إستمر 12 سنة.

قال نجم "تزوّجيني" فقلت "موافقة"؛ كان ذلك في أول لقاء لنا 31\7\1972. بين لقائي هذا الأول وعقد القران 24\8\1972 التقيت به ما لا يزيد عن أربع مرات فحسب فقد كانت معرفتي بشعره ومواقفه ضد المستبدين كافية لي. الذي شد أزر قراري بالموافقة هو موقف المعارضة الشديدة التي واجهت ذلك القرار، ليس من جانب أمي وحدها رحمها الله، ولكن من أصدقائي وصديقاتي، الذين تعجبت من اندهاشهم وحثي على الرفض رغم حماسهم البالغ للشاعر المناضل ولفنه المذهل مع صاحبه الموسيقي الملحن المغني الشيخ إمام عيسى. كنت كلما لاقيت نصحا بالرجوع عن الزواج من نجم تزداد مسؤوليتي بضرورة وواجب الإسراع نحوهذا القران. لم تكن الحكاية قصة غرام  بيني وبينه، كما يحلو له أن يقول، لكنها حكاية لا يصدقني فيها أحد لأنها كانت موقفا شعريا مني يفوق في جمال دوافعة حكايات الحب المعتادة بين الرجال والنساء. كنت قد انتهيت من قراءة سيرة حياة الشاعر البطل الوطني "عبد الله النديم"، "العودة إلى المنفى" التي كتبها الأديب الأستاذ أبو المعاطي أبو النجا. بين كل سطر وآخر أجد فيه عبد الله النديم واقعا في مأزق أو أزمة أو إفلاس أو جوع، مخذولا مطاردا محاصرا أبكي وأقول: لو كنت أعيش زمنك لنهضت أفديك يا عبد الله النديم! لذا لم يكن غريبا حين وجدت أحمد فؤاد نجم يسير إلى جانبي، مخذولا مطاردا محاصرا، يطلبني للزواج أن أتنبه: هاهو الشاعر الشجاع صنو عبد الله النديم خارج لتوه من المعتقل منفي داخل الوطن، والناقد غالي شكري أمام باب "الأتيـليــه"، 31\7\1972، يقول لي وللشاعر المسرحي نجيب سرور: "المباحث ألغت ندوة إمام ونجم"، فيئز الغضب في صدري وأقول لنجيب: لا بد أن نذهب إليهما حالا لنعلن تضامننا معهما، يوافقني نجيب ويصحبني إلى الغورية ومنها نخترق الحارة والعطفة إلى حوش قدم ونصعد السلم المعتم لأجد نفسي في غرفة مكدسة باللوحات والألوان، تخص صاحب الغرفة الفنان التلقائي محمد علي، وهو الضلع الثالث في هذا الكيان الفني، والشاعر النحيل يجلس على شلتة على الأرض وأمامه على الأريكة الخشبية المغني الملحن الضرير يحتضن عوده. يتم الترحيب المتبادل وأجتهد لكي أعبر لهما باختصار عن عمق احترامي وإجلالي لهما ولفنهما الباسل من دون أن أنزلق إلى المستهلك والركيك. كنت حزينة متألمة وجادة، وعائدة منذ شهور من أداء فريضة الحج وأخذ العهد أمام الله سبحانه برجم الشياطين أينما أطلوا برؤوسهم بأشكالها المختلفة. أعجبني من الشاعر والشيخ أنهما كانا ضاحكين لا مباليين كأنهما لم يكابدا أي لسعة من لسعات الشقاء. لم ألبث طويلا وحين تهيأت للذهاب أصر نجم على توصيلي إلى شارع الأزهر وكان قوله المفاجئ التلقائي: "ماتتجوزيني"!، داهمني للوهلة الأولى إحساس بالورطة آذيت بسببه نفسي باللوم: "أفندم يا ست صافي؟ كنت تبحثين عن عبد الله النديم لتفتديه، وهاهو أمامك بشحمه ولحمه؛ الشاعر الذي يعطي ولا يأخذ، الذي كلما إشتد ساعده في العمل كان أجره السجن والإعتقال والتجويع، الشاعر الذي صاح في زمن الكبت والخرس بعد هزيمة 5\6\1967: "قول الكلمة عالي بالصوت البلالي، قول إن العدالة دين الإنسانية"، وتنفيذا لذلك قال قصيدته في عصر البطش الغاشم التي كلفته سجنا كان مفترض أن يكون مدى الحياة فشاء الله أن يكون مدى حياة الآمر به: "كفاية أسيادنا البعدا عايشين سعدا بفضل ناس تملا المعدة وتقول أشعار، أشعار تمجد وتماين حتى الخاين وإن شاالله يخربها مداين عبد الجبار"، الشاعر الذي بحق لم يبع شبرا ولم يخضع لضيم، واستمر لومي لنفسي على هذا المنوال حتى وصلت إلى: هذا الشاعر يحتاج لمن يعتني به ويحافظ عليه ويرممه؛ يقص أظافره (عانى نجم من ذلك بالذات كثيرا!)، ويأخذه لطبيب العيون لأنه يحتاج نظارة قراءة، ويحضر له كمية هائلة من الصابون والفنيك وفرشاة مسح بلاط وتنظيف المكان كل أسبوع على الأقل، يحتاج لسرير ومرتبة ووسادة، وطعام وفق نظام غذائي متوازن، هذا شاعر النبض الشعبي وضعه الله أمانة في عنقك ياست صافي ناز، إذا كنت حقا مستعدة للفداء كم تزعمين!

بعد زواجنا مباشرة صدر أول ديوان شعر لنجم في بيروت كتبت فريدة النقاش مقدمته تقول فيها: ".........ولقد تزوج أحمد فؤاد نجم أخيرا من الصحفية صافي ناز كاظم وهو يحاول ألا يؤثر هذا في علاقته بالغورية وبالشيخ إمام..."، بما يفيد طبعا أنني بغطائي لشعرى وفقا لإلتزامي الإسلامي مؤثر ضار على المسيرة "التقدمية" للشاعر من وجهة نظرها الماركسية. ضحكت وقلت: أهكذا إذن يافريدة؟ ما كان قصادكم رايحين جايين تسمعوا مجانا وتسجلوا ببلاش وكله يروّح ينام في بيته الدافئ على سريره المريح والشاعر والشيخ في إطارهما "الفولكلوري" أو "الكادح" كما ترغبون!

لم تلبث الأحداث أن تطورت ودخل نجم السجن بعد زواجنا بأربعة أشهر 29\12\1972، ومعه الشيخ إمام ومحمد علي الرسام، وشاركت في إعتصام طلبة جامعة عين شمس يناير 1973 إحتجاجا على كذب شعارات الديمقراطية التي رفعها أنور السادات. كانو طلبة وكنت صحفية كاتبة ناقدة ممنوعة من النشر، ذهبت إلى إعتصامهم أقول إنني لا أملك أن أساندهم بقلمي ولذلك فإنني بانضمامي إلى إعتصامهم السلمي، الذي هو حق من حقوقنا الدستورية، أكون قد قمت بواجبي الصحفي الشريف. إستمر الإعتصام بقصر الزعفران في قلب الجامعة من أول يناير 1973 حتى التاسع منه عندما إقتحمته قوات الأمن المركزي بقيادة اللواء أحمد رشدي، وتم القبض عليّ مع الطلبة والطالبات بتهمة الإندساس والتسلل إلى صفوف الطلبة لإثارتهم وتحريضهم على قلب نظام الحكم ـ ( في المعتقل كنت أنادي الطالبات مزاحا: يابنات في تفتيش إللي قالبة نظام الحكم تعدله فورا!).

في المعتقل تبين لي أنني أنتظر حادثا سعيدا وجاء الإفراج عني في شهر حملي الأخير، ليرزقني الله بإبنتي الغالية نوارة الإنتصار أحمد فؤاد نجم، في فجر اليوم الثالث من معارك تحرير سيناء 8 أكتوبر 1973، وليكرمني الله بجعلها من الملايين الذين شاركوا في نصرة ثورة الشعب المصري 25 يناير 2011 بميدان التحرير.

هناك تعليقان (2):

  1. سيرة عطرة لمناضلان ضد الظلم

    انجبا مناضلة صغيرة

    تحية لثلا ثتكما

    ردحذف
  2. محاربة الظلم نضال لا يندم صاحبه اذا أفنى عمره فيه

    ردحذف