الأحد، 3 يونيو 2012


حتى المتخاذل يثير الشفقة

فقط منذ بداية السبعينيات أصبح من الممكن أن آخذ راحتي في الكلام مع سائق التاكسي؛ إذ كان من المنصوح به في الستينيات عدم الثرثرة مع حضرته لأن هناك احتمال ألا يكون حضرته حضرته ونروح، وفقا للتعبير الستيناتي، "في أبو نكلة".

الغرض؛ كانت علاقتي بالمواصلات العامة قد انتهت منذ صرخ بوجهي سائق الأتوبيس الذي كنت أركبه: "إن ماكانتش سواقتي عاجباك انزلي خدي تاكسي!" ذلك بعد أن قلت له: " على مهلك أنت سائق أتوبيس مش بسكليت"!  من ثمّ لم يكن هناك مناص  سوى استخدامي التاكسي كلما توّفر بالطريق وتوفرت لدي أجرته التي لم يضبطها أبدا عدّاد سابقا ولاحقا.

وأذكر درسا في الفلسفة الغريبة حاضرني فيها سائق تاكسي ركبت معه مطلع 1974، إذا لم تخني الذاكرة التي أحب خيانتها، بمناسبة سؤالي له حول إضراب لسائقي التاكسي بسبب شأن نسيته إذ قلت: "لماذا لا تشارك زملاءك الإضراب؟" فرد قائلا: "لأن الإنسان يجب ما يكونش أناني!"، قلت: "ماعلاقة هذا بسؤالي؟"، قال: "أنا لي رغبة في المشاركة لأن الإضراب سليم ومعانا حق ولازم الإضراب، لكن أنا لي أم وزوجة وأولاد فهل من الواجب أن أضحي بمصلحتهم عشان مزاجي ورغباتي؟ أوقف حالهم وأشارك في الإضراب؟ يا ستي: الإنسان لازم مايكونش أناني!". نظرت إليه؛ كان جادا جدا، عاقلا جدا، حزينا جدا إلى درجة تقترب من مقطع أغنية عبد الوهاب: "ضحيت هنايا فداه إشهد عليه يا ليل.............". ضحكت حتى دمعت عيناي، إلتفت إليّ بغضب: "بتضحكي على إيه؟"، قلت: "تبريرك للنذالة دمّه خفيف!". هز رأسه بسماحة المُضحين وتمتم بصوت خفيض: "أنا عارف إنك مش ح تفهميني، كمان زمايلي مش فاهميني وبيقولوا عليّ كلام وِحِشْ...."، ثم زفر زفرة حارة لايمكن أن تعبر عنها سوى كلمات الشاعر ت. س. إليوت من قصيدته الشهيرة: "أغنية حب ج. ألفريد بروفروك": "فلقد عرفتها كلها، عرفتها كلّها؛ عرفت الليالي، والأصبح، والعصاري، وكيّلت حياتي بملعقة القهوة...........".

صحيح أنني لم أقتنع بوجهة نظره لكنني قدّرتها وعرفت أن حتى المتخاذل يمكن أن يثير الشفقة!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق