الاثنين، 2 ديسمبر 2013

   
سفور وحجاب 

 في عام 1980 كانت هناك حملة مكثفة للهجوم على ظاهرة عودة المرأة المصرية المسلمة إلى الالتزام بالزي الشرعي، الذي حددته العقيدة الإسلامية ـ وهو في حده الأدنى الذي لا يظهر منه سوى الوجه والكفين. كانت الحملة شديدة وجارحة ومليئة بالمغالطات، أو عدم الفهم، بسبب أقلام لأقوام لم يراجعوا كتابهم ـ «القران الكريم» ـ منذ وقت طويل، فطال عليهم الأمد وأصبحوا مسلمين بشكل غائم، فاستقطبتهم أفكار غير إسلامية تطرفوا في الانجذاب إليها فتبلبل وجدانهم الإسلامي وأصيبوا بالتطرف خارج الإسلام والعياذ بالله. في ذلك الوقت كنت ممنوعة من النشر، لكنني لم أكف عن الكتابة، فبدأت في كتابة ردود على تلك الحملة ـ التي رأيتها جائرة ـ تحت عنوان «في مسألة السفور والحجاب». وكنت أفهم أن مصطلح «سفور» و«حجاب» لا يعنيان المعنى الذي تداولته الحملة، فمعنى «سفور» هو كشف الوجه ومعنى «حجاب» هو التغطية الكاملة لبدن ووجه المرأة. كانت حملة «السفور» في مطلع القرن العشرين لا تعني «ضرب» الالتزام بالزي الشرعي الإسلامي، بقدر ما كانت تعني تعديل صورة هذا الالتزام المطلوب شرعا. ولذلك فكل أدبيات معركة «السفور» و«الحجاب» كانت لا تمس الأمر القرآني الذي يلزم المسلمة بكشف الوجه والكفين فحسب مع ستر سائر بدنها، لكن كلمة «السفور» تبدلت بغياب الوعي لتعني الأحقية في ارتداء العاري حتى لباس البحر المسمى بالبكيني. وأصبحت كلمة «محجبة» تطلق على كل من ارتدت غطاء الشعر ولو كان معه الجينز اللاصق. واخترعوا كلمة «منقبة» لتعني التي تحجب وجهها. على أرضية هذا اللّبس، المقصود وغير المقصود، دارت أدبيات الهجمة الشرسة على الزي الشرعي للمرأة المسلمة، وزعق كل زاعق بكلمتي «سفور» و«حجاب» بعيدا عن الدلالة الحقيقية لهاتين الكلمتين.

حاولت في ردودي 1980 أن أنبه إلى ذلك الالتباس. انغمست في قراءة الأعمال الكاملة لقاسم أمين في نسختها الصادرة سنة 1976 تحقيق الدكتور محمد عمارة، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. حصيلة هذه الردود تجمعت لدي، بعد أن تمكنت من نشر بعضها بمجلة «المختار الإسلامي» نهاية 1980، ورأيت أنه من المصلحة نشرها كراسة صغيرة لم تتعد 48 صفحة. لم يلب أي ناشر طلبي في نشرها بلا مقابل، حتى قادتني أقدامي لمكتبة الحاج وهبة حسن وهبة بشارع الجمهورية بعابدين. كان الحاج وهبة، رحمة الله عليه، طيبا في لقائي من دون سابق معرفة. رغب في أن أمهله يوما لقراءة الكراسة ثم سألني بعدها: ما هي طلباتك؟ قلت: لا شيء سوى أن تتكفل بطبعها ونشرها وتوزيعها على نفقة المكتبة. وتم ذلك.
 كانت الكراسة تتضمن فصلا عن «قاسم أمين» يحتوي رأيي في كتابته وأسلوبه واكتشافي أنه لم يكن مشغولا أبدا بتحرير المرأة فقضيته الأساسية كانت الدعوة إلى: «محاكاة أوروبا». ـ كانت الكراسة تباع في طبعتها الأولى، 1981، بثلاثين قرشا فقط لا غير ـ وكنت أعطيها مجانا للأصدقاء والأعداء والقراء والكتاب، ويبدو أن بحثي في كتابة قاسم أمين قد أعجب البعض فصار ينقله نقلا منسوبا لنفسه من دون أي إشارة إلى كراستي كمصدر منقول عنه. وكانت هذه التصرفات تدهشني خاصة عندما تصدر عن مؤيدين لوجهة نظري، أي من الغيارى على مبادئ الإسلام وقوانينه وقيمه.

بمراجعتي الآن لكراستي «في مسألة السفور والحجاب»، بدت لي لغتي منطلقة كالرصاص، وكانت هذه اللغة بصياغاتها واختياراتي لألفاظها العنيفة تعبر عن مدى الغيظ الذي كان يسيطر علي بسبب تلك الحملة التي كانت تحط من قدر الالتزام والملتزمات بالزي الشرعي.

كنت أرد العدوان الظالم: أخمش من يخمش، وأجرح من يجرح، وأصد اللكمات والركلات بمثلها. بعد سنوات من تلك المعركة التي لم تنته حتى الآن، لم يتغير موقفي ولا رأيي، وإن رأيت أن تهدأ لهجتي، وتتكلف لغتي الرفض الوقور لقاسم أمين ـ 1863/1908 ـ بصفته ممن أسهموا بجدارة في التواء النهضة المصرية عن انبعاثها العربي الإسلامي الإبداعي لتكون نهضة ثقافية اجتماعية محاكية مستهلكة لإنتاج مصانع الفكر الغربي ونافذة عرض دعائي له: يدعو بحماس تترقرق معه دموعه لتقليد رجال الغرب ونسائه ونظام معيشته فيقول في كتابه «المرأة الجديدة»، الذي ألفه في أغسطس 1900: «نحن لا نستغرب أن المدنية الإسلامية أخطأت في فهم المرأة وتقدير شأنها، فليس خطؤها في ذلك أكبر من خطئها في كثير من الأمور الأخرى.. » حتى يصل بقوله إلى: «والذي أراه أن تمسكنا بالماضي إلى هذا الحد من الأهواء التي يجب أن ننهض جميعا لمحاربتها، لأنه ميل إلى التدني والتقهقر.. هذا هو الداء الذي يلزم أن نبادر إلى علاجه، وليس من دواء إلا أننا نربي أولادنا على أن يعرفوا شؤون المدنية الغربية ويقفوا على أصولها وفروعها وآثارها..» ـ يعني لا بأس بماضي الغرب الذي يجب أن نعرف أصوله أما أصولنا العربية الإسلامية فهي من الأهواء التي يجب محاربتها.. إلخ ـ ويكون حلمه: «.. إذا أتى هذا الحين، ونرجو ألا يكون بعيدا، انجلت الحقيقة أمام عيوننا ساطعة سطوع الشمس، وعرفنا قيمة التمدن الغربي..» ـ أنظر، قاسم أمين، الأعمال الكاملة، تحقيق دكتور محمد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر سنة 1976، ج/2 ص/209.  

***

كانت ملك حفني ناصف ـ 1886/1918 ـ من المعاصرات لقاسم أمين والرافضات لفكره، الذي كانت تشير إليه بقولها «الدعوة القاسمية»، فملك حفني ناصف من رائدات تحرير المرأة المصرية انطلاقا من أرضيتها العقائدية الإسلامية وثقافتها العربية، ولعلها كانت من الأوائل الذين روعهم المزج الماكر الذي ربط تحرير المرأة المصرية المسلمة بضرورة تخليها عن أصول عقيدتها وتراثها.



***

الأعمال الكاملة لقاسم أمين، تحتوي على جزءين، يضم الجزء الأول منها: كتاب «كلمات»، مقالات «أسباب ونتائج»، مقالات «أخلاق ومواعظ»، كتاب «المصريون»، مترجما، رده على «دوق داركور»، كتبه قاسم أمين عام 1894 بالفرنسية، خطاب «إنشاء الجامعة»، خطاب «الإمام محمد عبده أخلاقه وفضائله وإمامته». ويضم الجزء الثاني كتابيه: «تحرير المرأة»، صدر 1899، و«المرأة الجديدة» صدر 1900.

قراءة الأعمال الكاملة لقاسم أمين في وجبة واحدة، لا تترك المجال للتردد في الحسم بأن كل ما كان يعني قاسم أمين ليس سوى «التغريب»، الدعوة السافرة لاتباع الغرب في كل أحواله بعيدا عن الإسلام ومدنيته، فيقول في كتابه «المصريون» وهو بصدد «الدفاع» عن مصر ما يلي نصه: «.. ولهذا كان أمامها ـ أي مصر ـ طريقان: العودة إلى تقاليد الإسلام أو محاكاة أوروبا، وقد اختارت الطريق الثاني.. إنها قد خطت اليوم بعيدا في هذا الطريق حتى ليصعب عليها الارتداد عنه. إن مصر تتحول إلى بلد أوروبي بطريقة تثير الدهشة، وقد أخذت إدارتها وأبنيتها وآثارها وشوارعها وعاداتها ولغتها وأدبها وذوقها وغذاؤها وثيابها تتسم كلها بطابع أوروبي.. لقد اعتاد المصريون قضاء الصيف في أوروبا، كما اعتاد الأوروبيون قضاء الشتاء في مصر، فلعل أوروبا تقدر لمصر مسيرتها ولعلها ترد لها يوما بعض هذا الود الكبير الذي تكنه لها مصر..» ـ المصدر المذكور سابقا ج/1 ص/263. والآن هل أنا بحاجة إلى تعليق للإشارة إلى الموقع الدوني الذي وضع قاسم أمين فيه نفسه كمفكر مصري، يدعي فيه «الدفاع» عن مصر والمصريين؟ هل كانت هذه الصيغة النفسية لقاسم أمين صيغة دفاعية أم اعتذارية عن أننا كنا في يوم «غير أوروبيين»، لنا شخصيتنا المختلفة في الإدارة والأبنية والآثار والشوارع والعادات واللغة والأدب والذوق والغذاء والثياب.. إلى آخره إلى آخره. ثم هل كان قاسم أمين صادقا في كلامه مع الدوق المتعجرف؟ فهل كانت «مصر» كلها، لا أحياء من عاصمتها، متسمة في ذلك العهد بالطابع الأوروبي؟ ومن كان هؤلاء المصريون الذين اعتادوا عام 1894، أو حتى الآن، قضاء الصيف في أوروبا؟ وأي ود كبير هذا الذي كانت تكنه مصر لأوروبا بعد الاحتلال البريطاني بـ12 عاما؟ ومع ذلك فيجب ألا نعتبر كتاب «المصريون» شاهدا على أفكار قاسم أمين أو مرشدا لتحديد مبادئه ومعتقداته وموقفه لأنه، على الرغم من ولائه الواضح فيه لأوروبا وإعجابه التام بها، بصفتها المثل الأعلى للمدنية التي يتمناها لمصر، وانحناء قامته البين أمام الدوق المتعجرف، يظل الكتاب محاولة من قاسم أمين للدفاع عن صورة مصر والمصريين وشرح الحكمة الإيجابية في قوانين الشرع الإسلامي، وإن بدا هذا «الشرح» مستخزيا تبريريا ملتمسا السماح من الدوق، مناشدا إياه أن يعتبر «الإسلام» في مرتبة «المجوسية» فيقول: «إن الإسلام دين خلقي، لا يقل عن المجوسية ولا عن المسيحية، وإن روح القرآن لا تختلف عن الروح الإنجيلية.. » ـ المصدر السابق ج/1 ص/217.

لقد كتب قاسم أمين «المصريون» بدافع انفعال وقتي: رد فعل لصفعة ساخنة أحسها إهانة ذاتية لشخصه لكونه، ولا مفر، مسلما مصريا تحاصره وتلتصق به الاتهامات التي كالها «دوق داركور» للمصريين والمسلمين كافة، وكان عليه أن يدفع عن نفسه هذه الاتهامات التي تشينه أمام أصدقائه «الأوروباويين»، الذين يحب أن يظهر أمامهم وجيها يليق بمقامهم، فكان رد فعله الأول أن ينكر هذه الاتهامات وينفيها من أساسها، أما رد فعله الثاني الذي أتى بعد ذلك تباعا في كتاباته التالية من 1895 حتى تاريخ مماته 22 أبريل 1908، فكانت محاولته الخروج والتنصل من الصورة التي لا تعجب «الأوروباويون» وذلك بانتهاج استعلاء يجعله ينفصل عن تلك «الصورة» بإعلان اعتراضه عليها وتأكيد البراءة منها مما يحقق له «ذاتيا» احتراما وإعجابا أوروبيا غربيا يستثنى به كصفوة «تنويرية» لا ينطبق عليها ما أسخط الدوق وأمثاله على مصر العربية المسلمة ـ وقد تم له ذلك على أكمل وجه والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه!

نصب قاسم أمين نفسه مصلحا وموجها ومربيا وناقدا لمصر الإسلامية: يتبنى افتراءات الدوق ويتطوع على أساسها، نيابة عن الدوق وعن أوروبا، العمل على إدانة الصورة الإسلامية التي لا ترضيهم والدعوة علانية بالتوجه الكلي نحو محاكاة الغرب والإيحاء بأن كل مصائبنا ناتجة من «أهوائنا» المتمسكة بالمدنية الإسلامية!

يقول قاسم أمين في كتابه «المرأة الجديدة»: «.. فالتركي، مثلا، نظيف صادق شجاع والمصري على ضد ذلك، إلا أنك تراهما رغما عن هذا الاختلاف متفقين في الجهل والكسل والانحطاط، إذ لا بد أن يكون بينهما أمر جامع وعلة مشتركة هي السبب الذي أوقعهما معا في حالة واحدة. ولما لم يكن هناك أمر يشمل المسلمين جميعا إلا الدين ذهب جمهور الأوروباويين، وتبعهم قسم عظيم من نخبة المسلمين إلى أن الدين هو السبب الوحيد في انحطاط المسلمين وتأخرهم عن غيرهم..» ـ المصدر السابق، ج/2، ص/72.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق