الثلاثاء، 6 سبتمبر 2011

 من صندوق الجواهر:

السفير شكري فؤاد 

إذا كان لي أن أنتخب مقتطفا من شكسبير ألخص به رؤيتي للسفير "شكري فؤاد"  فسوف أردد على الفور ترجمتي للكلمات التي قالها "هاملت" عن صديقه "هوراشيو"، في المشهد الثاني من الفصل الثالث من مسرحية هاملت:

" هوراشيو إنك لرجل شريف، لن ألتقي بمثيله بين البشر، ..........، أنت الذي اختارته نفسي ، منذ بدأت تميز بين الناس، لأنك مثل الذي عانى كل شئ، فأصبح لا يعاني شيئا، يتلقى من الأقدار الخير والشر، بامتنان واحد، وطوبى لهؤلاء، الذين يتوازن عندهم العقل والعاطفة، فلا يصبحون مزمارا في يد أحد، يعزف عليه ما يشاء، أعطني هذا الرجل الذي يرفض أن يكون عبدا لأهوائه، وسوف أضعه في السويداء، نعم، في قلب قلبي....".  هذه الملامح الهوراشية رأيتها تتبدى لي بوضوح على مدى سنوات معرفتي الإنسانية بشكري فؤاد، حتى أنني صرت كلما تخيلت هوراشيو يظهر لي بوجه شكري فؤاد وإيماءاته وهيئته الكاملة، وكأن معرفتي بشخصية شكري فؤاد قد ساعدتني على فهمي لهوراشيو وكأن كلمات شكسبير الدقيقة التي أطلقها على لسان هاملت قد ساعدتني على صياغة تحليلي لشخصية شكري فؤاد الذي منّ الله عليّ بصداقته الغالية عبر السنوات الطويلة والحمد لله.

في يوم من أيام صيف 1970، في بيت "وداد وسعد"، كان لقائي الأول مع شكري فؤاد وزوجته العزيزة نبيلة، أو بلبل كما يناديها الجميع، كان قد مضى على صداقتي لوداد متري وزوجها الدكتور سعد لوقا ثلاث سنوات منذ تعرفت عليهما 1967 في عرض مسرحية "أجاممنون" بمسرح الجيب القديم بالقرب من حديقة الأندلس، تقدمت مني "وداد"، من دون سابق معرفة، وأجزلت لي الثناء على ماكنت أكتبه في ذلك الحين من نقد مسرحي بمجلة المصور. لم أكن أعرف ساعتها أن "وداد متري" قاعدة لصداقات ثقافية وفنية وأدبية وتربوية وصحافية وسياسية عريضة، تتعدد فيها الأفكار والآراء والمشارب وإن تلاقت عند حب الوطن والأمة العربية ومساندة كل القضايا المقاومة للكيان الصهيوني ولكل أشكال الظلم والقهر والفساد، كان بيتها، "بيت وداد وسعد"، رحمهما الله سبحانه، بمثابة مسقى لكل العطاشى من كل اتجاه.

ذلك العام 1970 كانت صداقة وداد وشكري قد تعدت سنواتها العشرين منذ زمالتهما خريف 1948 بكلية الآداب جامعة فؤاد الأول، القاهرة الآن، قسم الفلسفة وتخرجهما  في دفعة 1952، كان شكري أصغر أعضائها سنا فلم يكن عمره يزيد عند تخرجه عن العشرين عاما وخمسة أشهر.

قالت وداد: "شكري يا صافي راجع  من عمله في سفارتنا بكمبوديا"، وحبذت أن أقدم له كتابي "رومانتيكيات"، الذي كان قد صدر لتوه عن دار الهلال إبريل 1970، فكتبت له إهدائي: إلى الأستاذ شكري كمبوديا مع التحية والمودة، 2\7\1970!

كنت وقتها في سمت لعلعتي الصحفية وفرحتي بروحي ناقدة وكاتبة بمجلة المصور في عهدها الذهبي تحت رئاسة أحمد بهاء الدين رحمة الله عليه، قبل أن أقع بعدها على بوزي بصفعات قهر وظلم الكاتب، الذي تصر فلوله على نعته بالرومانسي المتسامح الذي لا يؤذي نموسة، سي يوسف السباعي بداية من أغسطس 1971. ما كدت أصادق شكري وبلبل حتى وجدت نفسي تتقاذفني شلاليت تعليمات السلطة الساداتية السالبة للحقوق؛ منع من النشر وفصل من العمل واعتقالات ونفي ....إلخ إلخ، في ذلك التطور المروّع لأحوالي ، حين تخلى عني من تخلى وتجهم لي من تجهم وأنكرني من أنكر، تكشفت لي الأبعاد الهوراشية في شخصية ذلك النبيل شكري فؤاد الذي لم يُضيّق على صدره، لحظة واحدة، سترة "الدبلوماسي" المتخوّف المتحرج الذي يخشى مخالطة أمثالي من المنبوذين المعارضين لجبروت سلطة محمد أنورالسادات المستبدة الجائرة على مدى دورة فلكية صينية استغرقت 12 سنة عجافا.

بعد أن استقر شكري في مصر في ديوان وزارة الخارجية لمدة ثلاث سنوات، سافر عام 1973 إلى مواقعه المتغيرة في سفاراتنا على مدار الكرة الأرضية، وظل موقعي ثابتا في قوائم الإستدعاء إلى معتقل القناطر للنساء كلما احتاجت غشومية السلطة الساداتية إثارة قضية أمن دولة وهمية ما تلبث أن تُحفظ بعد أن تستوفي أغراضها من اعتقالنا ومرمطتنا بتهم الشغب وقلب نظام الحكم وما إلى ذلك من كذب وبهتان واختلاقات ما أنزل الله بها من سلطان.

يسافر شكري ويعود ثم يسافر ثم يعود ويطلق سراحي من المعتقل ثم أعود ....إلخ  و"شكري وبلبل" في قلب قلبي لاتهتز لهما شعرة خوف مما يحدث لي ولكثير من أصدقائهما وبوصلة معرفة أحوالنا هي "وداد متري"، حين لا تكون مسافرة مصاحبة لزوجها الأستاذ الجامعي سعد لوقا في جامعات بإفريقيا أو ببلاد العرب، ويهتم شكري بأن يبعث لي من كل مكان بقصاصات صحف تكون قد نشرت صورة لي وأنا في القفص الحديدي خلال المحاكمة، أو يكون قد ذكرني ذاكر بطيب في مقال أو محاورة؛ لمسات رقيقة حانية لا أتوقعها تأتيني منه كرذاذ الماء البارد المنعش ترش وجهي في القيظ الصعب.

إذا أردت أن أحدد المهمة الأولى لشكري فؤاد في الحياة أضع يدي على "صديق"، و"الصديق" ليس بالضرورة الذي يتفق معك في الرأي أو في العقيدة، لكنه الذي يتواءم معك ويفهمك ويرى حقك في أن تكون ما أردت أن تكونه؛ هو الذي لا يضيق معه "خُلقك" ولا تنحبس زفرتك ولا تخشى عنده إطلاق فكاهتك ولا يسوؤه وقع دعابتك: يفهمك يفهمك يفهمك!

من المؤكد أن شكري فؤاد منذ بداية تفتحه الثقافي قد إنحاز للصدق والشرف والأمانة والإستقامة، وتجول بصفاتها بعقله ووجدانه بحرية وشغف في حدائق المعرفة الإنسانية وحقولها الواسعة ليس من أجل تغذية الرطانة في الصالونات ودعم الإستعراضات الفكرية  ووجاهة الإنضمام إلى نادي النخبة ولكن سعيا وراء الإئتناس بالوعي وشحذا للإدراك الشفيف الذي يقود إلى الحياء من التباهي والتعفف عن تزكية الذات.

يتقن شكري فؤاد السمع والإنصات لمحدثه، وحين يتكلم يختصر ويتركك في شوق إلى إسهابه، تقوده حكمة "خفف الوطء".  يتململ من الفجاجة وينسحب من اللجاجة ويطوي صفحات الركاكة كأنها لم تكن. رغم صلابته الكامنة وعناده الراسخ غير السافر لايتحرج من الإعجاب بمن يكشفون وجه عنادهم بالزعيق: يجد فيهم طرافة يضحك لها كثيرا. رغم اختياره للتكتم في الألم والفرح لا يضايقه مَن من صفاته البوْح. ورغم إمعانه التفكير لاينكر على غيره سرعة الحسم. يدفعه حسه النقدي الحاد إلى طمر الكثير من ملكاته الأدبية والفنية. يحترم قيمة التواضع ويجد الأناقة في التواري إلا في أحوال الإستنجاد والإغاثة ساعتها تدفعه شهامته لنجده البارز في الصف الأول.

بلغ شكري فؤاد سن الستين في 12 يناير 1992، وأتاحت الحاجة الوطنيةإلى خبرته في وزارة الخارجية أن يواصل العمل مستشارا لها حتى السبعين في 12 يناير 2002، ويظل وهو يخطو نحو الثمانين، إن شاء الله في 12 يناير 2012، مرجعنا في كل شأن من شئون الضمير ويكون بذلك قد حقق الإنجاز الأكبر الذي يتمناه كل شريف على هذه الأرض: "هؤلاء الذين يتوازن عندهم العقل والعاطفة فلا يصبحون مزمارا في يد أحد يعزف عليه مايشاء...."!

حفظك الله يا شكري فؤاد وأدامك علينا جوهرة كريمة من كنوز بلدنا هذا الأمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق