الجمعة، 14 يونيو 2013

من أجل إلغاء وزارة الثقافة وتوفير فلوسها للصحة والتعليم؛ حكاية ونداء منذ 2002!


توحة وصنعة اللطافة


 في كتابي «صنعة لطافة»، الذي صدرعام 2007 عن دار العين للنشر بالقاهرة، لم أتردد في أن أضع «توحة» الخياطة، جنبا إلى جنب 21 سيدة مصرية وجدتهن حجتي وحيثياتي لكي أقول للسيدة جيهان صفوت رؤوف، أرملة الرئيس الراحل أنور السادات، انه من غير الصحيح ما تكررين ذكره في لقاءاتك الصحفية من أنك «.. على الأقل قد أثبت أن المرأة المصرية تحترم نفسها وتعمل وتشارك.. وهذا لا يعجب ذوي العقول الضيقة..الخ»، لأن هذا يعطي الانطباع بأن المرأة المصرية قد أثبتت نفسها منذ عام 1970 فقط، منتظرة حتى خرجت السيدة جيهان لتقود مسيرتها في العمل والمشاركة، ومن الواجب على السيدة جيهان أن تصحح مقولتها مع الاعتراف بكل تواضع بأن جهدها، إفتراضا أن كان لها أي جهد، كان مجرد نقطة في بحر إنجازات المرأة المصرية ونهضتها منذ مطلع القرن العشرين، ومنذ نساء كملك حفني ناصف حتى الدكتورة العلامة بنت الشاطئ، ومن أول رائدة التعليم نبوية موسى، ورائدة العمل الاجتماعي جميلة صبري، والنابغة الآنسة مي، وعالمة الرياضيات الدكتورة معصومة كاظم، ورائدة علم النفس الدكتورة سمية فهمي، والرائدة في علم الوراثة والهندسة الوراثية الدكتورة عفت بدر، والنحاتة فاطمة مدكور، والمسرحية منحة البطراوي، والرائدة الصحفية وداد متري، والشاعرة أماني فريد، والأديبة أليفة رفعت، والكاتبة زينب صادق، ورائدة فن لوحة الغلاف ، نجمة دار الهلال ، سميحة حسنين، وغيرهن ممن علا قدرهن في مجالهن وقدمن لمصر وللإنجاز العربي أجل الخدمات ، ولم ولا تتركز عليهن كثيرا كشافات الإضاءة الإعلامية جهلا أو تعنتا.

«توحة» الخياطة، التي سميتها «الشهيدة توحة»، حائكة ملابس شعبية بسيطة مواليد أبريل 1955، تصلي وتصوم وتحمد الحي القيوم ، تحمل حقيبتها الثقيلة بملابس زبائنها على كتفها وتركب الميكروباص أو الحافلة من عند بيتها في مدينة السلام ، وتقطع القاهرة شرقا وغربا وشمالا وجنوبا بالمواصلات المتاحة للمواطنين ولا يهمها العرق والتعب والزحام. على الدوام هي قريرة ما دامت تسمع من زبائنها، اللاتي صرن صديقاتها: «الله.. يا توحة». لم أتعامل معها بصفتها «مجرد» حائكة ملابس ، كنت أراها فنانة بالخيطان وشرائط الساتان الملونة والزجزاج. لا بد معها من لعبة الفصال، لكن «الفصال» مع «توحة» له طبيعته الخاصة، فهي كما كانت تردد: لا تحب الفلوس ، أجرها الحقيقي ، ككل فنان أصيل، هو صيحة: «الله الله  يا توووووووووووووحة»! أقولها من قلبي بإعجاب حقيقي. تطوّر معي جلباب الفلاحة وتزركش بشرائط الساتان الملون والزجزاج أو قطع القماش بأسلوب الخيامية، وألبس الجلباب وأدخل حفلا في الأوبرا. ولم لا: جلباب الفلاحة أم «الجينز» الكالح الصايع من صناديق رعاة البقر الأجلاف ؟ جلباب الفلاحة المصرية أم «جينز» الفلاح الأمريكي؟ تضحك توحة ويشرق وجهها الأسمر النحيل بملامح صعيدية منمنمة لعلها من آثار عرق نوبي جميل بمزايا الأنف الصغير الدقيق الشامخ في نبل فطري. أسألها: «هه...أدفع كام؟» تبخس أجرها وتطلب ما لا يصدقه متعامل في السوق. أبدأ الفصال: «يا توحة الكلام ده ما ينفعش مش ممكن أدفع المبلغ ده». يكتسي وجهها بالجدية: «يعني أخد فلوس حرام؟» يستمر الجدل: «لا... تأخدي حقك لا زايد ولا ناقص». تقول قرشا ويكون حقها عشرة، من هنا لهنا ترتضي الحد الأدنى من حقها. لكن هذا التنازل منها عن الحق المادي، لا يتبعه أي تنازل في حقوق الرأي والشهادة الأمينة. اعتدى بلطجية البانجو على زوجها وابنها بالضرب بالمطاوي، وطلبت منها شكوى جماعية من أهل مدينة السلام المهددة ليلا ونهارا بهؤلاء البلطجية وكتبت في جريدة معارضة نداء: «يا وزير الداخلية مدينة السلام تستجير من إرهابي البانجو». تم استدعاء توحة للتحقيق في قسم بوليس مدينة السلام ، قالت في أقوالها الحق كله، وأكدت معلومة إطلاق سراح المجرمين بعد كل مرة يتم القبض عليهم. شخط فيها الضابط: «إنت بتتهمينا.. إمشي اطلعي بره!» قالت لي: «طلعت بره بس أنا لم أكمل كلامي ولم أوقع بإمضائي على المحضر». لم تكن متأثرة من الإهانة والشخط، كانت متأثرة لأنها لم تتمكن من إتمام الشهادة والاستجواب ولم توقع بإمضائها على ذلك. قلت لها كلاما ضد اعتقادي ومبادئي خوفا عليها: «يا توحة لازم تكوني لبقة مع الضابط... ما يضرش لو تقولي مثلا... طبعا سيادتك يا باشا قمتم بالواجب بس المجرمين كانوا ....»، استمعت مني بأدب بالغ وبالإنصات الهادئ الذي هو من سماتها وابتسمت. جاءتني بعد ذلك: «هه يا توحة.. عملتي إيه مع قسم البوليس؟» قالت وهي تشبك الدبابيس لضبط ذيل الثوب : « صراحة كان هناك واحد ذوق ... وأخذني للضابط الذي طردني وقلت له.. أنا لم أكمل أقوالي ولم أوقع بإمضائي على المحضر، وأنا مستعدة أجيب لحضرتك كل أهل مدينة السلام ببطاقاتهم الشخصية يقولوا زي كلامي، وللا حضرتك مش عاوز أكمل أقوالي؟ طيب أنا أروح الداخلية وأكمل عندهم أقوالي فهناك فيه ناس ذوق قوي قوي..»، ضحكت وحمدت الله أنها لم تسمع نصيحتي ولم تخضع.

خرجت «توحة» من محنة بلطجية البانجو حين تم شفاء زوجها وابنها من ضربات المطاوي، وكان في انتظارها السفاحون والقتلة من سائقي الميكروباصات. يوم السبت أول يونيو 2002 ركبت «توحة» الأتوبيس ثم الميكروباص وكانت في طريقها من منزلها إلى منزلي ، انتظرتها ولم تحضر. كان الميكروباص يسير بعكس الاتجاه متفاديا الأتوبيس ، وتوحة تحمل على كتفها حقيبتها المليئة بالأقمشة والخيطان وشرائط الساتان الملون وعلى وجهها كل السماحة والغبطة والطيبة ، التي لو وزعت على أهل الأرض جميعا لكفتهم ، تجلس قرب الباب الأمامي وفي ثوان كانت الصدمة مع الاصطدام. انقلب الميكروباص بتوحة عدة مرات، فانكسرت اضلاعها وكبس قفصها الصدري على رئتيها وقلبها وانكسرت كتفها وذراعها وحوضها وساقها، كل جانبها الأيمن، الذي تحمل عليه وتقص به وتحرك به ماكنة الخياطة ، كل هذا تعطل تماما ، لكن توحة لم تفقد الوعي. احتضنت حقيبتها وهم يكسرون باب الميكروباص لإخراجها، وفي مستشفى مدينة السلام ، حين رأتها ابنتها، كانت توحة تضع حقيبة ملابس الزبائن تحت رأسها ؛ حتى لا تضيع منها الأمانة، ثم سلمتها لابنتها وتفرغت لرحلة الآلام. 

في منتصف اليوم الثاني من يونيو 2002 تم نقل «توحة» إلى مستشفى القصر العيني القديم، مبنى الطوارئ حيث تم تصحيح أخطاء العملية التي أجرتها لها مستشفى مدينة السلام لإنقاذ الرئتين من ضغط الأضلاع المكسورة ، وظلت «توحة» بعدها تحت اسمها الرسمي ، «فتحية عمر حسن»، متروكة في مبنى الطوارئ في غرفة بها ضحايا آخرون، من دون أن يعلق لها ولو محلول تغذية واحد، من فجر يوم الأحد 2 \ 6 \ 2002 حتى ظهر الأحد التالي، 9 \ 6 \ 2002  حين هبطت دورتها الدموية ورجعت إلى ربها «شهيدة» الإهمال والاستهتار، والخيبة ، وبطء الحركة، وانسحاق حق المواطن المصري، وقيمته المهدرة وكرامته المهدورة بأيدي أهله.

من أجلك يا «توحة» ، ومن أجل أمثالك في هذا الشعب الصابر العزيز، أكرهك يا كل بذخ احتفالات وزارة الثقافة. أكرهك يا متاحف جديدة وترميمات مضروبة تكلفت الملايين، وليست من أولويات شعب مريض فقير. أكرهك يا مهرجانات ركيكة عن المسرح والسينما والتلفزيون و..ملتقى الشعر، فيا للقسوة المغلفة بـ«الشعر»، تغدق عليها الميزانيات التي لو أنفقنا نصفها لنهضة مستشفى القصر العيني وترميمه من أجل الإنقاذ والإسعاف وحياة أصحاب الحق الأصيل في الخدمات والرعاية لما استشهدت «توحة»، وأمثالها من الضحايا ولم نكن لنصرخ ، كما صرخ الذي قال على الأرض الفلسطينية: «إسعااااااااااف يااااااااااااا الله».

ملحوظة: لم أتراجع حتى الآن عن صيحتي التي أطلقتها بصدق منذ تلك السنوات، تضامنا مع مصلحة أهل بلدي: «تبرعوا بوزارة الثقافة لوزارة الصحة!».



هناك 4 تعليقات:

  1. الأستاذة الفاضلة ألف تحية من الجزائر
    قد لا أعرف حكاياتهم لكنني شاهدتهم في شوارع مصر الضيقة وأزقتها. وإذا عرفتها فأنا لا أحسن سردها بهذا الأسلوب البديع وبهذه الصياغة اللغوية الجميلة وسحر البيان العربي.
    وما أعجبني كثيرا وألبس الجلباب وأدخل حفلا في الأوبرا. ولم لا: جلباب الفلاحة أم «الجينز» الكالح الصايع من صناديق رعاة البقر الأجلاف ؟ جلباب الفلاحة المصرية أم «جينز» الفلاح الأمريكي؟ تضحك توحة ويشرق وجهها الأسمر النحيل بملامح صعيدية منمنمة لعلها من آثار عرق نوبي جميل بمزايا الأنف الصغير الدقيق الشامخ في نبل فطري

    ردحذف
    الردود

    1. شكرا يانور الدين على صحبتك في زمننا هذا الصعب؛ ويكفي أنها صحبة من الجزائر، وأعتقد أن لدي صحبة أخرى ذوّاقة من تونس تحت اسم "سي محّمد درويش"، والحمدلله آهو شوية شرق وشوية غرب وكفانا الله شرّ قطّاع الرحم الإسلامية والعربية؛ ألم تستمع إلى مُختل اسمه العريفي خطب الجمعة الماضية في جامع عمرو بن العاص يُكفّر ويسب ويلعن من شاء وكما شاء من أُمتنا الإسلامية وكأنه لم يسمع بالآية الكريمة رقم 94 من سورة النساء: "ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا"؛ آه من زمن الفتن والدجالين!

      حذف
  2. لقد سمعته يقول كلاما ما أنزل الله به من سلطان أتحرج من ذكره أمام الأستاذة يبدو لي أن لكثير من أمثال العريفي يحتاجون إلى محلل نفسي

    ردحذف
  3. يا ست الكلّ ، يا من علا قدرك فى مجالك ،
    الاستاذة الفاضلة " العلامة " دمتِ بخير
    هذه بعض الصفات المستوحاه من مدونتك "توحه وصنعة اللطافة"
    فعلا لايستطيع مرور الزمن ان ينقص من اناقة كتابات حضرتك شيئاّ،
    بل اذدادت جمال وعمق ورؤيه يا صاحبت المعرفة التى اشعر ان لاحدود لها ،
    جعل الله فى حضرتك كل الخير لهذا البلد ودينها المتيين .

    ردحذف