الاثنين، 9 ديسمبر 2013



في الدين والأخلاق

*الأستاذ الدكتور توفيق الطويل،( 15\3\1909 ـ 12\2\1991 )، من الأسماء التي تلمع كلما خضنا في ذكر الدراسات الأكاديمية للفلسفة في بلادنا، آخر منصب تولاه قبل وفاته كان رئيس قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة، معرفتي به تعود إلى عام 1954 عندما دخلت قسم صحافة رغم معارضة والدتي التي كانت تريد لي قسم اللغة الإنجليزية أو الفلسفة! كان قبولي بقسم اللغة الإنجليزية بجامعة عين شمس على غير مرامي لأن مبناها،وقتها، كان بحي شبرا وأنا أريد جامعة القاهرة بموقعها الجميل بين حديقة الحيوان وحدائق الأورمان وقبتها العريقة وبرج ساعتها الشهير شهرة البج بن اللندنية. لم يكن أمامي، إرضاء لوالدتي، سوى أن أحاول التحويل إلى قسم فلسفة فذهبت إلى الدكتور توفيق الطويل، رئيس قسم الفلسفة أرجوه: يادكتور أريد الإنتقال من صحافة إلى فلسفة، فسألني: مالها الصحافة ألا تحبينها؟ قلت: أحبها بس ماما تحب الفلسفة! فضحك مؤكدا: أنا مستعد أقبل ماما عندنا في فلسفة لكن يجب أن تظلي أنت بقسم الصحافة!

بعدها ارتبطت أسرتانا بصلة نسب سعيد، وأصبحت ألتقي بالدكتور توفيق الطويل اجتماعيا في مناسبات كثيرة يملأها بالبشاشة والأحاديث الراقية الشيقة، وفي عام 1986 تفضل وأهداني بحثا من أبحاثه بعنوان: " دور الدين والأخلاق في بناء الثقافة في مصر المعاصرة". قرأت البحث في حينه وظل في بؤرة اهتمامي أرجع إليه كلما إحتجت ضاربة ذباب أهش بها تزوير اللادينيين الذين لم يعودوا مكتفين بعلو نفيرهم بل صاروا يطالبون بكتم التنفس الإسلامي ، بمنطق قوم لوط الضائقون ذرعا بسيدنا لوط وآله لأنهم أناس يتطهرون!

يبدأ البحث بتعريفات عديدة منها تعريفه للثقافة: " كل ما يتضمن استنارة للذهن وتهذيبا للذوق وتنمية لملكة النقد والحكم لدى الفرد والمجتمع، وتشمل المعتقدات والمعارف والفن والأخلاق......"، إلى آخره حتى يصل إلى قوله: " ..عن الثقافة تنشأ عند الفرد رؤية خاصة يرى بها الكون ويفسر بها مشاكل الحياة.." ، وأحب هنا أن أضيف أنا من جيبي أنه مع تكوين الرؤية الخاصة للكون وتفسير مشاكل الحياة تتحدد كذلك القرارات التي تنظم علاقاتنا مع الآخرين، دولا وأفرادا، ونعرف رأسنا من أرجلنا فلا ننحاز لمصالح الأعداء ضد مصالحنا ولا نتبنى مفرداتهم ومصطلحاتهم ومسمياتهم التي ترى حقنا باطلا وباطلهم حقا، من هنا نتبين الأهمية القصوى لخطط التكوين الثقافي وأهمية الكشف المبكر عن المنابع التي تستمد منها تلك الخطط لتجري في القنوات والروافد الموصلة لعقولنا وخلايا أمخاخنا وأمخاخ أولادنا من بعدنا.  هذه الأهمية القصوى للثقافة عرفها كل الذين احتلوا أرضنا منذ القرن 18 الميلادي حتى الآن ولذلك واصلوا إحتلالنا عن طريق فك عرانا بثقافتنا الإسلامية تدريجيا لنصبح بجعا مسحورا مسلوب الإرادة يسبح في بحيرة التغريب مجندا ضد نفسه! وعندما هب الأمناء منا لإعادة البجع المسحور إلى آدميته بنداء "اعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا" لم يعجب اللادينيون التزويريون الكلام ورأوا في إنقاذ الأمة ، بإعادة الشهيق والزفير إسلاما ، ماسموه:"ردة إلى عصور الجهل والظلام" وبذلوا جهدهم ، بدعوى "التنوير"، في تلويث الثقافة بكل مايؤدي إلى التخبط والتيه والإنسحاق وغيبوبة تبدو غيبوبة الطاعون وأنفلونزا الخنازير إلى جوارها صحة وعافية!

أصل وفصل اللادينية

*يقول الدكتور توفيق الطويل، في ضرورة الدين للفرد وللمجتمع، أن استقراء التاريخ من قديم الزمان يشهد بأن الشعوب لا تحيا بغير دين تعتنقه ، ومن ثم اهتم الملحدون من المفكرين والفلاسفة بالدين رغم رفضهم له ، وفي سعيهم للتوفيق بين رفضهم للدين مع اعترافهم بأهميته للإنسان أنكروا الدين المنزل بوحي إلهي وأنشأوا أديانا سموها حينا بالدين الطبيعي وحينا بالديانة الإنسانية.

يستعرض بحث الدكتور الطويل زعماء هذه الديانات المطروحة بديلة عن الدين الحق المنزل على أنبياء الله عز وجل، ومن بينهم المدعو أوجست كونت الذي يرى أن المجتمع في حاجة ماسة إلى مجموعة منظمة من العقائد تكون موضع اتفاق بين الأفراد جميعا، ولا يتيسر هذا إلا بإلغاء الأديان القائمة وصهرها في دين جديد يتمثل في عبادة الإنسانية من حيث هي فكرة تحل مكان الله في الديانات المنزلة!  وهنا يجب أن نلحظ الكم الهائل من الخبث الذي تنطوي عليه أحاديث عن الإنسانية تمر من تحت أنف بعض السذج من دون أن يتشككوا في كونها وثنا معبودا إلى جانب أوثان أخرى ما أنزل الله بها من سلطان تعج بها مفردات اللادينيين.

*تحت كلمة جميلة مثل "الإنسانية"، التي صنع منها الفيلسوف الملحد أوجست كونت ديانة ادعى أنها تحقق وحدة دينية للبشرية يتلاشى معها الشر والمنازعات...الخ ، يتبين لنا كيف تفوح رائحة العنصرية المنتنة من الكلمات المنمقة والشعارات المبهرة فحضرته يقسم البشرية إلى أجناس ثلاثة : الأبيض ويمثل الذكاء ، والأصفر ويمثل العمل ، والأسود ويمثل العاطفة! هذا الكلام العفن يعني بصريح العبارة سيادة وزعامة الجنس الأبيض متمثلا في العنصر الأوروبي وتراث حضارته الغربية سواء سكن أوروبا أو الأمريكتين أو أستراليا أو "الشرق الأوسط"!

هذه الرؤية الشوهاء التي ترى في الصين واليابان حمار شغل، وترى في الجنس الأسود ـ الذي يضم إفريقيا والهند ـ الطبل والزمر والرقص وشهوات العاطفة ، لاترانا نحن العرب ، بأغلبيتهم المسلمة ، جنسا أبيض إنها ترانا خليطا لا يرقى للتصنيف من واجبه   فحسب أن يكون بطانة تغني معزوفات الرجل الأبيض العنصرية اللادينية بإعجاب شديد ، هذا بينما يقول لنا نبينا محمد بن عبد الله :" اتركوها إنها منتنة " ، قاصدا العصبية القومية والقبلية والجنسية مؤكدا القاعدة التي ترتكز عليها النظرة الإسلامية للبشرية وللإنسانية: "كلكم لآدم وآدم من تراب ، لافضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي ، ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى!"

"التقوى": أي مخافة الله الذي خلقنا سواسية بالعدل والقسط والميزان ، للجميع الذكاء ، وللجميع قدرة وأدوات العمل ، وللجميع عاطفته ومشاعره ووجدانه. لاعذرلمن لايعمل، ولاعذر لمن لايحس ويشفق ويحب ويرحم ويتراحم. هذه النظرة الإسلامية الكلية للبشر والإنسانية تقودها كلمة الله "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، فنعلم أنه ليس هناك شعب مختار ولا جنس أرقى  ولا بطاقة مكتوب عليها التفوق لأحد أبد الآبدين.
*أنتجت النظريات العنصرية لفلاسفة الإستخراب الغربي، القائلة بتفوق الجنس الأبيض ،نموذج هتلر فخرج بحربه العالمية ـ 1939 \1945 ـ يدمر براية تفوق الجنس الآري، يريد أن يخضع العالم لتفوقه العرقي الموهوم ، وذاق العنصريون الغربيون طعم لحمهم المر المسموم.

أنضج هتلر على وقود أفرانه ، التي زج فيها معارضيه من يهود وغيرهم ، خرافة الشعب المختار، وفي قاع المذلة التي وجد الرجل الأبيض ، المنتمي إلى اليهودية ، نفسه فيها تولدت عنده هلوسات جنون العظمة.  لقد رأى أنه أوروبي وأبيض لكنه مرفوض ليهوديته ممن هم في الواقع أهله وجنسه وأبناء وطنه، عاش في أحياء منعزلة، سخروا منه في آدابهم وفنونهم وممارسات حياتهم اليومية، لفظوه بقسوة رغم وحدة اللون والملامح والجنس والأرض، وكان حتما أن تركبه مركبات النقص التي كان لابد أن تتولد منها صيغة مرضية للعظمة مشابهة للصيغة العنصرية ، التي تقول بتفوق الجنس الأبيض، غير أنها بالغت في الجنون بقولها: أنا شعب الله المختار، وهذا العالم كله بناسه ومخلوقاته خلقه الله من أجلي ليخدمني بصفتي السيد وهو العبد!

إتفقت المصالح الغربية ،بعنصريتها، على إتاحة المجال لإنطلاق الحركة الصهيونية ودعمت منطقها، الذي اعتمد صيغة شعب الله المختار وحقه فيما سمته أرض الميعاد على أرض فلسطين، وزورت لها الوثائق والحكايات والأساطير، ونبشت لتسرق تراث الجنس البشري كله وتنسبه لنفسها ، ولعلنا لم ننس بعد لغة النصب والإحتيال التي تكلم بها اسحق رابين وهو يتسلم جائزة نوبل ويسرد بها المساهمات الثقافية والعلمية والفنية التي أثرى بها، ماسماه الشعب اليهودي، تراث الإنسانية على مر الأزمان ذاكرا من تلك الإسهامات "الأهرامات" و "أشجار الزيتون والبرتقال" على أرض مصر وفلسطين!

إرتفع النداء لتجميع يهود العالم لينسلخوا عن أوطانهم وأجناسهم المختلفة ويصطفوا خلف الفكرة الصهيونية العنصرية في وحدة ترسخهم بزعم أنهم شعب الله المختار بينما كانت السكاكين تنزل من كل جانب تقطع أرحام المسلمين ليتفرقوا عن حبل الله تحت رايات قومية وعرقية ما أنزل الله بها من سلطان.  هذا رغم أن البون شاسع بين غاية تجميع المسلمين في أمة واحدة، تحتضن بين جنباتها كل الأجناس وكل الأديان، تساوي بين الأجناس وتعترف بكل دين سماوي، وبين غاية الصهيونية في تجميع يهود العالم لتصنع منهم شعبا مختارا لايعترف بـ "الآخر" ولا بأي دين أو عقيدة تخالفه، يسرق الأرض ويأكل الحقوق ولا يبالي بعهد أو ذمة وينتهج القمع والإرهاب بوقاحة وحرية وحوش الغاب. نعم! تجمعت المصالح الدولية ليكون لليهود الحق في إقامة دولة "دينية يهودية" بينما تتسيد العلمانية لفرض اللادينية على المسلمين لتحرمهم التمتع بالعيش في كنف شريعتهم وقرآنهم يقول في الآية 65 من سورة النساء: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما".


*لم تحاول اللادينية \ العلمانية ، واسمها الحركي الآن للعلم والتحذيرهو"الدولة المدنية"، أن تتسيد في بلادنا في الحكم والمحاكم فحسب بل حاولت وتحاول وتستميت في المحاولات لتتمكن من تشكيل الوجدان ببث ثقافتها وفنونها وقيمها وقياساتها فيما هو صواب وخطأ وجميل وقبيح وضروري وغير ضروري في كل شؤؤن الحياة، وعلى رأسها التربية والتعليم، تحت شعارات:  التحديث والعصرية والتنوير والنقلة الحضارية، وكلها، كما رأينا وسنرى، أقنعة لرسالة التغريب التي تريدنا أن نزدري أنفسنا ونخجل من كل مايمت إلينا بصلة عربا ومسلمين ، ومارست النخب العلمانية \ اللادينية المسروقة من إسلامها دورها المرسوم في اضطهاد ذات الأمة ، وأصبح من المعتاد أن نقرأ عبارات مثل:"لـَيْ عنق الواقع والعودة إلى الوراء، إلى القرن السابع الميلادي، إلى عصور الجهل والظلام..إلخ". وحين يتساءل متسائل لماذا القرن السابع بالتحديد؟ يكتشف أنه القرن الموافق لبعثة الرسول النبي خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم!

*لم ينس الدكتور توفيق الطويل أن يشير في هامش بحثه إلى أن دعوة أوجست كونت لديانة "الإنسانية" تتمثل في " مجموعة من الأبطال والعظماء والعقلاء الذين أسدوا إلى الإنسانية أجل الخدمات فاستحقوا من أجل ذلك التقدير والإعجاب...." ولذلك شرعوا في إقامة التماثيل لعظمائهم إذ أن السيد كونت "...قد رسم لديانة الإنسانية طقوسا ونظما ينبغي أن يتجه إليها الجنس البشرى لعبادتها..."!

ولاشك أن هذا يجعلنا نراجع العقلية والرؤية الثقافية، المفتونة في بلادنا، التي تحمست جدا منذ مطلع القرن 19 م لإقامة التماثيل أسلوبا من أساليب التكريم للحكام والمشاهير من الساسة وأهل الأدب والشعر والثقافة، وكان هذا في معظمه محاكاة من دون وعي أو فهم أو إدراك لحقيقة كونها مظهر وحصيلة فنية وثقافية لديانة لا نؤمن بها ولاتعبر عنا، فالمعروف أن ثقافتنا النابعة من الإسلام لاترحب بتعظيم الأفراد ناهيك عن إقامة تماثيل لهم، كما أن أسلوب التجسيم والتجسيد المادي لا يتفق مع منهج التجريد الذي يدربنا عليه الإسلام، وإذا كنت مخطئة في تصوري هذا فليصححني عالم من علماء ديننا ، فتلك المسماة ديانة "الإنسانية"، اللاغية للديانات الإلهية المنزلة، كان لابد أن تدفع أتباعها لإقامة تماثيل أبطالهم لتكون بمثابة أوثان معبودة تمتلئ بها ميادينهم ترنو إليها عيونهم في إعجاب وتقديس لـ "الرموز" تطفر معه الدموع.

لابأس!

لكن مالنا نحن ولماذا نحاكيهم؟


هناك تعليقان (2):

  1. الأستاذة الفاضلة ألف تحية من الجزائر
    توفيق الطويل ينتمي إلى جيل المؤسسين للخطاب الفلسفي العربي، جيل على اختلاف منابعه الفكرية ومصادره التي ارتوى منها ظل وفيا للفلسفة و العقل و العقلانية
    كانوا رجالا من طراز خاص عبد الرحمن بدوي ، يوسف كرم فؤاد زكريا، زكريا إبراهيم ، عثمان أمين ،عبد الغفار مكاوي، فؤاد الأهواني، هذا الأخير الذي ترك الجامعات البريطانية ومزاياها وامتيازاتها وجاء إلى الجزائر في بداية السبعينيات ليخوض مع الشعب الجزائر معركة التعريب فكان من بين أساتذة الفلسفة العرب الذين عربوا قسم الفلسفة. ولقد وافته المنية على أرض الجزائر .

    ردحذف
    الردود
    1. فعلا وان الأهواني قبل الجزائر كان يشغل رئيس هيئة المسرح، وهاجمته وقتها كثيرا في مقالات نشرت بالمصور في نهاية الستينات: شقاوة شباب بقى!

      حذف