الجمعة، 9 ديسمبر 2011

محفوظ .. الذي عاش يداري غضبه بابتسامات الدماثة!

قرأت نجيب محفوظ منذ بدايته حتى آخر حلقة من أحلامه الأدبية، قرأت نجيب محفوظ بإمعان، وتقدير، واحترام، وإعجاب، وتعجب، لكنني لم أحبه جدا إلا في ثلاث «ثرثرة فوق النيل»، و«من أصداء السيرة الذاتية»، و«أحلام فترة النقاهة»: يعطي كل حلم رقما، ولا تزيد القطعة عن 300 كلمة، وقد تنقص إلى مئة كلمة أو أقل.

مبكرا قرأت روايته الطويلة «بين القصرين» مسلسلة في مجلة الرسالة الجديدة عام 1954، وكان يرسمها الفنان الحسين فوزي لوحات ملونة حسنة الطباعة، ولم تكن «بين القصرين» هي أول ما قرأت، أذكر أنني قرأت قبلها «زقاق المدق» في دار الكتب، فرع الظاهر، التي كانت بالقرب من منزلنا بالعباسية، وأذهلتني إشارته الواضحة إلى آفة الشذوذ الجنسي، حين قالت زوجة إحدى الشخصيات: «كل النساء لهن ضرة امرأة، وأنا التي ضرتي رجل»، تعجبت وجفلت ولم أخبر أحدا بالبيت أنني قرأت كتابا به مثل هذه التلميحات.

في مدينة نيويورك 1963 حتى 1965، كنت أعمل موظفة محلية، بمكتبنا الصحفي الملحق بالبعثة الدائمة لمصر في الأمم المتحدة، لتدبير مصروفات دراستي ومعيشتي كلها، وكانت تصلنا جريدة الأهرام بانتظام، فقرأت بها «ثرثرة فوق النيل»، حلقات مسلسلة؛ كنت في غمار قراءاتي للأدب والمسرح والثقافة العالمية، من أول الصين واليابان واليونان حتى بيكيت وايونسكو واليوت وستريندبرج وخلافه، ومع كل هذا الزخم أطربتني حلقات «ثرثرة فوق النيل» وخلبت لبي. كان أدب نجيب محفوظ في ثلاثيته أدب تفاصيل وحشد، وأنا بطبعي أميل إلى المختصر والمختزل والمكثف، الذي أجده صعبا على كثير من الكتاب. صحيح أن لنجيب محفوظ مطولاته الشيقة، التي لا تزهق الروح ولا تكبس على النفس، لكنها بعد أن تحول معظمها ـ للأسف ـ الى أفلام سينمائية، قد فقدت القراء، وأصبح كل "مجعوص" على كرسي يفتي في «أدب» نجيب محفوظ من أول الفنانة يسرا إلى الناقد عُسرا، يستمد مادته مما شاهده في الأفلام، وليس مما قرأه حقا من فن الرواية الرفيع عند نجيب محفوظ، وأشهد أنني لم أحتمل أبدا مشاهدة أفلام الثلاثية: «بين القصرين» و«قصر الشوق» و«السكرية» بسبب زعيقها ومجونها وخلاعتها النابية. عند قراءتي لـ«ثرثرة فوق النيل» قلت لنفسي بفرح: هذا منحني جديد في فن نجيب محفوظ، فن الوعي الثاقب، والقول السديد من خلال الغمام والدخان، وما يبدو اللاوعي، اذ لم تكن المخدرات هى الحشيش بالفعل، بل كان الحشيش رمزا لمخدرات أعتى وأخطر منه في ذلك الزمن الناصري، الذي عبّرت عنه الرواية، عبّر عن الاقتراب المتفجر بالابتعاد عن ملامسة الواقع المادي المحيط. الشعر والوجد والحلم أرضية، وجدران، وسقف، وحديقة، وماء نهر، وفضاء ممتد للرواية، يمد بطلها يده ليلتقط الأفكار الفسفورية التي تلمع ومضات ثم تغيب، ذلك البطل الذي قدم نجيب محفوظ من خلاله نقده الدقيق العميق الأمين للحقبة الناصرية أبان سطوتها عام 1964، 1965، قبل هزيمة 5/6/1967 كانت «ثرثرة فوق النيل» مؤشرا يقول «سوف يحدث ما قد حدث». غضبت من نجيب محفوظ في سنوات حكم السادات، لكنني لم أتوقف عن قراءته، فالرجل يخبئ مواقفه في أدبه ويداريها بابتسامات التهذيب والدماثة، وقد فهمت ذلك وأنبت نفسي على ظلمي له.

أحببت «أحلامه»، رقيقة مثل هفهفة الحرير الناعم على الخد، وجميلة مثل الزنابق البيضاء التى تشيع فيما حولها عطرا خفيفا، يروح ويجيء، وتأتي إليه فيراوغك ويدفعك إلى الابتسام برومانسية مثل تشكيلات الدانتيل التي تزين الشباك، اكثر مما تحجب عنه أو منه، أكون حزينة، منقبضة، ثقيلة، وأقرؤها فتأخذني بيدها لترفعني وقد تمت مواساتي. هو فيها طفل مذعور، تطارده المخاوف، وعاشق مهجور يؤرقه الهجران، ومواطن قلق لا يكف عن التلفت تحسبا لمداهمة، أو ملاحقة أو طرد، أو ضياع، لكن هذه الهواجس كلها لا تبدو في الحلم كوابيس، وإن كانت هي كوابيس عمر طويل عاني على مشوار الحياة والأدب والتعبير، وهو يخفي غضبه واحتجاجه وراء ابتسامات المجاملة والتهذيب والدماثة، كوابيس دوَنها، حلوة عذبة، كأن واقعها المر قد تبخر وذهبت مرارته، وحين عاد وتكثف ليتساقط، في الحلم، قطرة، قطرة، صار «قطر العسل»! 

كل عام ونحن نحتفل بالخير في بلادنا، وإلى اللقاء معك يا سيدي في عيد ميلادك القادم بمشيئة الله سبحانه.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق