الثلاثاء، 15 مايو 2012

إنعاش ذاكرة
إصطف الناصريون، ومن يؤازرهم، خلف حمدين صباحي يمنون النفس من خلاله بعودة لوهم كبير اسمه "الحقبة الناصرية"؛ زوّقوها ومشّطوها وألبسوها ثوب التشابه المستحيل مع الثورة الشعبية 25 يناير 2011 وأعدوها لـ "التوريث"، بزعم جدارتها، وهي "حكم عسكر" على أصوله،  لرفع راية الديموقراطية والدولة المدنية على ربوع مصرنا الحبيبة على يد الابن البار لزعيمهم جمال عبد الناصر: الأستاذ حمدين صباحي! وبما أنني واحدة من شهود تلك الحقبة، التي تحشد لها المساعي لإعادة إنتاجها، والعياذ بالله، أرى أن من حق بلادي أن أشهد شهادتي لإنقاذها من تكرار الخديعة.

عاش عبد الناصر بعد هزيمته في 5 يونيو 1967 ثلاث سنوات وثلاثة أشهر و23 يوما حتى توفّاه الله في 28 سبتمبر 1970: سماّ أو غما والله أعلم.

حين ننظر إلى هذه الفترة الآن لا نستطيع أن نهرب من مواجهة حقيقة لم تخف على أحد، وإن أخذت أسماء عديدة، وهي أن عبد الناصر كان يتحلل وينكمش تدريجيا، وأخذت أوراق لعبه السياسية تتكشف بجلاء حتى لمحبيه والباقين على حماسهم لشخصه، ومع إحساسه بفقدان هيبته، خاصة عندما قامت أول مظاهرات معارضة له  1968 بعد صدور أحكام ما كانت تعرف بقضية الطيران، لم يجد عبد الناصر حرجا في أن يدين أسلوب المظاهرات بشكل مُطلق حتى تلك المظاهرات الوطنية التي شارك فيها في الثلاثينيات بالإسكندرية، والتي طالما افتخر بها كدليل على وعيه الوطني منذ صباه، وظهر عبد الناصر في التلفزيون يلقي خطابا غاضبا على الأمة ويعالج موضوع مظاهرة الطلبة الإحتجاجية بأسلوب ناظر مدرسة يمسك العصا وإن كان يؤجل استعمالها لعدم ثقته في قوته بعد وتكلّم عن الطلبة على أساس أنهم: "شويّة عيال مش فاهمين حاجة"، وقال إنه لن يعاقب ولن يعتقل أحدا منهم لكنه سيتركهم لآبائهم يؤدبونهم، على أساس أن الآباء قد ذاقوا بطشه الذي لم ينسه أحد بعد!، مشيرا، بلا خجل، لماضيه العريق في إصدار قرارات الإعتقال ظلما وبلا روية قائلا: "أنا كنت أقدر أحبسهم، أنا لمّا عُزت في 1965 أصدرت قرارا باعتقال 18 ألف في يوم واحد!"، متناسيا أن تراكمات هذه المظالم هي التي أدت إلى هزيمته وفشله.

وأدرك الناس أن عبد الناصر لم يتسامح مع تلك المظاهرات المعبرة عن الشعب لطيبة قلبه ولكن لأنه ساعتها لم يكن قادرا على أن يقوم بدور الوحش الكاسر، الذي أجاده و تعوّده  منه أهل مصر قبل أن تسقط آخر أوراقه وتكتشف أكاذيبه بفضيحة حرب الأيام الستة، مما جعله يلجأ إلى تكتيكه بإشعال البلد في ضجة بلا طحن، وبدأ ضجته الفارغة بإنزال قيادات حزبه السرّي، (حزب الطليعة الذي أنشأه سريا على الشعب للتجسس علي شهيقه وزفيره)، تقيم يوميا ندوات للإجابة على تساؤلات الناس: لماذا لا نكوّن جيشا شعبيا نخوض به مقاومة تنطلق عبر الضفة الأخرى من القناة ولا تعطي المحتل فرصة يهدأ فنعوّق استقراره حتى ننتهي من إعادة بناء الجيش، مثلما كان الشعب المصري يفعل ضد معسكرات المحتل الإنجليزي على القناة مطلع الخمسينات قبل 23 يوليو 1952. وحضرت وقتها، بصفتي الصحفية، مؤتمرا عقده السيد عبد المجيد فريد في حي العباسية، الذي أسكن به، وكان يقول للناس ببرود مع استخفاف بمقترحاتهم ما مفاده: لاتشغلوا أنتم بالكم بهذه الموضوعات واستمروا في عجلة الإنتاج، وثقوا أن القيادة السياسية عين ساهرة لا تنام، عليكم الهدوء فحسب وإن شاء الله إن شااااااااااء الله سنخوض المعركة...............!. أيقنت في لحظتها أن هذه الندوات ليست إلا حفلات "زار" لإنهاك الشعب المجروح في دوامتها إلى أن تمتص طاقة حزنه العصبية، وتهدهده لينام ولا يفتح عينيه على المصائب التي توالت بعد الهزيمة؛ من قبول للقرار 242ــ الذي يتضمن قبول مصر بحدود آمنة معترف بها لإسرائيل وهو بمثابة بداية الفتق نحو كامب ديفيد فيما بعد ــ إلى مبادرة روجرز إلى مذبحة المقاومة التي ارتكبها الملك حسين ملك الأردن، وكانت المقاومة الفلسطينية تذبح في سبتمبر الأسود 1970 والشعب المصري يضع أذنه على المذياع ويستمع إلى صرخات العطاشى ونداءات المقاتلين وهو مذهول لتلكؤ عبد الناصر ثم تكوينه لجنة من الباهي الأدغم من تونس وجعفر النميري من السودان والقذافي من ليبيا للذهاب وتقصي حقائق ما يحدث وتقديم التقريرعنه!

........................................................................
........................................................................

أقفز فوق تفاصيل هامة ملخصها صرخة نجيب سرور: "مصر يامه يا منكوبة دايما بالخيانة، والخناجر في الضهور"، كان كل الصادقين من أبناء مصر يشعرون أن دفّة الأمور لم تكن تسير وفق ما يجب أن يكون بلا استعراض واجهات دعائية كاذبة؛ كان عبد الناصر يتكلم بالنهار عن النضال وما يجب أن يسترد بالقوة وفي النهار نفسه كانت سلطات قمعه تحرق كل بذور ونوايا النضال، وكان محمد حسنين هيكل يخرج لنا كل جمعة بأفيون "بصراحة"، يغالط في ضوء الشمس كل الحقائق الصارخة مؤكدا أننا لا نستطيع أن نكون مثل فيتنام لأن فيتنام دولة فقيرة وشعبها بدائي وليس لديه مايخسره، أما شعب مصر فشعب عريق لديه السد العالي والأهرامات ولا يمكن أن يعرضها للدمار والنسف بخوضها حربا شعبية مثل حرب فيتنام! ــ (رجاء مراجعة مقالات هيكل بالأهرام مابين 6 \ 1967 إلى 12 \1967) ــ واستمر هيكل يركز على الحل السلمي وفقا لقرار 242، المعترف بحدود آمنة لإسرائيل، وأن الحرب الوحيدة الممكنة هي حروب إستنزاف لفرض الحل السلمي، معززا رأيه بأننا لا يمكننا محاربة إسرائيل لأن الحرب معها تعني الحرب مع أمريكا ونحن لايمكن، حسب تعبيره، "أن نناطح أمريكا"، وخرج لنا باختراع خرافة اسمها "تحييد أمريكا" مما دعا الشاعر أحمد فؤاد نجم إلى التهكم بقصيدة تبدأ "إيه رأيك إنت ياويكا بحكاية تحييد أمريكا؟".

كانت مقالات هيكل السامة دائبة السعي لتحطيم وسحق معنويات الشعب المصري، تبدو ديناصورا ساديا كريها ومع ذلك كانت ترضي شرائح من المثقفين المهزومين؛ الثوريين مع وقف التنفيذ: " اليويو والحلاويللا" وهم "بتوع نضال آخر زمن في العوامات" كما وصفهم أحمد فؤاد نجم بدقة، وكانت تلك الشرائح، كعادة أمثالها في كل زمان ومكان، تبحث وسط الخراب عن المكسب الذاتي والمصلحة الشخصية، وترى في راية المقاومة الشعبية ما يهدد استقرارها وراحتها لذلك كان من المنطقي أن تتبنى مقولات هيكل وتجده "العاقل" و "الحكيم" إذ وجدت في "صراحته" الكاذبة صياغة رائعة لما يجول في ضمائرها ويخدم مصالحها، وكان أهم ما أبدعه هيكل هو إعلانه أننا "إنتصرنا في حقيقة الأمر" ــ رغم الشهداء والإحتلال ــ ونصرنا هو: أن نظام عبد الناصر لم يسقط. وبالفعل صرنا نحتفل بعيد للنصر رغم الهزيمة!

هل منّا من يريد إعادة إنتاج كل هذه الكوابيس؟
 

هناك تعليقان (2):

  1. الاستاذة الفاضلة

    بعد هذا المقال الرائع الذي اضاف الي معلوماتي لاني

    لم اعش هذه الفترة

    ولست ضد او مع عبد الناصر

    ولكن لي تساؤل

    يذهلني كم الملايين التي خرجت في جنازة عبد الناصر

    ويذهلني ايضا

    ان يعترف رئيس بمسئوليه عن هزيمة البلاد

    في حرب 67 ويعلن تنحيه

    ويخرج الملايين لاستبقاؤه رعم مرارة الهزيمة

    السؤال الان

    هل هذا عيب في الشعب المصري الذي انا احد افراده وافخر بذلك

    الذي تناسي الهزيمة وخرج يهتف ببقاء جلاده

    ارجوا الاستزادة منكي علما

    تحيتي لاستاذتنا الفاضلة

    ردحذف
    الردود
    1. خرج الناس بعد تنحيه يوم 9 يونيو في منطق: رايح على فين وسايب الدنيا تضرب تقلب؟ إبق وتحمل المسئولية ولا تهرب! وكان هناك خوف أن تكون البلاد في مأزق لا ندريه مثل فرض إرادة إحتلال فوق مصير البلاد وأشياء نفسية أخرى مُربكة، ثم خرج أتباعه يوم 10 يونيو ليحوّلوا الأمر إلى ذاته ومنطق الوثنية الناصرية قائمة حتى الآن حتى أن كاتبة اسمها نجلاء بدير كتبت في عمودها بالتحرير منذ أشهر أن الهزيمة لم تشعرها بالخذلان إنما موت عبد الناصر هو ما أشعرها بالخذلان! ووصل الأمر بنائب في البرلمان يرقص إبتهاجا بعودة عبد الناصر للحكم غير آبه بدماء الشهداء المخذولين على أرض سيناء، وأرجو أن تراجع قصيدة أمل دنقل البكاء بين يدي زرقاء اليمامة لأنها تصوير دقيق لحالة الناس وقتذاك.
      وما حدث في جنازته كان حالة هستيريا خوف على البلاد تداخلت مع الخروج من الكبت والرغبة في التظاهر؛ أنا شخصيا خرجت بهذا القصد متشوقة للتظاهر مع الزخم الشعبي، يعني كانت جنازة شبعنا فيها لطم بعد حرمان طويل من التعبير! شعبنا عجوز وعظيم وحكاياته لها أعماق غويطة.

      حذف