الأربعاء، 9 مايو 2012

الزهور هناك لأنها هناك

يأتيني الاكتئاب متسللا على غرة حين أصحو ذات صباح فأجدني راغبة عن استقبال اليوم؛ متخيّلة تصوري عن النكوص يتحقق فأتضاءل حتى أصير جنينا يتناقص إلى أن يصير بذرة تسقط وأختفي. يتملّكني تصور الاختفاء وقد تحقق إلى درجة أن يدهشني صوتي يصدر عني أو حركة من ذراعي. يعود إلي الوعي تدريجيا بأني مازلت وعندما أجدني مازلت أعرف أن النكوص لا يعدو تصوّر لا يمكن أن يتحقق، من ثمّ تبدأ محاولتي لسحبي خارج البئر؛ مثلما تكون محاولات سحب سيارة مغروز عجلها في الرمال.

أمتلئ بالمسرّة ورغبة الإجهاش بالبكاء. هل تذكرين الخسوف؟ أذكره: الشمس البيضاء، الجير، صمت، خرفشة عربة، صمت، ضجيج صوت أطفال، وجه من خلف عريشة، طفل أفلج يعمل في ورشة سيارات، بقع هباب سوداء على خدّيه لكن أسنانه نظيفة وبياض عينيه أزرق. وجه محبّب يكبر، يقترب، يضحك، يعبس، يتكدّر، يغمض في الشمس، ينظر إليْ، مصباح، دفء وردي، أمن مطلق، ردّة جفن، نظرة لئيمة تسقط، إنشطار، هاوية، غياب لكل شئ، ليس هناك العوض عن الوهم. لا يبرحني الوجه، يأتيني بينما أهرب في عبور مفترق، يخرج من منحنى، يبرز في تبديل قدم، وأنا أدلف بوابة وأصعد سلّمة، يأتيني في منتصف الخطوة، يخرج، يكبر، يقترب ولو رأيت وجهي منعكسا على زجاج يكون مقفلا بإحكام؛ جيدا نخفي في الشارع وجهنا خشية لو أخرجت وجهك يأكله الناس ويتخذونك هزوا، نحمل وجهنا، نحمل أنفسنا، خضرتنا، كمية الحب يحملها الإنسان ولا يدري أين يلدها، يظل يحوم مثل قطة تبحث عن ركن أمين تستقر فيه بهراتها العمياء، لحظتها تكون القطة في أقصى حالات حنوّها سُقيا وإطعاما، تكون كذلك في أقصى حالات توترها وتأهبها ضد شراسة العالم الخارجي. الحب: الركن الذي يستطيع الإنسان أن يفتح وجهه؛ أن يبوح، أن يقدر أن يبوح بضعفه كاملا، ومن ذا الذي لا يتمنى أن يعلّق على ظهره لافتة: "هش تناوله بعناية"!

زهور صفراء فاقع لونها جعلتني ألاحظ شجرة أمام البناء ترتفع فروعها فأراها من شرفتي. هذه الزهور خرجت رغم أن ليس هناك مبرر واحد حولها يشجّعها على الخروج أو يبدي اهتماما بخروجها من عدمه، لكنها هناك بكل الثقة الذاتية المدهشة؛ تسمع الطلقات والصرخات والمجزرة وتستمر: زهور صفراء فاقع لونها تسر الناظرين.

في مسرحية بيتر فايس "مارا \ صاد" يأتي قول للمركيز دي صاد: "أنا أكره الطبيعة"، وكان يعني أنه يكره اللامبالاة القاسية للطبيعة، هل هذه الزهور لامبالاة من الطبيعة أم هي "الشّــعر"؟

الطلقات والصيحات تصاعدت بالمجزرة حتى الفجر وأنا أطل من شرفتي صوب ساحتها بالميدان، مستأذنة الأشجار وزهورها، وأعرف أنه على الرغم من كل شئ لابد أن يستمر إنبثاق "الشـعر": عصارة تتغلغل بمنطقها الخاص وضرورتها الخاصة، تمتد بنبل وحزن وإصباح، تصعد بجوف الشجرة ، تثبت و تقوى معها تلقائية مقاومة القبح.

العصارة حتى لا يجففنا الاكتئاب، حتى لا ننغرز في الرمال فنتشقق ونتقوّض ونُجتث، محال أن يحدث هذا: الطبيعة لا تسمح: الزهور هناك لأنها هناك.

يسقط  يسقط  قُبح المشهد!

هناك 3 تعليقات:

  1. سيدتي
    مع احترامي لخصوصية اللحظه التي صورتها بكلماتك. إلا انني يجب ان اسجل إعجابي بأسلوب وتسلسل الكلمات وتدفق المعاني وتركيزها

    ماشاء الله

    ربنا يحفظك ويخليكي لنا

    ردحذف
    الردود
    1. هذا الخاص هو العام لأن العام هو الخاص.

      أشكرك.

      حذف
  2. الأستاذة الفاضلة ألف تحية من الجزائر
    أرقتني ولازالت تؤرقني إشكالية الخاص و العام في الفكر العربي منذ العشرينيات من العمر لما خصصت لها من شبابي حيزا واسعا لأتناولها بالبحث و التمحيص بدايتها كانت في بحثي الأكاديمي الأول عندما اخترت لها نموذجا، المفكر أنور عبد الملك في أطروحاته حول الخصوصية المصرية و الاستمرارية التارخية التي وجدها عند السلطة المركزية التي يحميها واد النيل . بعدها وبعد مرور الأيام بدا لي أنها تحتاج إلى المزيد من البحث و التمحيص، ولما تهيأت إلى بحثي الأكاديمي الثاني وجدت نفسي وجها لوجه أمام ظاهرة جديدة لم يألفها الفكر العربي ولم يناقشها إنها ظاهرة العولمة التي طرحت على العرب وفكرهم أسئلة جديدة .
    أسهمت ضمن من أسهم في تناول هذه المعضلة ، وقبل أسبوع وصلتني دعوة من المغرب الشقيق ومن مؤسسة محمد عابد الجابري لحضور ندوة فكرية حول، العولمة و الهوية .
    وعلى أهمية وجدية تلك الإسهامات الفكرية إلا أن الفكر العربي لا يزال " يترنح "بين من يرى أن أجدادنا لم ينتجوا إلا شيئا تافها لا يستحق الذكر، وآخر يدعو إلى الاستقلال التام للذات العربية .
    وبين هذا وذاك لم يبلور العرب و فكرهم نظرة لا تلغي العام و لا تتنكر للخاص
    أقول هذا أيتها الفاضلة حتى أتهرب من الجواب على تلك الجملة الجميلة و الرائعة التي فتنتني
    الحب: الركن الذي يستطيع الإنسان أن يفتح وجهه؛ أن يبوح، أن يقدر أن يبوح بضعفه كاملا، ومن ذا الذي لا يتمنى أن يعلّق على ظهره لافتة: "هش تناوله بعناية"!

    ردحذف