السبت، 28 يوليو 2012


الإنجازات لا تكفر عن المظالم


 انني من الجيل الذي استنشق 23/7/1952 بكل رئتيه، وصدق كل كلمة، وآمن بكل وعد، وأحب بكل حماسة "الفتية الأبرار" الذين قال عنهم سيد قطب: "إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى"؛ من الجيل الذي تغاضى عن "جرائم" وفضل أن يراها "هفوات" في سبيل تحقيق نهضة الوطن وترجمة "الخطب والتصريحات" إلى "مكتسبات شعبية" وتحويلها من ورق " نبله ونشرب ماءه" إلى واقع يقف على الأرض، لكن "الشقشقات" و"الطقطقات" لم يكن من الممكن لها بعد 5/6/1967 أن تصلح ساتراً للانتهازية، والزيف، والكذب، والدجل، والسياحة السياسية، والسياسة السرابية، ومهارة الحواة في ابتكار الأسماء البراقة للفشل والرسوب، والهوة المقززة بين القول والفعل، والانفصام بين الشعار المعلن والتطبيق المخالف، بل المناقض، مع استمرار المنهج الاجرامي: منهج القمع والارهاب؛ منهج قطع الألسنة وجدع الأنوف وسحق الكرامة، منهج السجن والاعتقال والتعذيب للشبهة وللّفتة ولرفة الرمش في العين. ورغم  أن قلبي يوجعني بما لا أحتمل إلا أنني أستعين بما سرده الكاتب يحيى مختار في روايته "جبال الكحل"  أتلمس منها  بعض الحيثيات التي نؤكد بها أن الإنجازات لا تكفر عن المظالم!

«جبال الكحل» رواية عن "النوبة"، بقلم فتى من فتيانها، يحيى مختار، بها يروي، بعد مرور السنوات، كيف تم إجلاء أهلها عنها لبناء السد العالي، وحين تنتهي من قراءتها تعرف أنها كانت "حالة" كل الوطن؛ الذي حين يجتث بالقسوة لا يكون لأي شيء فائدة مهما حسنت النوايا واعتذرت الشعارات.

 يقول يحيى مختار: "الجنينة والشباك بالنوبة القديمة هي قريتي التي ولدت فيها عام 1936 بعد ثلاث سنوات من التعلية الثانية لخزان أسوان"، وفي مقطع آخر يقول: "... كان بناء السد العالي حلما قوميا استبد بنا... وتحقق حلم بناء السد ومعه جاء الغرق والتهجير، وكنا نعي أننا سنقتلع من جذورنا، ورغم ذلك قمنا قومة رجل واحد لبنائه ولندافع عن حقنا في تطوير حياتنا نحن حفدة البناة العظام، ولكني كرهت البيروقراطية والإهمال وعدم الإدراك الواعي والإحساس بالمسؤولية القومية والإنسانية التي عالجت أوضاعنا، هذه البيروقراطية وقصور الرؤية الذي تعامل مع الإنسان النوبي باعتباره كمّا ينبغي نقله من مكان لمكان يحشره فيه ويكون بذلك قد أدى ما عليه..."! تتكرر كلمة "البيروقراطية" لأن الكاتب يحيى مختار متأدب لا يريد أن يحدد بصريح العبارة مسؤولية "الحاكم" ـ عبد الناصر ـ الذي ترك العنان لبيروقراطية مسعورة تنهش بحرية مطلقة حقوق الناس في كل الوطن، تحت لافتات أنبل الشعارات وأسمى الأحلام.

يرسم يحيى مختار بمفردات: "السجن"، "الاعتقال"،  "التاريخ"، "التهجير"، "مهجرنا الجديد بكوم امبو"، "تعليات الخزان"... الخ، أجواء روايته التي اختار لها شكل "اليوميات" ليتمكن، بعفويتها، من قول كل خاطرة طرأت  غدر الممارسات التي صاحبت إجراءات تهجير أهل النوبة من الأرض العريقة، التي كان حتم إغراقها، إلى "كوم أمبو" التي أطاحت بالوعود وخيبت بمبانيها الإسمنتية كل الأحلام ببدائل حانية تهون آلام الفراق.

21 مارس 1964 تم تهجير نصف أهالي القرية: ثمانية صنادل رست تباعا، وتكدس الناس وحاجياتهم في سبعة صنادل وخصص الثامن للبهائم. هي نفسها الصنادل التي كانت تنقل فيها الماشية من السودان والصومال إلى أسوان والدراو.  وفي ذكر لما نشرته نسخة قديمة من جريدة الأهرام في  الصفحات الأولى ، بها موضوع مهم عن التهجير، يقول الشاهد: ".... بعد أن كانت معظم النفوس قد اطمأنت للوعود بالدور الجديدة والأراضي التي جار استصلاحها لتوزيعها علينا. الأرقام منشورة حقائق قاطعة ومستفزة. مجمل التعويضات التي صرفت عن كل ما نمتلك بطول البلاد وعرضها للمقيمين والمغتربين معا بلغت مائتي ألف جنيه فقط ، في حين كان ما صرف للذين قاموا بحصر هذه الممتلكات أربعمائة وستون ألف جنيه، إضافة إلى مائتين وخمسين ألفا أخرى كمصروفات إدارية... الخال جعفر جنينة كان أكثر المصعوقين بمفارقات الأرقام... قال في صوت مذبوح وحزين: كيف لا تقدرون للحكومة النزيهة حرصها الشديد على أن توصل لنا حقوقنا التافهة، متكبدة في سبيل ذلك هذه المبالغ الباهظة... لقد شحبت الفرحة وذابت وتبخر خطاب الزعيم من ذاكرته. قام فجأة وأخرج من صديريته المظروف الذي يحتفظ فيه بعناية بالغة بكتيب وزارة الشؤون، نزع المظروف ومزق الكتيب وألقى بالنثار في النيل وهو يدمدم: مهاجرون وأنصار؟... أين الأنصار ... عيناه لم يكن يطل منهما إحساس من ظلم، كان إدراكا فاجعا بالخداع. خدعه الذين ادعوا أنهم أنصار. الظلم رغم أنه ظلم، فهو أكرم للمظلوم من مهانة المخدوع الذي ضرب على قفاه وركلت خلفيته بالمركوب"!

توقفوا عن معايرة الشعب المصري بالإنجازات فهي، حتى لو صدقت، لا يمكن أن تكفّر عن المظالم، كما أن الأوجاع لا تُنسى بالتقادم!




هناك 8 تعليقات:

  1. الأستاذة الفاضلة كل رمضان وأنت بألف خير

    المسألة النوبية، إن صح تسميتها مسألة ، لما تناولها أحدهم على النت قرأت تعليقات كثيرة أدركت انني اجهل جوهرها لأن معظم تلك التعليقات كانت حاسمة حول عدم احقية أمتلاك الأرض بدعوى أنها ملك المجموعة الوطنية

    ردحذف
    الردود
    1. أنا لا أتكلم عن المسألة النوبية ولكني أستشهد بقلة الإنسانيةالتي عومل بها الناس عند تهجيرهم من أرضهم لبناء السد العالي وأسلوب المن والأذى الذي يتبعه الناصريون حتى الآن!

      ما رأيك في محي الدين العمى يمور أو عميمور؟

      حذف
  2. الأستاذة الفاضلة كل رمضان وأنت بألف خير
    محي الدين عميمور ومن الآخر ،كما تقولون في المحروسة ، كان يريد أن يكون حسنين هيكل هواري بومدين الذي اشتغل معه ،أو عنده ، مستشارا إعلاميا ، وبعد رحيل هواري بومدين ومجيء الشاذلي بن جديد سنة 78 تقلد عدة مناصب منها سفير الجزائر في باكستان وبعد الانقلاب العسكري على الجبهة الإسلامية سنة 92 تقلد أيضا عدة مناصب منها وزيرة الثقافة بعدها عضوا ما يسمى مجلس الأمة ،طبعا عندنا مجلسان واحد للشعب وواحد للأمة كما حاول التقرب من الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة يعني بالمختصر المفيد رجل" بتاع كله "
    وهو يعد من الجزائرييين المهاجرين للمشرق العربي ، لقد ولد في فلسطين التي هاجر إليها والده و نشأ هناك ولهذا لهجته حتى الآن مشرقية وأثناء دراسته الطب بجامعة القاهرة تعرف على بعض قيادات الثورة هناك منهم هواري بومدين الذي كان طالبا بالأزهر وبعد الاستقلال دخل الجزائر
    وإضافة إلى عمله السياسي يسهم في الصحافة الجزائرية و العربية وله عدة كتب في قضايا مختلفة آخر كتاب صدر له حول علاقة ألقذافي بالجزائر، عموما هو عروبي ناصري .

    ردحذف
  3. حقاً لقد كان عهداً كثير المظالم شديد الخداع
    و مازال شباب صغير السن يرى للأسف في عبد الناصر صورة البطل و يرفض رؤية الحقيقة

    كنت أود سؤال حضرتك ما رأيك في هذا الكتاب ؟
    http://egyptioneng.blogspot.com/2009/12/blog-post.html

    ردحذف
    الردود
    1. أي كتاب؟

      برجاء تسهيل مهمة استخدام الرابط المرفق مع رسالتك ولك الشكر.

      حذف
  4. الردود
    1. لا أعرفه، ولكن لي كتاب عنوانه الخديعة الناصرية: شهادة مواطنة مصرية على سنوات عاشتها، كما أن كتاب فتحي رضوان "72 شهرا مع عبد الناصر" في غاية الأهمية.

      حذف