الثلاثاء، 11 يونيو 2013



إطلالة تخفي عن عيني التشـوهات


 عبر النافذة العريضة  أتطلع إلى حدائق الزعفران، هذا الإسم الجميل الذي تقلصت حقيقته كثيرا على مر السنين، منذ تحول المكان من قصر للملك السابق فاروق إلى جامعة عين شمس، غير أن الزاوية التي أنظر منها تجعلني أقتنع بحديقة كلية العلوم الكثيفة؛  إخضرار تتدرج درجاته من المدهم إلى الأفتح والأفتح وفي البؤرة يقتحم الإخضرار ذلك الزهر البنفسجي ،الذي يتحول بالتدريج إلى البرتقالي مع توزيعات من الأحمر والأصفر.

ماشاء الله: الإطلالة من نافذتي ومن شرفتي تخفي عن عيني التشوهات المعمارية المنبثقة من الأبنية المنزرعة فوق الحدائق.  الفضاء متسع أمامي على مدى ناظري  يتوزع على مساحته مسجد النور وميدان العباسية والشاهقات المحاولات نطح السحاب من دون ضرورة.

هنا بيتي الذي أحبه وأحتفل بانتقالي إليه منذ 18 سنة.  مرت الأعوام سريعا وما زلت لاأتوقف عن تقبيل جدرانه :  الحمد لله الذي رزقني هذا من دون أن يكون لي حول أو قوة.  إنه المعادل لمنزل طفولتي 9 شارع العباسية العمومي بين أعوام 1944 و 1950 قبل إنتقالنا القسري إلي 116 بالشارع نفسه ، بعد أن باعه مالكه تاجر السجاد الإيراني ميرزا مهدي رفيع مشكي  إلى جارنا التاجر اليهودي زكي وهبة ، بــثلاثين ألف جنيه ، الذي باعه بعد قليل ،بمكسب كبير، إلى الجزار صاحب القرار بهدمه.  فرحت الأسرة بالبيت الآخر الجديد وكرهته من أعماقي نفورا من طرازه المعماري الخمسيني الذي يرجح قيمة الضرورة فوق قيمة الجمال ، التي تمثلت لي في بيتنا المغتال بالهدم  بساطور الجزار.

 عشت بافتقادي بيت طفولتي بواجهته المزركشة وإطلالته على ثلاث جهات أصلية : الشمال الذي نسميه  بحري ، والجنوب الذي نسميه قبلي ،والشرق ، لاتختفي عنه الشمس من شروقها حتى غروبها ، الذي كنت أتابعه من الشرفة البحرية محتقنا ساقطا دائخا على شجر الشارع وأشجار حديقة البيت المقابل ، فيللا مشــكي. الشارع كله ، شارع العباســية مابين ميدان الظاهر وميدان فاروق (الجيش فيما بعد 23 \ 7 \ 1952) ، كان مرصعا بالفيللات وحدائقها الغناء والبيوت ذات النسق الموحد بحدائقها الصغيرة الملحقة بسكن الطابق الأول .  

 لاتنمحي الصورة من ذاكرتي ،كلما استعدتها استعدت معها ، أجمل ما غنى رياض السنباطي في الأربعينات ، قصيدة "فجر" للشاعر أحمد فتحي: "  كل شئ راقص البهجة حولي هاهنا ٍ"!

كان لدينا في مكتبتنا بضعة أعداد من مجلة قديمة اسمها "الحديقة والمنزل"، إحتفظت بها والدتي لسبب ما لم أعرفه ، شغفت بتصفحها إعجابا باسمها الثنائي وبوقع كلمة "حديقة" الذي أفضله عن "جنينة"، وظل شغف الجمع بين الحديقة والمنزل لايفارقني ولو أصبح منزلي الآن في الطابق 12 .

راضية بإطلالتي هذه عليك ياحدائق الزعفران :  صحيح أنني لا أرى عليك إحتقان الغروب ، ماعليك شئ ، تكفيني عافية الإشراق وشريط غناء عبد الوهاب :  " أنا هيمان وياطول هيامي ، صور الماضي  ورائي و أمامي..." ومشبوك وراءها : " أنا من ضيع في الأوهام عمره ، أنا أأأناااااااااااا  من ضيع في الأوهام  في الأوهام في الأوهام عمره ، نسي التاريخ أو أنسي ذكره"!



هناك 3 تعليقات:

  1. عناية الاستاذة الفاضلة وفى صفات كتيير جميلة لسيادتك
    ليتنى اجيد سرد الكلمات اونظمها مثل اناقة كتاباتك، لاعبر عن اعجابى بتدوينة سيادتكِ "إطلالة تخفي عن عيني التشـوهات" فكنت اقرأ كأننى أري ودى عبقرية من حضرتك هنيئاً لابنتك بيك ونحن طبعا .

    ردحذف
  2. ربنا يبارك فى عمر و صحة حضرتك و يجعل الخير كل الخير لك،

    لسان حالى كل السكر من يديها.

    ردحذف