السبت، 4 ديسمبر 2010

جديد دكتور محمد عبد الفضيل القوصي حفظه الله

القراءات الجديدة للقرآن الكريم‏...‏بدعة العصر‏(2-2)‏
بقلم: د.محمد عبدالفضيل القوصى 

حين تعود الأمة بذاكرتها إلي العصر النبوي الزاهر فإن أحد المشاهد التي تظل ماثلة في وعيها‏:‏ مشهد الصحابة رضوان الله عليهم‏,‏ وهم يتلقون آيات القرآن الكريم من فم الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم‏.

ثم يسارعون إلي إنفاذها وتطبيقها دون إبطاء أو تسويف‏,‏ وما كان هذا الإنفاذ والتطبيق ليتم علي وجهه إلا إذا كان لتلك الآيات الكريمات في أذهانهم‏:‏ معان محددة‏,‏ ودلالات منضبطة‏,‏ ومفاهيم مستقرة‏,‏ ثم تتعاقب السنون فإذا بعلماء الأجيال التالية ـ من الأصوليين والمتكلمين والفقهاء وغيرهم ـ وهم عاكفون علي تلك المعاني والدلالات والمفاهيم يؤصلون منها الأصول‏,‏ ويؤسسون لها الأسس‏,‏ لكي تكون سياجا منيعا قوامه العلم الرصين والمعرفة الدقيقة التي تصون قدسية القرآن الكريم من عبث العابثين وزيغ الزائغين‏,‏ وجرأة القائلين علي الله تعالي بغير علم‏.‏
وهكذا انتهت الدلالات والمضامين القرآنية إلي وعي الأمة‏:‏ ثابتة راسخة مستقرة‏,‏ حتي نبتت طائفة التنوير والحداثة‏,‏ فإذا بها تري في هذا الثبات والرسوخ والاستقرار‏:‏ حائطا شاهقا يحول بينهم وبين‏'‏ تطويع‏'‏ تلك الدلالات والمضامين لما يظنون أنه من مقتضيات التنوير‏,‏ واستحقاقات التقدم‏,‏ ورهانات الحداثة‏,‏ كما يحول بينهم وبين ما يشتهون من‏'‏ إقحام‏'‏ مفاهيمهم ذات الجذور العلمانية علي نسيج الإسلام الحي‏,‏ و‏'‏إسقاطها‏'‏ علي كيانه الراسخ‏!!‏
إنه إذا كان‏'‏ منطوق‏'‏ القرآن الكريم بألفاظه وعباراته هو‏'‏ الجانب الثابت‏'‏ منه فإن البشر حين يتلقونه ـ كما تزعم تلك الطائفة من التنويريين والحداثيين ـ يقرأونه‏'‏ قراءات‏'‏ شتي بحسب ثقافات عصورهم‏,‏ ويعطونه دلالات تتجدد وفقا لتجدد الواقع الذي يعيشونه‏,‏ دون ثبات لقراءة ولا دوام لدلالة‏,‏ فلا فضل لقراءة علي أخري‏,‏ ولا يقين في قراءة دون الأخري‏,‏ لأنها جميعا‏'‏ قراءات‏'‏ نسبية ودلالات متجددة‏,‏ وبتلك القراءات النسبية التي يفرزها‏'‏ واقع‏'‏ البشر‏,‏ وثقافة عصورهم يتحول النص القرآني إلي‏'‏ منتج ثقافي‏',‏ يتحرك تبعا لتحرك‏'‏ الثقافة‏',‏ ويتبدل طبقا لتبدل الواقع‏,‏ بحيث تكون الثقافة هي الفاعل‏,‏ والنص هو المنفعل‏!!‏
لا مناص إذن عند تلك الطائفة ـ بمقتضي التحول بالقرآن الكريم إلي‏'‏ منتج ثقافي‏'‏ من أن يكون فهمه مرهونا ـ لا بضوابط أو دلالات اللسان العربي الذي نزل به ـ بل بثقافة من يتلقونه من البشر‏,‏ ومرتبطا بمكونات تلك الثقافة وقيمها‏!!‏
فهذا النص القرآني ـ كما يقول قائل منهم ـ لا يتضمن‏'‏ معني‏'‏ مفارقا مطلقا مقدسا‏,‏ بل إن تأويله البشري عند من يتلقونه ـ هو الذي يضفي عليه‏'‏ المعني‏'‏ الذي تنتجه وتـنضح به ثقافة العصر السائدة‏!!‏
إذن فالخطاب القرآني بحكم كونه‏'‏ منتجا ثقافيا‏'‏ لا يفهم ـ كما يقول ذلك القائل ـ إلا من خلال ثقافة الظرف الاجتماعي المحيط‏,‏ أما حين يتغير المجتمع وينتقل من طور إلي طور ومن ثقافة إلي أخري فحينذاك يتبدل ذلك الفهم حتما‏,‏ لأن السياق الاجتماعي الخارجي‏:‏ هو السياق المنتج‏,‏ ومن ثم فهو السياق الذي يتحتم علي النص القرآني أن يتواءم معه ويتسق مع متطلباته‏,‏ حتي ولو أدي ذلك إلي إسقاط كثير من الأحكام النصية بوصفها أحكاما مرتبطة بتاريخها‏!!‏
وهكذا يتم وبجرأة منقطعة النظير‏:‏ الدنو بقدسية القرآن الكريم‏,‏ والهبوط بمستوي خطابه الإلهي إلي أن يكون فارغا من المحتوي‏,‏ خلوا من المضمون‏,‏ لأن تشكيل محتواه ومضمونه ودلالاته ـ في ضوء تلك القراءات‏:‏ إنما هو صنيعة السياق الاجتماعي والثقافة السائدة‏,‏ ولأن هذا الخطاب الإلهي ـ في هذا الفهم الكليل ـ ليس سوي مجموعة من الرموز والدلالات الاحتمالية المفتوحة‏,‏ بوسع كل ثقافة أن تفسرها في ضوء مقتضيات عصرها‏,‏ وتبعا للقيم التي تسوده وتتحكم فيه؟‏!!‏
نقاط عدة ينبغي تأملها مليا في هذا الصدد‏:‏
أولها‏:‏ إن هذا الفهم الكليل قد تحول بالخطاب القرآني من أن يكون ناطقا‏'‏ بمرادات‏'‏ الله تعالي من عباده‏,‏ وهو ذلك المعني الجوهري البدهي الذي يتضمنه الإيمان‏:‏ إلي أن يكون ناطقا‏'‏ بمرادات‏'‏ البشر أنفسهم من أنفسهم‏,‏ وبذلك شوه هذا الفهم علاقة الدين بالإله تعالي‏,‏ بل شوه البعد الغيبي كله‏,‏ وكذا البعد الأخروي بأسره‏,‏ فأي معني للحساب والجزاء في‏'‏ دين‏'‏ لا يستشرف إلي ما وراء‏'‏ ثقافة العصر‏',‏ وسياقاته الاجتماعية‏,‏ ولايعدوهما قيد أنملة ؟
ثانيها‏:‏ إن التحول بالقرآن الكريم إلي‏'‏ منتج ثقافي‏':‏ يهدم‏'‏ مطلقية‏'‏ القيم الخلقية وعموميتها‏,‏ فالقيم في القرآن الكريم عامة مطلقة‏,‏ فالحق هو الحق‏,‏ والخير هو الخير مهما تبدلت السياقات الاجتماعية والأنساق الثقافية‏,‏ أما حين يرتبط القرآن الكريم‏'‏ بثقافة منتجة‏',‏ دائمة التغير والتبدل فلن يكون لمفهوم‏'‏ الحق‏'‏ ثبات‏,‏ ولا لمضمون‏'‏ الخير‏'‏ دوام‏,‏ لأنه سيكون بوسع كل ثقافة أن تتصور‏'‏ الحق‏'‏ كيف تشاء‏,‏ وأن تحدد الخير علي النحو الذي تريد‏!!‏
ثالثها‏:‏ إن القول بأن القرآن الكريم ـ بحكم كونه‏'‏ منتجا ثقافيا‏'‏ لا يتم فهمه إلا من خلال مفردات الثقافة التي أنتجته‏:‏ يعني ـ بالضرورة ـ أن القرآن الكريم ـ وحاشاه ـ سوف يكون نهبا لاختلاف الثقافات المتعددة المتكثرة التي تتناوب علي فهمه‏,‏ وتتعاقب علي تفسيره‏,‏ وحينئذ فأين الدلالات‏'‏ الأصلية‏'‏ للقرآن الكريم ذاته؟ أيكون القرآن الكريم في حد ذاته إذن مجرد‏'‏ ألفاظ‏'‏ جوفاء يتلو بعضها بعضا‏,‏ دون دلالة أصلية‏,‏ لأن دلالتها الأصلية‏:‏ موكولة إلي ثقافات العصور المتبدلة‏,‏ وإلي السياقات الاجتماعية المتقلبة؟
رابعها‏:‏ بأي معني حينئذ يكون القرآن الكريم‏'‏ فرقانا مبينا‏'‏و‏'‏ هدي للناس‏'‏ و‏'‏ بينات من الهدي والفرقان‏'‏ ؟؟ بل أية‏'‏ رسالة‏'‏ يحملها القرآن للبشرية‏,‏ وقد مزقت تلك القراءات المبتدعة‏:‏ مضامينه ودلالاته الثابتة الراسخة كل ممزق‏,‏ وتركتها رهنا‏'‏ لثقافات العصور‏,‏ ونهبا لسياقاتها الرجراجة المتحركة ؟ ثم ماذا يبقي من‏'‏ إعجاز‏'‏ هذا الكتاب العزيز بعد ذلك كله؟؟
خامسها‏:‏ إنه لا ينبغي أن يذهب بنا الظن إلي أن سطوة الثقافة المنتجة علي النصوص القرآنية‏:‏ تقف ـ في نظر تلك الطائفة ـ عند حد‏,‏ فآيات التشريع والحدود لا ينبغي أن تفهم ـ عندهم ـ إلا في ضوء‏(‏ الثقافة المنتجة‏)‏ دون التقيد بحرفية النصوص‏,‏ كما أن الآيات‏'‏ الاعتقادية‏',‏ التي تتحدث عن الملائكة والجن وصور الثواب والعقاب هي الأخري ـ بالتعبير الحرفي ـ‏'‏ مرتهنة‏'‏ بمستوي الوعي‏,‏ وبتطور مستوي المعرفة في كل‏'‏ عصر‏'!!‏
ويستطيع المسلم هنا أن يلمس بجلاء‏:‏ المآل الذي سيئول إليه تصوره الاعتقادي حين يحتكم إلي‏'‏ الثقافة السائدة‏'‏ وإلي‏'‏ السياق الاجتماعي‏'‏ في الإيمان بالغيب بعامة‏,‏ ثم بغيبيات الدار الآخرة التي‏'‏ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي قلب بشر‏'‏ بخاصة‏,‏ كما يلمس أيضا ما تهدف إليه تلك القراءات من إهدار غشوم لدلالات الخطاب القرآني المحكم دون أساس من النقل‏,‏ أو شاهد من العقل الرشيد الذي يدرك أن اقتحامه لعالم الغيب‏:‏ إنما هو ـ علي حد تعبير بعض المحققين ـ اقتحام البصر الكليل الذي ينقلب به صاحبه خاسئا وهو حسير‏!!‏
ثم أقول أخيرا إن تجريد القرآن الكريم من دلالاته الثابتة ومضامينه الراسخة‏,‏ ثم التحول به إلي كونه‏(‏ منتجا ثقافيا‏)‏ يعد واحدة من أبرز نتائج تلك القراءات الحداثية والتنويرية إغرابا وشذوذا‏,‏ كما أنها أكثرها تهافتا وبطلانا‏.‏












ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق