الثلاثاء، 24 يناير 2012

من صندوق الجواهر:

حكاية شركان في بيت زارا

في عام 1968 جاءني الشاب "مصطفى بهجت مصطفى"، معيد الرياضة البحتة بجامعة أسيوط، بمسرحيته الأولى: "حكاية شركان في بيت زارا"، وكانت قد صدرت بعد عام واحد من هزيمة 5 يونيو 1967، وعندما إنتهيت من قراءتها أدركت على الفور أن المؤلف الشاب، رحمه الله، واحد من جنود الحلم الثوري المخلصين الذين عرفوا حجم الأخطبوط الذي كان يحكم مصر وقتها وأرادوا أن يشاركوا في معركة التنبيه إليه قبل فوات الأوان، وأدركت أن الكتابة عنها ستكون من العمليات المرهقة التي تصيبني كلما حاولت تهريب عمل صادق الإخلاص للنشر، ولقد نجحت وقتها بالفعل في أن أنشر عرضا كاملا لخطوط المسرحية بمجلة المصور، عدد 27 سبتمبر 1968.

تبدأ المسرحية بشخصية "شركان" في مواجهة أشباح تطارده، بينها شبح زوجته "سيرا"، ونسمع الأشباح تتحاور فيما بينها عن "شركان" الذي كان "يقدس الكلمة" و "تعذبه الكلمة" و "كان يريد أن يدك بها عرش نمرود"، وعن العهد الذي كان بين "شركان" وبين زملائه الثوار "ألا يخون أبدا حتى يسقط عرش الظلم"، لكن الأشباح، الذين هم أرواح شهداء المعركة ضد نمرود من أجل نصرة الثورة، يوضحون لنا أن حضرة البطل الثائر "شركان" لم يحفظ عهد زملائه الثوار بل خانهم ووشى بهم عند "نمرود"، وعندما نجحت الثورة وسقط عرش "نمرود" عاد الخائن "شركان" يتسلل، بصيته الثوري السابق، إلى الثورة المنتصرة ليقطف الثمار!

بعد المقدمة التي تحدد لنا هوية "شركان" كثوري سابق خائن يضاء المسرح لنراه رث الثياب فاقدا للذاكرة يجلس في قاعة فندق "زارا" محدقا في الهواء.

"زارا" شابة في الثلاثين ترعى نزلاء فندقها، الذي تقدم فيه للجميع شراب اللوز المُحلّى بالسّكر، لها ميولها السياسية غير أنها تجد من الممكن ضم كل أصحاب الميول على اختلافهم في فندقها، فالباب مفتوح يجمع الأضداد، ويضم التناقض: في عصر الإمبراطور نمرود اختبأ الثوار عندها يضعون خطة الثورة، وفي عصر الثورة تسمح للإقطاعي، منزوع الملكية، "ميردان" أن يلجأ وابنته "هانا" ليتظللا بحمايتها؛  فـ "ميردان" يختار المعقل الثوري، رغم ما يضمره من عداء للثورة، لأنه المكان الوحيد الذي يكون به في مأمن من ضربات الثوار!

إلى جانب الإقطاعي يجد "مارا" الرجعي، الحانق هو الآخر على الثورة، مكانا في بيت \ فندق "زارا" ومجالا يخرّف فيه بأحلامه المريضة، كلما أفقدته الخمر وعيه، فيقول لـ "زارا" متربصا: "زارا سأنالك حتما في النهاية ألا تدركين ذلك؟ وما دام الأمر كذلك لماذا لا نجعل النهاية هذه الليلة؟". ولا شك أن "مارا" معه الحق في أن يملأ الأمل الشرير رأسه طالما أن "زارا" لاتطرده!

تقول "زارا" للثوري العجوز "هوشي" أنها لا تطرد "مارا" لأنها ترثي له!
الثوري العجوز، "هوشي"، راصد التاريخ عاش حلم الثورة وكفاحها ويلحق واقعها بعد أن أصبح كما يقول: "نومي أضحى كصحوي : غلاف رقيق يحيط وجودي كله فيبعدني عن العالم حولي".

صحيح أن "هوشي" لم يعد يصنع شيئا في واقع الثورة لكنه يرى أن وقفته في الظل يرقبها تمنحه مجالا أكبر للرؤية وتقييم الأحداث؛ إنه التعقيب والحلم والأمنية الثورية الممتدة بين الأمس واليوم وغدا. إن "هوشي"، الخبير صاحب التجربة الطويلة، يرقب كرم "زارا" الذي يتسع لكل الأضداد ويقول: "أنا أخشى"، فتقول "زارا": "لا تخش شيئا ..."، ويسألها لماذا لا تتزوج؟ (أي لماذا لا تلتزم بخط واحد واضح)، ويكون ردها: عندما تجد من تمنحه قلبها كله، ولا يتردد "هوشي" في التحذير من إختيار غير صائب، ويصدق تخوفه؛ فبالرغم من أن "زارا" حامية الثوار لن تختار الرجعي "مارا" إلا أن خطأها يكمن في انخداعها بواجهة ثورية تغطي جوفا مشوها لا ينكشف لها إلا متأخرا: إنه "شركان"؛ الفخ الذي تقع فيه "زارا" إذ حين ينزع "شركان" ثوبه القديم المتهرئ كذاكرته، تُلبسه "زارا" ثوبا جديدا نظيفا (أي تعطيه صفحة جديدة يبدأ بها تاريخا جديدا)، ويعطيه "هوشي" اسما بديلا: "برهام" ويوكل إليه تدوين تاريخ البلاد، وهكذا تتهيأ لـ "شركان" الخائن فرصته كاملة للإيذاء!

تستقر الصورة مؤقتا في بيت "زارا": فهاهو "شركان"، الذي صار "برهام"، منتظم في عمله يكتب ما يمليه "هوشي" من التاريخ، والإقطاعي "ميردان" يدور حول نفسه يدبر الهرب إلى الخارج: ".... لم يعد هذا البلد بلدنا...بلدنا تلك التي نملك فيها أرضا وستكون هناك وراء الحدود حيث نحمل معنا كل أموالنا المخبوءة  التي دفنتها تحت جدار القصر ليلة سقوط الإمبراطور"!

كل ما يريده صاحب المال الفاسد هو إنقاذ الألف ألف دينار، فأحزانه خلال عصر الثورة فوق طاقته يقول: "هل نحن في حلم؟ أي كابوس مخيف! كيف تغير العالم من حولنا هكذا .........أنا صاحب الملايين والكل يسجد لي ! أين ذهب هذا كله؟.............."، لا يمكن لصاحب الملايين أن يودع أحلامه بالقضاء على الثورة؛ لن يذوى بمحض إرادته، تستمر حركته في مناوءة الثورة طالما هو قادر عليها، وتتوهج أحلامه طالما هناك مجال لتوهجها! أما زميله، الحاقد "مارا"، فهو أفتك مرارة؛ إنه يريد أن يظل في بيت زارا يحلم برؤية الثورة تنهار والبيت يتصدع و"زارا" وهي تقع بين براثنه، وحين يتذكر أمجاده يتذكر إلهاب ظهور الفلاحين بسياطه متوعدا: ".... أقسم بأني لو عدت كما كنت لكنت أكثر فنا وحذقا في إدمائها"!

ثم يظهر "صفوان"، الثوري المخلص، يعود من منفاه ليأخذ دوره في صفوف الثورة التي ساهم في إنتصارها، وحين يتكلم نلمس في حديثه المقتضب ثقل وجدان متألم يرصد "شركان" الذي أصبح "برهام" ويستدل بنقائه ليعرف أنه العدو الأخطر بين كل الأنماط: ".... من يصرخ بمبادئ الثورة ............. ثم يبدأ في تخريبها لإثارة الشك في فاعليتها......"؛ إنهم المنافقون، الإنتهازيون، الوصوليون الذين بفسادهم داخل الثورة ينتعش أعداؤها ويفقس بيض الأفاعي الكامن.

لا يمكن أن ينخدع صفوان بشركان مهما تغيرت ملامحه وتبدل اسمه، لقد سمعه يتحدث في جمع من الفلاحين والصناع عن فساد عصر الأباطرة وكانت كلماته تخرج متهدجة مشحونة بالعاطفة لكنها لم تصل قلبه قط  فلا يمكن لمثل صفوان أن تفوته رائحة المتاجرة بعذابات الناس: "الذين قتلوا على أسنة الخوازيق فوق الجبل و تحت سنابك الخيل في الوادي .... ومن ماتوا من الجوع ومن لسع السياط........"!

شركان يعب الفرص ويقتنصها كنشال محترف؛ يعود فرحا ليخبر "هوشي " بأنه قد تعرف إلى "رشوان"، الكاتب السياسي الذي تكسب كثيرا من كتبه أيام كسرى ونمرود، "لم يُجمع أحدها من الأسواق........ولم يزر السجن مرّة وإن كان قد زار القصر العظيم مرّات عديدة"، ومع ذلك إختاروه، بعد الثورة، بمجلس الرأي!

مع إنتهازية شركان التي صارت تفصح عن نفسها بلا خجل تندهش زارا ويقول صفوان: " يجب ألا يدهشنا ما يمكن التنبؤ به"!

لقد دخل شركان "بيت زارا" متسللا وكان خائنا للثورة منذ اللحظة الأولى ؛ مستفيدا منها وطاعنا لها. يقول "هوشي": " لن تبقى بالنهاية إلا الجذور الصلبة"، ويقول "صفوان"، جندي الحلم الثوري وحارسه: " ستغيض أحزانك سريعا يازارا"، وتأخذ زارا موقفها المتأخر بطرد أعدائها من بيتها قائلة: " لم أعد أرثي لأعدائي"!

حقا! فلا يمكن أن نرثي للأفاعي وإن كانت تتلوى من الألم، ويصبح منطقيا أن ينهي المؤلف مصطفى بهجت مصطفى، رحمه الله، المسرحية بنداء كل حراس الثورة المخلصين في كل زمان ومكان:

"اكرهي أعداءك يازارا،
اكرهي أعداءك يابلادي،
وامنحي قلبك لمن يحبك
ياربيع حلم المخلصين".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق