الجمعة، 25 أكتوبر 2013

ابن خلدون:

 ابن خلدون مفكر نادر من عصر المماليك

مع احترامي لكل قبور بلاد الأمة الإسلامية والعربية، أحب التنويه: إن قبر العلامة المسلم العربي ابن خلدون قائم في حي العباسية بالقاهرة، وهو الحي الذي عشت فيه طفولتي وشبابي، وأعيش على ضفافه حتى الآن، ومرجعي في هذا هو كتاب الأستاذ الدكتور علي عبد الواحد وافي، «عبد الرحمن بن خلدون»، وقد أصدرته في 7 إبريل عام 1962، الإدارة العامة للثقافة بوزارة الثقافة والإرشاد القومي، وطبعته مكتبه مصر تحت سلسلة «أعلام العرب» ـ العدد الرابع ـ ويقع في 326 صفحة وكان ثمنه خمسة قروش، ولا توجد منه نسخ متوفرة في السوق منذ أمد طويل ـ ولا حتى مسروقة ـ وأهمية هذا الكتاب تجددت في مناسبة احتفال العالم يوم 16 مارس 2006 بمرور 600 سنة على وفاة «ابن خلدون»، خاصة وأنه يحول «ابن خلدون» إلى موضوع شيق يخرج من خزائن المتخصصين المغلقة ليجتذب اهتمام القارئ الذي يود الاستمتاع بوقته استمتاعا راقيا ناهضا في أيام يندر فيها الاستمتاع أصلا! وللدكتور علي عبد الواحد وافي، رحمه الله، وسيلته البشوش في الكتابة تستقطبك من دون ملل للتنقل معه عبر حياة «ابن خلدون» العلمية والثقافية والأدبية والسياسية الصاخبة، التي صعد فيها إلى منصب يوازي رئاسة الوزراء ثم هبط إلى السجن والنفي والتهجير والهرب، ثم إلى الصعود تارة أخرى إلى منصب قاضي القضاة، وعزل منه وتولاه أربع مرات في خلال خمس سنوات بفعل الدس والمكيدة والحسد!

 ولد ابن خلدون بتونس في غرة رمضان 732هـ/ 1332م، وتوفي بالقاهرة 26 رمضان 808هـ/16 مارس 1406م.
يقسم الدكتور «علي عبد الواحد وافي» حياة «ابن خلدون» إلى أربع مراحل:

* المرحلة الأولى: مرحلة النشأة والتلمذة والتحصيل العلمي وتمتد من ميلاده سنة 732هـ لغاية سنة 751هـ، زهاء عشرين عاما هجريا، قضاها كلها في مسقط رأسه تونس، أمضى منها نحو خمسة عشر عاما في حفظ القرآن الكريم وتجويده بالقراءات والتلمذة وتحصيل العلوم.

* المرحلة الثانية: مرحلة الوظائف الديوانية والسياسية، وتمتد من أواخر 751هـ إلى أواخر 776هـ، خمسة وعشرين عاما هجريا، عاشها متنقلا بين بلاد المغرب الأدنى والأوسط والأقصى ـ (ما يسمى الآن تونس والجزائر والمغرب) ـ وبعض بلاد الأندلس، وقد استأثرت الوظائف الديوانية والسياسية بمعظم وقته وجهوده أثناء هذه المرحلة.

* المرحلة الثالثة: وهي مرحلة التفرغ للتأليف، من أواخر 776هـ إلى أواخر 784هـ، نحو ثماني سنين، قضى نصفها الأول في قلعة ابن سلامة ونصفها الأخير في تونس، تفرغ في هذه المرحلة تفرغا كاملا لتأليف كتابه: «كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر»، ويتضمن «المقدمة» في قسمه الأول.

* المرحلة الرابعة: مرحلة وظائف التدريس والقضاء وتمتد من أواخر 784هـ إلى أواخر 808هــ، أربع وعشرين سنة، عاشها كلها في مصر، وقد استأثرت وظائف التدريس والقضاء بأكبر قسط من وقته وجهوده. وبعد هذا التقسيم يأخذنا الدكتور «وافي» في رحلة تتوقف بنا عند كل مرحلة، وقفة كافية لتحيطنا بأيام ابن خلدون التي أخذته وحطته في حوادث مثيرة وملابسات عجيبة، لعل أكثرها إثارة مقابلته في دمشق لـ «تيمور لنك»، السفاح التتري المشهور، وكيف كان لطيفا دمثا معه، والكوارث الجمة التي ألمت به منذ مطلع حياته حين أدى الطاعون الجارف إلى موت والديه وأصدقائه وأساتذته، وهو لم يتعد الثامنة عشرة من عمره، ثم كارثة غرق زوجته وأولاده جميعا وهم قادمون في السفينة من تونس إلى مصر، حين ضربتها الريح العنيفة عند وصولها ميناء الإسكندرية فتحطمت وكبدته فوق نكبته في موت أسرته ضياع الكثير من ماله ومتاعه وكتبه، وكان وقتها في الخامسة والخمسين.
يذكر د. وافي كتاب: «التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا»، وهو الكتاب الذي ذيل به «ابن خلدون» عمله الضخم وسماه أولا «التعريف بابن خلدون مؤلف هذا الكتاب»، قاصدا كتاب «العبر»، ثم نقحه وأضاف إليه الكثير بعد رحلته إلى مصر ودون به ترجمة حياته كلها منذ مولده إلى قبل وفاته ببضعة أشهر. ويعد ابن خلدون بهذا العمل إماما ومجددا في فن السيرة الذاتية، وفي ذلك يقول الدكتور علي عبد الواحد وافي: "صحيح أنه قد سبق ابن خلدون في هذا الفن كثير من مؤرخي العرب وأدبائهم، كياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان، ولسان الدين بن الخطيب ـ معاصر ابن خلدون وصديقه ـ في كتابه الإحاطة في أخبار غرناطة، والحافظ بن حجر ـ معاصر ابن خلدون كذلك ـ في كتابه رفع الأصر عن قضاة مصر، ولكن هؤلاء وغيرهم..... قد قنعوا بتراجم موجزة، أما ابن خلدون فهو أول باحث عربي يكتب عن نفسه ترجمة رائعة مستفيضة يتحدث فيها عن تفاصيل ما جرى له... فلا يغادر شيئا مما عمله أو حدث له إلا سجله، حتى الأمور التي يحرص الناس عادة على كتمانها لما تنم عليه من خلق غير كريم...".

يُجمل «علي عبد الواحد وافي» عبقرية «ابن خلدون» في أنه المنشئ الأول لعلم الاجتماع، إمام ومجدد في علم التاريخ، إمام ومجدد في فن السيرة الذاتية، إمام ومجدد في أسلوب الكتابة العربية، إمام ومجدد في بحوث التربية والتعليم وعلم النفس التربوي، راسخ القدم في علوم كتب الحديث، ومصطلح الحديث، ورجال الحديث، راسخ القدم في الفقه المالكي، أنه لم يغادر أي فرع آخر من فروع المعرفة إلا ألم بها.

وبعد:
هذا واحد من نوابغ الفكر والعلم والحضارة والتنوير الصحيح المنبعث من أرضيتنا الإسلامية، عاش في عصر المماليك المفترى عليه، شهادة أقدمها للتدليل على التوهج الثقافي لذلك العصر، علها تلقم الخراصين حجرا حتى يكفوا عن ادعاءاتهم الباطلة وتصويرهم الكاذب لعصر المماليك باعتباره عصر الجهالة والظلم والهزائم.



هناك تعليقان (2):

  1. مالم تقله الأستاذة صافي ناز
    كان " أندري ماندوز" أستاذ الفلسفة بجامعة الجزائر و المتخصص و الباحث في فكر القديس أوغسطين في زيارة إلى تونس حيث استقبله الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة الذي خاطبه قائلا لقد جئت إلى تونس تقتفى أثر القديس أوغسطين من أجل استكمال كتابك حول هذا الفيلسوف التونسي. فرد عليه أندري ماندوز قائلا : سيادة الرئيس ، القديس أوغسطين ليس تونسيا إنه جزائري قح
    تذكرت هذا الموقف وأنا استمتع بما كتبته الأستاذة صافي عن ابن خلدون استنادا على المفكر عبد الواحد وافي المتخصص الكبير في فكر ابن خلدون .
    الكتاب الذي أشارت إليه الأستاذة صافي ناز لم اطلع عليه ،كما لا أعلم إذا أشار إلى مكان كتابة المقدمة الذي كثيرا ما يتجاهله البعض لأسباب مختلفة لأنه من المعروف أن ابن خلدون كتب المقدمة في الجزائر في مكان يسمى "فرندة" بمحافظة "تيهارت" التي تقع بالغرب الجزائري
    أما دفاع الأستاذة عن المماليك، وهذا موقف أعرفه عنها، كما اعرف موقفها من محمد علي باشا فذاك حديث آخر ومناقشة أخرى

    ردحذف
    الردود
    1. الكتاب يا نور الدين موجود على الشبكة ويمكنك تحميله من المكتبة الوقفية، وهو أساسا كان بمثابة دراسة مقدّمة للمقدّمة التي حققها الدكتور على عبد الواحد موافي ومنشورة في ثلاث مجلدات ، وتم نشر الدراسة مأخوذة من المجلدات التي تحتوي مقدّمة ابن خلدون. تحياتي.

      حذف