السبت، 16 أكتوبر 2010

مواصلة كلامي عن الفنانة "سميحة" 2




لا أدري لماذا بدا لي دائما أن لقائي بها مستحيل على الرغم من أننا كنا نعمل في مؤسسة واحدة هي دار الهلال، هي بها منذ 1947 وأنا منذ 1966، وكنت أكتب في المجلة التي احتضنت معظم نشاطها الفني وأعني مجلة الهلال الشهرية، تمنيت لقاءها منذ زمن بعيد لكنني كلما سألت عن طريق إليها أتتني الإجابات شاردة حتى توصلت مطلع 2000 إلى رقم هاتفها من ساعي الدار الذي كان يحمل شغلها إلى المجلة. حين هاتفتها لأحدد موعدا تأخر بشكل لايمكن الإعتذار عنه جاءني صوتها، على الرغم من ضعفه، هاشا باشّاً، قلت لها أنني من جمهورها الممتن لفنها فاندهشت متسائلة: هل أنا أعني أي شئ لأحد؟ ذهبت إليها حيث كانت تقيم مع حفيدتها في شقة ابنتها منى سعد الدين وهبة بالزمالك، تناديها حفيدتها: أنّة، أي جدتي بالتركية، على الرغم من أنها صعيدية ابنة عائلتي مسلّم وحسنين من سمالوط، المنيا. أكدت لها أنني اهتممت بارتداء صياغة لونية تجعلها تقول لي شاطرة!، وأنني لبست حذائي الجديد لأن مقابلتي لها مناسبة أحتفل بها، وأنني أرى في أعمالها العذوبة والجمال. بين يديها كانت تتجمع حفنة قليلة من كتب رسمت أغلفتها ومالا يزيد عن 50 قطعة رسم بالجواش وألوان الماء على ورق سميك 30× 30 سم: "هذا كل ما تبقى من شغلي"! سألت: "والبقية؟"، قالت بهدوء: "كله ضاع في المطابع..لم يرد لي أحد أصولي ولم ألح في المطالبة بها!" قلبت اللوحات لأختار ما أنشره من هذا القليل المتبقي من الحياة الحافلة لمن تستحق عن جدارة لقب "ملكة فن لوحة الغلاف لنصف قرن"، أشارت إلى واحدة :" هذه تعجبني، تصوري أنني لم أتأملها من قبل ..أرسم وأعطي وأنسى.. أول ما أطلع الرسم أهمل اللوحة لكن وأنا أجمع لك هذه اللوحات لم أصدق أنني التي أنجزتها!". ضحكت!

كنت قد أحضرت معي جهاز التسجيل. لاجدوى من التسجيل فهي لاتتكلم إلا باقتضاب شديد، أفهم ماتريد بالإحساس والإستنباط. أعمالها مبعثرة، أوراقها ضائعة، صورها الشخصية اندثرت:" فيللا العائلة هدمت وكل واحد أخذ نصيبه وضاعت صناديق مليئة بالصور والأوراق..ولا يهم..أنا ح أكون إيه؟ تراب!"

درست في أكاديمية رسم خاصة كانت بميدان مصطفى كامل وأحرقت في حريق القاهرة 26 يناير 1952، والتحقت شابة في مطلع عشرينياتها بدار الهلال بين عامي 1946 \1947 لتكرس توجهها "رسامة صحفية" ولتكون مع عزيزة عيد، ابنة الرائد المسرحي عزيز عيد والفنانة فاطمة رشدي، أول مصريتين تقتحمان هذا الطريق في الصحافة المصرية وتسجلان فيه الريادة، هاجرت عزيزة إلى إنجلترا وبقيت "سميحة" تكمل وحدها مشوار الريادة. تقول:" عندما بدأت بدار الهلال اشتغلت في كل شئ؛ في المطبعة والإعلانات والتحرير ولم أرفض أي تكليف رسمت في الإعلانات وتفوقت وصاروا يطلبونني بالإسم، وكنت أكافأ في نهاية العام بكام جنيه!"، مولودة 13 \ 10 1925، تحمل سمات برجها الميزان: "أنا انطوائية، لا أسعى إلى إقامة صلات وعلاقات، منسحبة من الأضواء والزحام، أرسم وخلاص، سعادتي في الرسم والصمت والإختفاء".

لاتذكر متى تزوجت من الكاتب المسرحي سعد الدين وهبة ولا متى وقع بينهما الطلاق، ولا متى أنجبت ابنتيها منه "منى" و "أماني"، أسألها: "متى قابلت سعد وهبة؟" فترد بسرعة: "هو اللي قابلني في مجلة الرسالة الجديدة عند عبد العزيز صادق وطلب مني أرسم لمجلة البوليس التي كان يرأس تحريرها."

لاجدوى من أي سؤال خاص بتحديد "أي سنة؟"، لاتذكر أي تاريخ، عرفت تاريخ مولدها من حفيدتها، تذكر فقط أن طلاقها من زوجها سعد وهبة تم أثناء ولادتها لابنتها الصغرى أماني، ولا تحب أن تخوض في ذكر الفنانة المسرحية التي استحلت بانتهازية أنانية مفرطة خطف زوج من زوجته الحامل في شهورها الأخيرة، تألمت بتكتم ونبل: "عندي المقدرة إني أنسى وألغي، أغرق في الرسم، كنت ألبي طلبات الرسم في دار الهلال لكل إصداراتها، ولا أمتنع عن طلبات الإعلان، أنا أحترم فني وأشوف أن عملي في رسم الإعلانات كان تجربة خصبة، كل طلب رسم أهتم به وأخدمه بضروراته باخلاص. واجباتي في الرسم كانت كثيرة؛ رسمت لمجلة التحرير والرسالة الجديدة رسمت فيها رواية لنجيب محفوظ ورسمت طبعا لمجلة البوليس. كانت حياتي هي الرسم وتربية ابنتي بعناية واهتمام ولم أغضب من أحد، ظلت علاقتي بسعد وهبة محترمة إلى النهاية، حزنت لوفاته ومرضت بسبب هذا الحزن، كنت أريد أن أسلم عليه قبل رحيله..".

"أرسم من وجوه جميلة مختزنه في ذهني"، هل كانت ترى الدنيا مثل ألوانها مرحة وجياشة أم كانت ترسم ماتمنته؟ ترد: "أنا شايفة الدنيا كده ..مرحة جياشة!".

لم تجد الفرصة لإقامة معرض خاص بلوحاتها لكنها تذكر أن لها لوحتين في متحف وأخرى في بينالي. تهدي لوحاتها ولم تبعها أبدا، تقول ضاحكة: "بكامل وعي بددت ثروتي الفنية!".

حين سألتها: هل لديك لوحة الفنانة بريشتها؟ قالت ببشاشة: " أنا غير معجبة بنفسي!"، طيب لماذا؟ تواصل: ".. لاأعرف حقوقي .. لابد أن يمسك أحد بيدي ويعطيني حقي على الرغم مني!"

توشوش لي بفرحة غامرة تسكنها بسبب ما حدث لها منذ سنوات وهي تزور قبر الرسول عليه الصلاة والسلام: "لم يكن هناك زحام على الإطلاق، كنت أجلس مع قريبتي تقول الدعاء وأنا أردد وراءها، وشعرت بيد تربت على ظهري فتلفت ولم أجد أحدا...مرّتين يتكرر الأمر، قالت لي قريبتي الملائكة تربت عليك، تخوّفت، قالت لاتخافي...هذه الحكاية تظل على قلبي بردا وسلاما........".

تواصلت معها عبر الهاتف حتى فوجئت بنشر نعيها بالأهرام الخميس 1 \7\2010 باسمها المكتوب في شهادة ميلادها "بهيرة حسنين علي سالم"!

عرفت من ابنتها أن رحيلها كان مساء الثلاثاء 29 \ 6 \ 2010، وشيعت إلى مثواها الأربعاء 30 \ 6 \ 2010.

طيب الله ثراها "سميحة" الجميلة التي أشاعت برسوماتها الضياء الخلاب وآثرت أن تبقى دائما بعيدا بعيدا عن الأضواء.


مأخوذ بتصرف من كتابي: صنعة لطافة، دار العين، 2007.

هناك 3 تعليقات:

  1. ظلت علاقتي بسعد وهبة محترمة إلى النهاية، حزنت لوفاته ومرضت بسبب هذا الحزن، كنت أريد أن أسلم عليه قبل رحيله..".

    ردحذف
  2. أستأذن حضرتك فى نقل التدوينات الثلاث لمدونتى مع الإشارة للمصدر طبعاً لأنها بجد أثرت فيا قوى قوى.

    ممكن حضرتك ترفعيلنا بعض أعمالها عشان نشوفها؟

    ردحذف