الاثنين، 4 أكتوبر 2010

تداعيات على هامش الجماعة والعنف

في ديسمبر 1948 أطلق عبد المجيد حسن الرصاص على محمود فهمي النقراشي، رئيس الوزراء فأرداه قتيلا.


كنت في طريق العودة سيرا من مدرستي الابتدائية بشارع سبيل الخازندار وعرفت الخبر وأنا أعبر ميدان فاروق متجهة إلى منزلي 9 شارع العباسية، فانفجرت باكية بحرقة بالغة أدهشت أختي التي كانت ترافقني، لأنها لم تكن تعرف الارتباط الوجداني السري الذي كان يربطني بالنقراشي والذي كان بعيدا تماما عن دوره السياسي بإيجابياته وسلبياته، كل ما في الأمر أنني تمثلت فيه وجه أبي الذي كان قد توفي قبل أربع سنوات وثمانية أشهر. قالت أختي باستنكار: مالك؟ قلت في شهقات الانتحاب: كان يشبه بابا، وفي غمرة حماسي كتبت في دفتري: «مات رجل والرجال قليلون»، مما أثار سخرية ابن خالتي الطالب الجامعي وهو يصحح عبارتي إلي «والرجال قليل».


لم أدرك وقتها الأسباب التي جعلت غالبية الناس متعاطفة مع القاتل عبد المجيد حسن، الذي ظهر وجهه في صور الصحف مضروبا ملطوشا وارما، أكثر من تعاطفها مع المقتول صاحب الوجه الذي بدا لي دائما طيبا أبويا حنونا. كانت أغلب الكتابات الصحفية، على مدى سنوات، تشيد بالنقراشي وتكاد تضعه في مصاف الشهداء، حتى فاجأتني حقيقة أن محمود فهمي النقراشي، رئيس الوزراء ووزير الداخلية في آن واحد، كان هو المسؤول عن إصدار الأمر بفتح كوبري عباس في 9 فبراير 1946 لإغراق مظاهرة احتجاج قادها طلبة جامعة فؤاد ضد الاحتلال الإنجليزي رافعين شعار «الجلاء بالدماء»، ظلت هذه حقيقة مطموسة ولم أتبينها إلا فيما بعد من خلال قراءاتي ونضوج وعيي. حقيقة ما كان هو أمر محمود فهمي النقراشي بفتح الكوبري أثناء مرور مظاهرات الطلبة فسقط في النيل منهم من سقط فغرق، ومنهم من تشبث بحديد الكوبري طلبا للنجاة فضربته هروات البوليس على أصابعه ليجبروه على الموت، إلا من تحمل الضرب وأحكم قبضته فاستطاع الصعود إلى الأرض ليكون من المصابين الذين تم اعتقالهم جميعا.


كنت في ذلك الحين في الثامنة من عمري وكان أخي الشاب ابن السابعة عشرة من بين المصابين في تلك الحادثة المتوحشة، وكان من الممكن أن يكون من ضمن الغرقى. تأخر أخي إبراهيم في العودة من الجامعة، فقلقت والدتي. حتى المساء لم يعد إبراهيم، واشتعل القلق لهيبا عم البيت كله. جاء صديق لأخي يحمل قلمه ومنديله وبعض متعلقاته، صرخت أمي لكن الصديق قال إن إبراهيم نجا وهو مصاب ومعتقل في مبنى مستشفى قصر العيني. من الصباح الباكر أعدت والدتي حقيبة ملابس وطعام وقلت لها أحب أشوف إبراهيم. كان الوفد الذاهب للاطمئنان على أخي مكونا مني ومن أمي وأخي إسماعيل، الذي كان عيد ميلاده الخامس عشر في نهاية شهر فبراير. تحت شبابيك المبنى في قصر العيني المحجوز فيه المصابون معتقلين، نادى إسماعيل: «إبراهيم...إبرااااهيم...كاظم...كااااظم». لم يرد أحد.


كنا ننتظر، كما قال لنا البعض، أن يدلي لنا إبراهيم حبلا نربط فيه الطعام والضرورات من الملابس ليسحبه من الشباك خلسة، فلم تكن هناك فرصة للزيارة أو المقابلة، بعد برهة أطل علينا وجه شاب وقال باقتضاب: «كاظم أخذوه إلى بندر الجيزة». مفردات غير مألوفة لأمي فتملكها الهلع وأخذت تبكي وأخي إسماعيل محرج أو متألم من بكائها يقول: «من فضلك يا ماما مش كده!» أنا بردانة، واجمة، لكنني لم أبك حتى لا أتسبب في أية «لخمة»، وربما حتى لا «يشخط» في إسماعيل، مداريا قلقه تحت ظاهر من الشجاعة والتماسك. أذكر أنني سرت معهما محترمة نفسي، ولا أذكر كيف وصلنا إلى بندر الجيزة الذي لم استوعب مدلوله: هل هو بيت؟ هل هو مستشفى؟ هل هو ماذا؟ لم استطع أن أكمل الاحتمالات، الذي أذكره أننا وقفنا أمام بناء بحديقة وخلفنا شجر كثيف على شاطئ النيل. كان الزحام شديدا، بوليس وأهالي. كانت والدتي قد هدأت استسلاما لما رأته ألما جماعيا وظلما شاملا.


الأهالي يتبادلون الأخبار والمشاورات والتكهنات. يشتد إحساسي بالبرد والجوع مع غروب الشمس. من الصباح حتى ذلك المساء ولا نجد وسيلة لإدخال الطعام والملابس لإبراهيم. البعض يطمئن أمي: «الأكل دخل لهم من حزب الوفد والإخوان». لا أذكر رد فعلها، ولا أذكر كيف انتهى المشهد وكيف عدنا إلى بيتنا موغلين في الليل. أذكر يوم دق جرس الباب ودخل إبراهيم البيت معصوب الرأس يضاحك أمي باعتذار ويؤكد أنه صد ضربات البوليس بقبضة أصابعه والدفع القوي بساعده. نظر إلي قائلا: «شايفة العضلات»!


بعد مقتل النقراشي، ديسمبر 1948، جاء إبراهيم عبد الهادي بسياسة التنكيل العمياء يضرب بقبضة الحديد والنار لكنه مع ذروة القسوة لم يستطع أن يخمد الهتاف الذي لف مصر كلها: «عبد الهادي كلب الوادي»!

هناك 16 تعليقًا:

  1. الي العظيمه الاستاذه \صافيناز كاظم مرحبا بكي في هذا العالم عالم المدونات الذي كان ينقصه عمالقه مثلك لنتعلم منهم مرحبا بالفاضله العظيمه

    ردحذف
  2. أيتها السيدة الفاضلة صافيناز كاظم مليوت تحية من ارض الشهداء من الجزائر نتنمى لك الصحة و العافية وطول العمر وبالمناسبة أيتها السيدة المحترمة أنت في نفس سن والدتي وأنا اعرف جيدا مواقفك النضالية ويكفيك فحرا أنك قدمت لمصر وللامةالعربية اجمل وأروع نوارة. و
    مرةاخرى لك اجمل التحيات يا أم نوارة
    أبو هاجر : الجزائر

    ردحذف
  3. بسم الله الرحمن الرحيم

    اجمل ما فى المقال انه ينقل الاحداث فى ذلك الوقت من زاوية مغايرة فيطبع فى الذهن والنفس رؤية مخالفة لما رسمته المسلسلات الموجهة , والاهم ان المرء لا يشعر ان احدا يقحم على ذهنه اى فكرة او تصور قسرا .
    تحياتى

    ردحذف
  4. بسم الله الرحمن الرحيم
    تهنئة قلبية لنا على مدونتك الجميلة استاذة صافى ناز
    سأكون هنا دائما لاتابعها ان شاء الله.

    ردحذف
  5. انا كتبت التهنئة بسرعة قبل ما اقرأ الموضوع وبعد وما قرأت اقول..
    الله الله لقد كنت داخل برواز الحدث اسمع وارى كل ما فى الصورة التى رسمتيها. حتى لقد احسست بالجوع و البرد مثلك وبصدمة الهواء والماء عند كوبرى عباس. عائلة مناضلة منذ الازل بارك الله فيكم.

    ردحذف
  6. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  7. هناك سؤال محـيـر بالنسبة للنقراشى باشا ... كيف يتحول أحد قادة ثورة 19 و المحكوم عليه بالإعدام من قبل الإنجليز بسبب دوره فى الثورة إلى فاتح الكوبرى على الطلبة .. ؟؟؟؟
    كيف يحدث هذا التحول فى الشخصية ؟؟؟؟؟؟

    ردحذف
  8. ماما صافيناز
    الف مبروك ليا انك عملتي مدونة اخيرا هعرف اقرا كلام ماما حبيبتي كل يوم
    ربنا يديكي الصحة وطول العمر انك تكتبي كل اللي انتي عاوزاه واللي نفسنا نسمعه منك يااااااااااااااااااااارب

    ردحذف
  9. مؤرخه شكرا ليكي على الاحاث الي اكيد كانت غايبه عن كثير من الناس والي بتعرفنا احنا الشباب الاحداث الي حصلت ايام دولة الملك

    ردحذف
  10. الانترنت منور يا ست الكل
    يا رب يديلك الصحة و العافية و تمتعينا دايما و تنورينا

    ردحذف
  11. عندما يعجز القضاء عن محاسبة القتلة والفاسدين، لا خيار امام المجتمعات الحية الا الاقتصاص بيد احرارها.

    والجمود والعجز والوهن امام تخطي الحكام للقوانين والشرائع، هو الذي قادنا على مر التاريخ الى الهوان والذل والموت الرخيص.

    شكراً لعبدالمجيد حسن وجزاه الله خير جزاء المحسنين

    ردحذف
  12. بما انك فى الأصل ناقده ادبيه كنا حابين نرى نقد حضرتك منشور و نشوف وحيد حامض وهو بيتقطع بجد الراجل اللزج ده مقرف لأقصى الحدود و تبريره لعدم تسجيله مقتل حسن البنا و جنازته منعا لتعاطف المشاهدين كان محتاج سهمين من سهامك الحاده علشان يفوق

    ردحذف
  13. جميل اهو كده الواحد لما يقرا يفهم , مش زى نواره الواحد بيجيب معجم للعنوان

    :D

    مبروك المدونة , متابعين

    ردحذف
  14. استمتعت كثيرا و انا اتابع قصتك و كلي سعادة بدخولك عالم التدوين ليتثنى لي الاستمتاع بكتاباتك الرائعة
    دمتي بصحة و عافية متألقة دائما

    ردحذف
  15. ألف مبروك يا أمنا كلنا
    نرجو المزيد والمزيد
    نعتبر بداية لمذكرات حضرتك الخاصة ؟

    ردحذف
  16. فرحت قوى لما قريت كلامك بفتقدك وبفتقد احاديثك والمدونة ح تخلى الوصول لكتاباتك اسهل ....ربنا يستخدمك دايما فى الحق كما انت دايما ...بحبك قوى


    مروة غانم

    ردحذف