الثلاثاء، 29 أكتوبر 2013

من سيرة ذات ثقافية:

من سيرة ذات ثقافية

إلتحقت عام 1954 بكلية الاداب، جامعة القاهرة، بقسم صحافة، الذي كان قد أُنشئ جديدا في ذلك العام، وكنا دفعة جامحة من الطلبة والطالبات، (100 طالب و 150 طالبة!)، وقرر معظمنا أن الدراسة النظرية بالقسم لن تعلمنا الصحافة كما نريدها فإنقسمنا مجموعتين رئيسيتين: واحدة إختارت التدريب في مدرسة روز اليوسف، والأخرى إختارت مدرسة أخبار اليوم، وكنت واحدة من المجموعة التي إلتحقت بمدرسة أخبار اليوم نوفمبر 1955، لم يكن الإختيار على أساس سياسي بل على أساس مهني محض إذ كان المهم في ذلك الوقت هو كيف نتعلم صنعة الصحافة ونكون لأنفسنا أسلوبا في التحرير الصحفي. ظللت مع مجموعتي نعمل بأخبار اليوم عامين كاملين مجانا ونحمد الله أن أصحاب الدار قد أعفونا من مصروفات الدراسة إلى أن تم تعييننا عام 1957 بمكافأة شهرية قدرها خمسة جنيهات، وأصبحت الدراسة بالجامعة في قسم الصحافة ثانوية إلى جوار خبرتنا في الممارسة الفعلية للعمل الصحفي. منحني تخرجي في الجامعة 1959 شهادة ليسانس في الصحافة لم تقنعني، وكان عملي الصحفي في تلك الفترة قد تكشف لي وبدا ضحلا ومزيف البريق لذلك ألحت عليّ فكرة السفر في الدنيا الواسعة للدراسة وامتحان النفس، وشجعني قبولي للدراسة في جامعة كانساس الأمريكية بقرية لورانس فسافرت إلى الولايات المتحدة أغسطس 1960، وكان قد تم تسجيلي لدراسة الماجستير في الصحافة لكنني راجعت نفسي وقلت: مصر بحاجة إلى ناقد مسرحي فكل الذين يكتبون النقد المسرحي غير متخصصين؛ سأصنع من نفسي ناقدة مسرحية لمصر! ــ (وأرجو من القارئ ألا يبتسم فهكذا كان جيلنا يتكلم عندما يريد أن يحدد مستقبله) ــ كانت مصر في تلك السنوات العشر الأولى لما أردناها ثورة 1952 إبنتنا العروس البهية التي نريد أن نجلب لها حليب العصفور لو شاءت، كنا نريد أن نزوقها ونجملها ونجهزها بكل ما ينقصها، ورأيت أن مصر ينقصها الناقد المسرحي المؤهل حقا لحمل مسئولية دفع النهضة المسرحية المرجوة لبناء وقيادة ما أردناه ليكون المجتمع الثوري الجديد.
كان نقاد المسرح صنفين:
1 ـ صنف كان ولا يزال يستند إلى معايير اعتباطية في قبوله أو رفضه للعمل الفني، مستخدما خفة ظله، إن توفرت لديه، في تمرير وتبرير مغالطاته، ولا يتورع وهو في حماسه، وقد أخذته العزة بالإثم، أن يستخدم أفحش القول والإرهاب، إذا اقتضى الأمر، ومثل هؤلاء كان ولا يزال شديد الثقة بنفسه، لا يحجم عن إبداء رأيه دائما ومن فوره وفي كل شئ!
2 ـ أما الصنف الثاني فكان النقيض: يلبس أكاديميته ويحكم ربطها جيدا حول عنقه حتى تخرج أفكاره وآراؤه مشنوقة تماما بالمصطلحات، وكلما خلت كلماته من الروح كان اغتباط الناقد بمقدرته كبيرا، وذلك على أساس الاعتقاد السائد أن الروح والحيوية وخفة الظل تتنافى مع الأكاديمية؛ فالجهامة ـ كما يعتقدون ـ والجفاف أليق بالأكاديمي. العجيب الذي كان يسترعي إنتباهي أنه رغم ذلك "التأكدم" الشكلي الذي كانوا يحرصون عليه، كانوايقعون في خطأ علمي رهيب وهو خلطهم بين "الأدب" و "المسرح"،وكان هذا الخلط يجرهم دائما إلى التمركز عند خط دفاعهم الأول والأخير وهو: "النص" المدون لغرض العرض المسرحي، ولو كان "النص" في عرف البداهة المسرحية مجرد عنصر غير جوهري في الكيان المسرحي!
ما علينا: قررت أن أعد نفسي لأكون "الناقد المسرحي" المطلوب لمرحلة يطورها جيل آت ثم جيل آت بعد الآتي، خلال سنوات يتم فيها ترسيخ المنهج السليم لإعداد الناقد المسرحي.
كان عليّ أن أحصل من جامعة كانساس على معادلة ليسانس في الفنون المسرحية، وهكذا أنفقت عامي 1960 \ 1962 في دراسة مواد أساسية وتحضيرية مع دراسة عملية في "الورشة" لكيفية صناعة العرض المسرحي وإقامته كائنا حيا يقف على خشبة المسرح وليس كلمات مدوّنة بين صفحتي كتاب، بعدها صرت مؤهلة لمتابعة الدراسة العليا نحو "التخصص في ممارسة النقد المسرحي"، غير أني لم أستطع متابعة الدراسة من فوري إذ كان لا بد أن أتفرغ للعمل عاما كاملا لسداد ديون دراستي في جامعة كانساس التي كانت على نفقتي الخاصة، فقضيت عام 1962 \ 1963 بمدينة شيكاجو أعمل سكرتيرة محلية في مكتب المستشار الصحفي لقنصليتنا المصرية، "قنصلية الجمهورية العربية المتحدة"، عاما كاملا خصبا، أقرأ وأسمع وأشاهد بنهم كل ماكان عليّ أن أعرفه في الفن والثقافة: من الجديد الذي كان عليّ أن أواكبه إلى القديم الذي كان عليّ أن أستكمله، ثم جاءت فرصتي للعمل في مكتب المستشار الصحفي ببعثة مصر الدائمة للأمم المتحدة بنيويورك فتركت شيكاجو وانتقلت إلي نيويورك أغسطس 1963 وتم قبولي بقسم الدراسات العليا للفنون المسرحية بكلية التربية جامعة نيويورك، استغرقت دراستي عامين، 1964 \ 1966، وكانت على نفقتي الخاصة إلى النهاية؛ كنت أجمع بين عملي الصباحي الذي يستغرق ثماني ساعات يوميا ودراستي المسائية بالجامعة التي انتهت بحصولي على "ماجستير في نقد المسرح" يونيو 1966.

في ذلك الصيف، أغسطس 1966، وبعد ست سنوات كاملة من الغربة والعمل والكدح والتأمل والدراسة شعرت أنني نضجت ثقافيا بما يكفي لأعود إلى مصر وأهديها نفسي قائلة: "كل التعب كان لك ومن أجلك"!

كان الأستاذ أحمد بهاء الدين قد تسلم مسئولية إحياء مجلة المصوّر، وكان منطقيا أن أتوجه للعمل معه في دار الهلال منقولة من دار أخبار اليوم، التي خلت من العبقريين مصطفى أمين وعلي أمين، أخوض مهمة النقد المسرحي، التي أتاحها لي الأستاذ أحمد بهاء الدين بمجلة المصوّر، و كانت قد تحولت تحت رئاستة إلى "كبرى المجلات المصوّرة"، كنت أحاول أن أقدم رؤيتي لما يجب أن يكون عليه الناقد المسرحي، وكان جهدي يتمركز في التأكيد على بدهية أن فن "المسرح" ليس "الأدب"، وأنه ليس هناك كاتب مسرحية: "بلايريتر"،
Playwriter
بل صانع مسرحية: "بلايرايت"،
playwright
 يصنع أو يبني أو يُنشئ معتمدا على تركيب وتجميع عناصر متعددة مثل صانع السفينة، وكنت أدعو أن يجعلنا هذا التصور نعيد النظر في كثير من المصطلحات والمقولات التي يتم تداولها مثل مقولة " قرأت المسرحية الفلانية" أو " قرأت مسرح فلان"، وهذا لا يجوز لأنك لا يمكن أن تقرأ مسرحية، هل يجوز أن تقول "قرأت سيمفونيات بيتهوفن" أو أي موسيقي آخر رغم أنها كلها مدوّنة على الورق؟ لا يمكن فنحن نقول "إستمعت" إلى الموسيقى، وتعرف أنها دُوّنت ليقرأها قائد الفرقة العازفة، لتصل معزوفة مؤداه على مسرح أو من خلال وسائل مسُجلة، وهكذا يكون الإلتقاء بالعمل الموسيقي، كذلك المسرح، إنك عندما تكتفي بقراءة مسرحية تكون قد أجهضت جنينا من رحمه؛ لن يكون بأيّة حال مخلوقا بين يديك بل دما مسفوحا لمشروع مخلوق، فقراءة ما دوّنه المؤلف المسرحي لا تعطينا الصلاحية لفهمه أو الحكم عليه إذ تظل العملية المسرحية ناقصة ولا يمكننا الحكم عليها ما لم نضعها كالسفينة في بحرها ونراها كيف تسير، وهل تآلفت مع الماء أم أنها لم تطف وغرقت؟ وكنت أتشبث بتعريف المسرح كما حدده أحد ثوار المسرح، وهو المخرج الإنجليزي "بيتر بروك"، وكنت أول من ذكره وعرّف به في مصر، الذي يرى أن المسرح يعني بكل تبسيط: خشبة مسرح؛ أي مساحة فارغة يمكن أن تتيح لنا مكانا يقف عليه مؤد، ويكون هناك جمهور، ويكون هناك محور لمضمون يهم هؤلاء الناس، فيتم من خلاله التواصل بين المؤدي والمتفرج، وهذا التعريف لبيتر بروك يتلاقى كذلك مع رجل المسرح العالمي "جروتوفسكي" مبتكر "المسرح الفقير"، وكنت كذلك أول من كتب عنه وعرّف به في مصر، حين استخدم منهاجه الـ "فيا نيجاتيفا"، ويعني الحذف أو الإلغاء، معلنا أننا بحاجة ملحة إلى تخليص المسرح من أثقاله الدخيلة عليه بطرح الأسئلة:

ـ هل يمكن أن يكون هناك مسرح بدون متفرّج؟
الإجابة: لا.
ـ مسرح بدون ممثل؟
الإجابة: لا.
ـ مسرح بدون نص مسرحي؟
الإجابة: نعم!
ـ بدون ديكور؟ بدون إضاءة؟ بدون موسيقى؟
الإجابة: نعم، نعم، نعم.

إذن كل شئ تقريبا مما نعرفه عن المسرح يمكن حذفه أو إلغاؤه إلا الممثل والمساحة الفارغة والمتفرّج والمضمون الذي يتمحور حوله اللقاء بين المؤدي والجمهور.

لم يكن تشبثي بهذا التعريف للمسرح يدفعني إلى إهمال النص كلّية لكنه كان يدعّمني في رفع راية: إن المُخرج هو مؤلف العرض المسرحي الذي يكون النص جزءا من تكوينه، وأن للمُخرج الصلاحية الكاملة في التصرف مع النص بما يراه ضرورة لمصلحة العرض مسرحيا، وكان هذا التعريف يُدعمني كذلك في الدعوة إلى إستقلال الناقد المسرحي عن الناقد الأدبي المشغول بالكلمة المكتوبة للقراءة والمَعني بتوجه كامل مقصور على الكاتب فحسب، وكنت أتمنى أن تستخرج حركة إستقلال "الناقد المسرحي" جنودها من مسرحيين عملوا بالإخراج وشاركوا في صناعة العرض المسرحي مُستنبتين من أرضيتهم المسرحية لغتهم الواعية والمُدركة للعملية المسرحية رافعين شعار: " دعوا المسرح يتحدّث بلغته"، فعبر نقاد كهؤلاء فحسب يمكن لحركة مسرحية في بلادنا أن تنبثق متفجّرة بالخصوبة والوعي والابتكار، قادرة على حفر مجرى لمسرح يخصنا: نتأصل به ويتأصل بنا ويتصاعد في تطور لإثراء التعبير عن الحق والخير والجمال.

كان من المنطقي ـ وقد إتخذت الموقف المبدئي مسرحيا ـ أن تتوحد لغتي مع لغة المخرج صاحب العرض المسرحي أكثر من توحدها مع كاتب النص الذي كان ولا يزال يعد نفسه أديبا بالدرجة الأولى. والأمر كذلك كان من النتائج المنطقية أن الذين يسمحون لأنفسهم بالإعتداء على المسرح بالنقد والتقييم، بكل موروثات المغالطات الرثة، يكونون بأكملهم في ناحية وأكون في الناحية النقيض مع المسرحيين والوعي المسرحي وجنود الحلم الثوري؛ غرباء لا يحمينا سوى العناد وقوة الإيمان بالمبدأ. رغم صعوبة موقفي إلا أنني كنت سعيدة غاية السعادة كوني أقلّية قادرة على الاستمرار في المواجهة وخوض المعركة وإزعاج الخصوم، وكنت أسمي نفسي "الناقدة المُحاربة" وأحيانا "مقاتلة في الأحراش والغابات"، وفي كل الأحوال واحدة من جنود الحلم الثوري؛ أخوض على صفحات المصوّر، بدعم من رئيس تحريرها المثقف الذواقة المحرّض على التوهج الأستاذ أحمد بهاء الدين، معركة الشكل المسرحي، واللغة المسرحية، وتصحيح المغالطات الفنية المليئة بالخزعبلات المعوّقة لنهضة المسرح كإطار مستقل للتعبير الإنساني، وكنت خلال المعركة قد حددت إنحيازي الكامل لصالح المستضعفين ضد قوى وأشكال المستكبرين المفسدين في الأرض.

كانت سنوات الستينات، تلك الشهيرة بكونها فترة إنتعاش المسرح المصري، هي في الواقع سنوات الصراع الذي خاضه جنود الحلم الثوري لجمع لطع دودة الثورة؛ وكانت الدودة هي: الإنتهازية والزيف والكذب والدجل والسياحة السياسية والسياسة السرابية التي أنتجت الهوّة المخيفة بين القول والفعل، والانفصام بين الشعار المُعلن والتطبيق الواقع، ثم كانت الدودة هي المنهج الإجرامي الذي تبلور وناء بكلكله على صدر الإنسان المصري الباسل الوديع؛ منهج القمع والإرهاب السلطوي، منهج قطع الألسنة وجدع الأنوف وسحق الكرامة الحرام للمواطن، منهج السجن والاعتقال والتعذيب للشبهة و للفتة ولرفّة رمش العين.

كانت الستينات فترة إنتعاش للمسرح المصري، نعم، بما يعني أن كانت هناك، رغم كل شئ، مقاومة ثقافية نابضة تحركها دماء وتضحيات ثوريين أصلاء، (قبل أن يذوى المسرح وينزوي مع مرور السبعينات ويثبت بالدليل أن الموت قد خيّم وفرش أجنحتة القاتمة)، والمقاومة النابضة لا تعني أن أمورها مُيسّرة لكنها تعني أن حركتها مستمرة وأن جنود الحلم الثوري، من أجل إعلاء الحق والخير والجمال، مايزالون في الساحة وإن سقط منهم شهداء، وأنهم مسيطرون في مواقع صراعهم لتسود رؤيتهم الإنسانية لصالح الإنسان، وللتمسك بالمكتسبات الشعبية لتحويلها من صحائف ورقية بلا قيمة إلى واقع يقف على الأرض تنزرع فيها المكتسبات فتضرب جذورها في الأعماق وتتلاقح مع النيل والهواء وعرق عباد الله فتنمو وتشتد وتعلو باسقة كالشجر الطيب.

 كان جنود الحلم الثوري مستميتين لترسيخ واقع يتوازن ولو قليلا مع الطقطقات والشقشقات الثورية لفظا والفاسدة أثرا، وكان جنود الحلم الثوري يرون الخطر الأكبر يكمن دائما في سارقي الحلم من أبنائه وحفظته المخلصين، يكمن في المنافقين، في الإنتهازيين الذين يهددون حصاد ومحصول كل ثورة؛ إذ بإجادتهم رطانة اللغة الثورية وبراعة تمييعها لتناسب كل الأهواء ينجحون في تعطيل الأبناء الصادقين، وفي نخر الثورة من قلبها إلى أن ينهار كل شئ ويصبح كالعصف المأكول.

شهدت سنوات الستينات أعنف المعارك التي خاضها جنود الحلم الثوري لجمع لطع دودة الثورة ووقوفهم ببسالة ضد تلك اللطع، التي صارت بالنهاية أخطبوطا هائلا من الإنتهازية استطاع أن يفرش نفسه طولا وعرضا وسماء وأرضا ويتمكن تماما من ضعضعة الحلم الثوري المخطوف من أبنائه، ومن تحويل المكتسبات الشعبية الورقية إلى مسلسلات إذاعية وتلفزيونية، وزفة سياحية، وألاعيب حواه، وأفاعي سحرة يكتبون في الصحف والمجلات، وبرغم ضخامة الأخطبوط وشراسته وخسّته في الدفاع عن منافعه الشخصية لم يفقد جنود الحلم الثوري عنادهم الذي استمر معهم مارا بهم من هلاك إلى هلاك.

كان جنود الحلم الثوري ـ ضمير مصر ونبضها ـ يعرفون أنهم أقليّة وعزّل أمام الأخطبوط، الذي تملّك سلطة الدولة بأكملها، والذي تكون وتجمّع من فصائل ثوريين سابقين فقدوا ثوريّتهم، ومن مثقفين عدميين، ومن إنتهازيين أصلاء يعتنقون الإنتهازية إعتناقا مبدئيا كاملا، ومع كل هؤلاء بالطبع فئة من الخدم والعبيد وعبدة للأوثان؛ أخطبوط رهيب مُدعم بكل شئ، لكن جنود الحلم الثوري كانو يعرفون أن الحشد الهائل من لحم مصر من المستضعفين كانوا معهم، كانوا يعرفون أن الجياع معهم، أن المرضى البلهاريسيين معهم، الشهداء الذين ذبحهم الأخطبوط غيلة في سيناء معهم، الصم البكم والعمي معهم من دون أن يدركوا أنهم مع أحد على الإطلاق! كانت مصر بتاريخها ومواقع مقاومتها كذلك معهم. واستمر جنود الحلم الثوري رغم تشتتهم، حين وحيث لا يكاد الواحد منهم يستدل على أخيه، كانوا مصرين على الاستمرار في الصراع ضد الأخطبوط، ( إلى أن انقسم هذا الأخطبوط على نفسه في 15 \ 5 \ 1971 وأكل ذيله رأسه وتغيّر لونه تماما من أخطبوط يقتل ويخنق ويأكل السحت تحت علم إدعاء الإشتراكية والتقدمية إلى أخطبوط يأتي الجرائم نفسها ولكن تحت علم آخر أكثر إضحاكا وإن لم يكن أقل إبكاء، وهوعلم إدعاء الديموقراطية والتحضر والسلام الاجتماعي، لكن حتى بعد التغيير في الشعارات ظلت هناك سمة مشتركة بين أخطبوط ما قبل 15 مايو 1971 وأخطبوط الطبعة الجديدة المنقحة بعد 15 مايو 1971 تلك هي: أن كلاهما أخطبوط يجبن ويهادن في كل شئ إلا منفعته الشخصية إذ يكون في دفاعه عنها غاية في الشراسة والخسّة)، وكان لا بد لمسرح الستينات أن يرصد الصراع بين النقاء والعفن وأن يلتقطه ويُعبر عنه بجهود جنود الحلم الثوري الذين كانوا يملكون بعض مواقع مشعة في النقد والإخراج والتمثيل والتأليف وكانوا يحاولون أن يستدل بعضهم إلى البعض من خلال كلمة أو موقف أو عمل أو صمت فيتساندون في معركتهم غير المتكافئة مع الأخطبوط والتي كانوا يخسرونها يوما بعد يوم.

كانت مهمتي النقدية تدفعني إلى موقفين إزاء كل عمل أستشعر من ورائه أنفاس ونبض جنود للحلم الثوري مخلصين: موقف ألتزم فيه الصمت خوفا من إعلان الفرح كي لا يتنبه الأخطبوط ويكسر مصابيح الفرح التي تلألأت في غفلة منه، والموقف الثاني يدفعني إلى الكتابة عن العمل في عملية مرهقة ومحفوفة بالمحاذير لأنني أكون قد أردت أن أفصّل العمل للقراء بإشاراته الواضحة ضد الأخطبوط ويكون عليّ بذات الوقت الكتابة بهدوء كاف حتى لا تلتفت عين من عيون الأخطبوط الكثيرة ضدّي أو ضد المسرحية، وكان من حسن طالعي أنني كنت في مجلة المصوّر تحت رئاسة أحمد بهاء الدين النظيفة الراقية التي تحث على الصدق وتكبح أقوال الزور مما أتاح لي قدرا كبيرا من التعبير عن رأيي النقدي بحرية شبه كاملة، إلى أن داهمنا قرار نقله من مؤسسة دار الهلال إلى مؤسسة الأهرام في أغسطس 1971.

بديلا عن أحمد بهاء الدين جاء آخر من يمكن أن يكون بديلا للرقي والتحضر؛ جاء مكارثي الثقافة المصرية بكل غشومية وغباء البطش والتنكيل: جاء يوسف السباعي مفتونا بالسلطة متلذذا بالإبادة!
قبل أن يرتشف يوسف السباعي أول فنجان قهوة بمكتبه، كرئيس مجلس إدارة دار الهلال ورئيس تحرير المصوّر، استدعاني، و بيده مقالي عن العرض المسرحي "ملك الشحاتين" لنجيب سرور وجلال الشرقاوي، قائلا وهو يرشق عينه الزرقاء القاتلة بمنتصف جبيني: "يكون في عِلمك إحنا مش عاوزين نشوف اسم صافي ناز كاظم ده منشور أبدا، وعشان تبطّلي عجرفة مناخيرك ح أجيبها الأرض"!

هكذا بلفظة لسان نزلت سكينة الأخطبوط قاطعة عني حقي في أداء جهادي الثقافي تجاه بلادي وأبناء أمتي، ولمن كان تعبي وكدحي وطوافي المشرق والمغرب أجمع خيرات الرحيق؟ لحظة شعرية داهمتني في موقف لا شعر فيه. أي جبروت هذا؟ أي عنف وإرهاب وحشي هذا الذي يمارسه الأخطبوط هكذا وبلا رادع ـ وبلا تعويض طبعا ـ على خلق الله؟ رغم أنني شعرت لحظتها بعين يوسف السباعي الزرقاء مرشوقة في منتصف جبيني كرصاصة إغتيال غادر إلا أنني لم أتمالك نفسي من الضحك لأن المسرح علّمني أن أكثر المشاهد هزلية هي مشاهد الطغاة والمتجبرين، خرجت من مكتبه أتمتم الآية الكريمة من سورة يس: "ومن نعمّره ننكّسه في الخلق أفلا يعقلون".

وهكذا اختفى اسمي من النشر في السبعينات كلها إلى مطلع الثمانينات، فمنذ أغسطس 1971 حتى 25 مارس 1983، تحقق قرار يوسف السباعي بحذافيره فلم يُنشر اسمي قط في صحف مصرنا المحروسة، على مدى مايقرب من 12 سنة، إلا ضمن قوائم المعتقلين والمتحفظ عليهم والمقدّمين لمحاكم أمن الدولة، لماذا؟ لا أدري إلا أنني حاولت دائما أن أكون ناقدة مسرح كما يجب وكما وعدت مصر الحبيبة الطيبة.

أُجبرت على البقاء في بيتي لا أملك سوى النظر من شباكي أرقب في أسى العاصفة الترابية التي هيّجها الأخطبوط في ردائه الجديد بعد 15 مايو 1971. كانت العاصفة تطيح بزهور المسرح اليانعة، والأخطبوط يدوس معها بأذرعه الثعبانية كل النباتات الصغيرة اللينة الواعدة، ويعتصر الأغصان، وبعد المذبحة نظر الأخطبوط إلى جذع شجرة المسرح الناتئ؛ مبتورا أجرد، وبدأ يلصق عليه كل ورقة ذابلة، وكل ثمرة فجة، وكل ما لا يمكن أن ينتمي أو ينمو على الشجرة، وظل الإصرار على إقامة مسرح مع الإصرار الكامل على إقامته من دون مسرحيين، والمدهش أنني رأيت مسرحيين لا يتدخلون في مُعترك الحرب التي دارت لطحنهم بل وكانوا يبدون طواعيتهم الكاملة للإنسحاق التام ويشكرون الإجراءات الرحيمة التي ـ على الأقل ـ تعطيهم فرص الإنسحاق، ( نعمان عاشور وعبد الرحمن الشرقاوي على سبيل المثال)، وأصبح المسرحي يتبنى مُغالطات وخلط غير المسرحيين!

يحلو للبعض في معرض الحديث عن مسرح الستينات أن يبالغ ويُضفي على المرحلة ذهبية يشهد المعاصرون أنها لم تكن موجودة؛ كان المسرح موجودا، نعم، وكانت به حيوية وجهود مُخلصة، نعم، وكان يعج بالمواهب والطاقات، والذين تعبوا ودرسوا وتعلّموا وكانو يحملون القدرة على تحقيق النتائج الذهبية، نعم، نعم، نعم، لكن تركيبة السلطة التي أهدرت الوعود الذهبية في سيناء المخذولة لم يكن من الممكن لها أن تسمح بتحقيق الوعود الذهبية في المسرح الذي كان يجب أن يُخذل هو الآخر، وبلا تردد، قبل أن يُشير ويفضح ويقود مسيرة الاحتجاج، برفض الهزيمة والغفلة، نحو الوعي الذهبي.

على كل حال، ومع الحقيقة التي كان يرددها الشاعر ت. س. إليوت: "ما قد تم فعله لا يمكن نقض فعله"، أحمد الله على ما كان وعلى ما سيكون بمشيئته وقضائه.


هناك 6 تعليقات:

  1. لمحة رائعة يا استاذة وكأننا نشارك حضرتك الايام والسنوات بكل ما فيها ومن فيها .. ولكن يحزننى أن نحرم طوال عشر سنوات من قلم مختلف متفرد مثل حضرتك .. فهل يرجع ذلك الى التعنت والتضييق على الأقلام الحرة ألم يكن ممكنا إيجاد أماكن أخرى للكتابة داخل مصر ؟؟.. أشد ما أحزننى الى جانب هذا ذلك الإختلاف المحزن بين قلم كاتب مثل يوسف السباعى ( الذى عرف برومانسياته وقلمه الرقيق كما ظهر من قراءة بعض أعماله ) وبين ما يمكن أن يكون عليه المسئول الديكتاتور والمخدماتى المثقف .. وفعلا من متابعة مسرح السبعينيات لاحظت اختفاء وميض محاولات الستينات المبشرة ولم يتبقى سوى المسرح التجارى بكل (هلسه وجو كباريهاته ) فى انتظار ذكريات جديدة تخفف عنى الحرمان من كتب حضرتك سامح الله مكتبات الاسماعيلية الخالية الدسم

    ردحذف
    الردود
    1. ياهبة قرار يوسف السباعي كان يغطي المنطقة العربية بأكملها! وحتى حينما فتح لي طاهر أبو زيد كوّة في إذاعة الشرق الأوسط وكان رئيسها صرخ فيه السباعي قائلا: إحنا نمنعها من مئات تقوم تفتح لها آلاف؟ وكانت النتيجة أن أطيح بطاهر أبو زيد من الإذاعة، وهذه الحكاية حكاها لي طاهر أبو زيد رحمه الله بنفسه!

      حذف
  2. صباح الفل يا ست الكل
    http://hamdyabdelrahim.blogspot.com/2013/11/blog-post.html

    ردحذف
  3. صافى – يا لبن - كاظم





    الرجال فى مصر كثر وأرجل رجل عرفته يتخفى تحت اسم أنثوى ويسمى نفسه "صافى نازكاظم" فهذه السيدة الجميلة الجليلة رجل بمعنى الكلمة إذ أن "الرجولة" لا تعنى أبدًا "الذكورة" بل تعنى "النبل والجمال، والإخلاص والوفاء والمحبة".

    ولكى أكون صريحًا أقول إننى لا أعرف سببًا واحدًا يجمعنى بهذه الأم الجليلة فأنا وهى "نتعارك" حول جميع تفاصيل حياتنا من جمال عبدالناصر إلى أسامة أنور عكاشة مرورًا بموسيقى عمار الشريعى وصوت على الحجار ولطفى بوشناق، فهى ترى هؤلاء بعين غير التى أراهم بها، إذا ما الذى يجمعنى بها؟

    إنه منهج صافى ناز فى الحياة.. فكثيرًا ما قالت لى: "خذ الناس مرة بالجملة ومرة أخرى بـ "القطاعى" وساعتها ستكتشف مناطق لقاء لم تكن تتوقعها".

    ثم هناك شىء آخر غير منهجها فى التعامل مع "الحجريين" من أمثالى إنه حسها الشعبى الذى يهيمن على جميع تفاصيلها فلو قدر لك ودخلت بيتها، فلن تجد فيه غير رائحة النظافة، هل للنظافة رائحة؟.

    نعم نظافة بيت صافى ناز لها رائحة، كتب وقرآن وتواشيح وأغانى نجم وإمام وقصائد عبدالوهاب بالتأكيد كل هذه الأشياء لابد أن تكون لها رائحة، ثم هى سيدة تجيد الرطن مثل الخواجات ولكنها تموت صبابة فى أغنية "كعبه محنى وكفه محنى" ولا تستنكف أن تعلن عشقها للكشرى ولقصص كامل الكيلانى وتكشيرة نبوية موسى، وكل هذه التفاصيل تتجمع داخلها وتحتشد ثم تغادر قلبها، وتأخذ شكل مقالات وكتب، تقبل أنت ما بها أو ترفضه، أنت حر ولكنك لن تستطيع الفكاك من سحر هذه الكتابات التى تتدفق مشحونة بكل ما هو مسلم وعربى ومصرى أنها وبـ "الجملة" واحدة منا شاء لها الله أن تكتب فقررت أن تكتب عنا وعنا فقط.

    والآن ما مناسبة هذا المقال؟

    الإجابة هى الحياة أقصر مما نظن ولن نخسر شيئاً لو قلنا للذين نحبهم يا أيها الأحباب نحن نحبكم.

    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    نشرت بجريدة الجيل ــ 20 ديسمبر 1998

    ردحذف
    الردود
    1. ياه يااااااااه ياحمدي أين أنت أيها الابن العاق؟ وعدتني أنت وبلال بالزيارة ووقتها قلت لكما أن موعدها: "في المشمش"! وصدق قولي! بالتمام لا يجمعني بك أي شئ سوى روعة أسلوبك في الكتابة وخفة الظل التي أندهش كونها تتمثل في ناصري، فالناصرية تتجلى بحذافيرها كما تعلم في جمال فهمي وحمدين صباحي وفريدة الشوباشي وعبد الحكيم عبد الناصر وأمثالهم ممن حط عليهم ثقل الظل كل ظلاله، وأين أنت بظرفك ومواهبك وذكائك من هؤلاء؟ والله ياحمدي أنا لا أكذب ولا حتى أتجمل أنا حلوة كدة من غير أي إضافات! مقالك الجميل كأني أقرأه لأول مرة ورأيت أنني أوافقك عليه! نفسي أضحك يا حمدي إن شاالله حتى من شر البلية لكن أراني عصية الضحك شيمتي الكدر! كيف حال ابنتك الأولى والثانية؟ وحال زوجتك الطيبة؟ وعامل إيه في الإنفلات المنطقي الذي يملأ أرجاء المحروسة حيث أصبح النمنم مؤرخا ومفكرا متآخيا مع عمرو عبد السميع الذي إنهبل على كِبر وصار يكتب يوميا في الأهرام لابسا الكسرولة على رأسه بالمقلوب يتلقى منها أفكاره التي تحرّضه على نفسه. حمدي يعني إيه "سوف نستخدم القسوة التي هي حق مكفول للشرطة"؟ كيف يمكن أن تكون "القسوة"، التي هي عدوان، "حق"؟ الخلق دي كلّها محتاجة تتعلّم عربي، كيف وأنت الفصيح والمرجع في المرفوع والمكسور والمنصوب والمجزوم والممنوع من الصرف تتحمل كل هذه العُجمة؟

      شفت؟ كلّمتني فتحت جعّورتي! أنت جلبته على نفسك! حرسك الله ورعاك!

      حذف
  4. كم أفتقد روحك العذبة وكلماتك المدهشة وصراحتك القاطرة التى تعيننا على تحمل أيامنا الصعبة يا بخت من بكانى وبكى عليا ولا ضحكنى وضحك الناس عليا .. اللقاء قائم والمشمش بقى يطلع كتييييييييير الاستيراد والصوبات والتهجين شغال على ودنه ربنا يعزك ويحفظك ويفرح قلبك دايما ان شاء الله

    ردحذف