الجمعة، 25 أكتوبر 2013

آخر أيام سقراط:


 آخر أيام سقراط، هو العمل المسرحي الفذ الذي ألفه المسرحي العظيم منصور رحباني و  قدمه مسرح دار الأوبرا، موسم نشاطها الفني 1999؛ بعد مشاهدتي لذلك العمل المسرحي، منذ سنوات قلت: للفن الجميل سره الشافي من وجوم الأيام الصعبة، أضيف اليوم : للفن الأصيل رؤيته الثاقبة التي تبدو أحيانا مثل النبوءة الصادقة .

يختار منصور رحباني ، لمدخل مسرحيته الغنائية آخر أيام سقراط ، لحظة تاريخية هي احتلال اسبارطة، دولة الحرب والشراسة، لأثينا، وطن الفكر والفلسفة. سقراط هو الشخصية المحورية التي ترمز إلي المقاومة الفكرية، في مواجهة الكذب والفساد والاستبداد والخزعبلات وعقائد الشرك والوثنية، ونسمع سقراط يخاطب وطنه: "أثينا ياأثينا ، أنا واللي مثلي عملناك يا أثينا، جعلناك مدينة الفلسفة والحضارة، السياسيون شرشحوك، خلو عسكر سبارطة المتوحش يدعس ترابك .."، وقبل تجرع السم ، في نهاية العرض تنفيذا لحكم الإعدام بحقه، يعلن إيمانه: " .... إله واحد خالق ها الكون ..."، رافضا لآلهة : "تأكل وتشرب ... آلهة تتجوز .. لا.."! وهذا البعد الإيماني لشخصية سقراط، يتعمد منصور رحباني توضيحه، مع تمتماته المسبحة في نصه المطبوع، الحريصة على "بإذن الله" و "شكرا لله"، مما يجعلنا نحس بالعمل مرفوعا بنية صلاة تدعو وتؤكد أن من هو : "رايح ع درب الحقيقة، متوج بالاستشهاد .."!

سقراط ، القائد الفكري والروحي للناس ، لا تحبه أي سلطة، سواء كانت سلطة "كريتياس"، الحاكم الفرد عميل الاحتلال الاسبرطي، أو "أنيتوس"، زعيم الحزب الديمقراطي تاجر الجلود وحارس مصالح الأغنياء على حساب حقوق الشعب الفقير. سقراط، الواقف بين الناس في خندق الحق، في خصومة مع الطغاة والغزاة، هو الذي ترميه التلفيقات بالتهم : "سقراط أنت اللي دخلت سبارطة، أنت اللي زعزعت الدين، بسبب تعاليمك غضب الآلهة حل علينا، لازم يتحاكم سقراط ..."، وهكذا ينقلب الميزان القسط : "... المطلوبين (المُدانين) حاكمين والشرفا محكومين ...".

وينشد الكورس، بلسان منصور رحباني : "حكم كريتياس بسيف سبارطة حكم، مشي نهر الرعب بأثينا، كُتب الشعر تلطخت بالدم، طرقاتك ياأثينا إيدين وخناجر، دايما حدا مارق، ودايما خنجر ناطر.."، عقوبات الاعدام وجبات يومية : "وسع الظلم، انكسر العدل ، اسودي يا أثينا .."!

يقول سقراط للطاغية : كريتياس، "هل بيحق لنا نلغي إنسان إذا كان رأيو بيخالف رأينا؟"، ويرد السفاح : "لأجل الصالح العام!" فيسائله سقراط : "هل فيه حكم صالح بيقرر يقتل؟" . ويختصر الحاكم الجائر الحوار : " الحرية للجميع، حرية الحب، السهر، يتاجروا، يحتكروا، يرفعوا الأسعار، ماقلنا لهم شئ، راقبناهم وتركناهم، بس السياسة يتركوا لنا إياها، ماحدا يتعاطي بالسياسة بيعيش مرتاح !"، وحين يطلب كريتياس من سقراط أن ينضم إليه، يواجهه سقراط : "شو قضيتكم إنتو وحزبك غير التنكيل بالناس؟"، لذلك يصدر الأمر من كريتياس بمنع سقراط من الكلام : "إعتبارا من اليوم ممنوعة التجمعات، ممنوعة التظاهرات والتعليم بالساحات، في حبس واعتقالات!"،  ولا يتراجع سقراط ، المرجع الفكري والروحي للناس: "علينا أن نمتلك الجرأة لنعلن أفكارنا ونجعلها مطابقة لأفعالنا ... الناس أغلى من الحكم"!

أفلاطون، من تلاميذ سقراط، يحكي عن جمهوريته الفاضلة : "وبالجمهورية رؤساء الدولة مش لازم يمتلكوا فلوس ومش لازم يتجوزوا، حتي قرايبهم وولادهم ما يستغلوا السلطة"! وتستمر الملامسات الكثيرة الساخرة عن فساد الحكم والمحسوبيات وخرق القوانين بالقوانين، وقتل الشعب بدعوي مصلحته : "خلي رجالك ياكوستا يعدولي خيالات الناس ... مين اللي بيفكر يتمرد، مين معنا ومين علينا"، وتكون الإجابة : "بقيو اللي معنا وخلصوا اللي علينا ..!".

أما مشكلة الفقر فيكون حلها بإبادة الفقراء: "إلغي الفقرا بتلغي الفقر"!

وحين يذهب الحاكم الفرد، يأتي الديمقراطيون بسلطة مستغلة : "وإجت الديمقراطية ما تغير علينا شيء"، وتستمر المواجع نفسا لا ينقطع، يشهق به عرض "آخر أيام سقراط"، ويزفر حتى تصل ذروته في المحاكمة وقرارها بإعدام سقراط بتجرع السم، وقد رفض الاسترحام : "عيب ع العدالة نلتمسها لشفقة .. ياقضاة، أنا عارف إني جاي ع الموت ، لا تترقبوا مني موقف ما بينسجم مع واجبي الأخلاقي والديني"! وتصرخ زوجته : " كل واحد بنقول عنه بطل مُصلح قتل من شعبه ميت مرة أكثر مما قتلوا المحتلين"!.

يرفض سقراط فرصة الهروب ويواجه الموت : "انفتحت أبواب الليل، والموت قصيدة، اعطوني ياحراس الكاس، لشو أتمسك بحياة ما بقى تعطيني شئ، وشو نفع التأخير؟ ناولوني الكأس، كتار بيحملوا الشعارات وقلال المكرسين"!

حين يشرب كأس السم، تقع عصاه ويجمد سقراط، رمز المقاومة الفكرية والروحية، واقفا حتى يغيب صاعدا مرتفعا إلى أعلى، والجميع ينشد في قصيد شعري موسيقي غنائي مشحون :

 "يابواب الدهر تعلّي،
 ارتفعي يامداخل،
 ياغيم الأبيض صلي،
 غطي الهياكل،
 اللي راكع بدو يعلي،
 والطاغي بدو ينزل،
 ....
ياصيف ياشتا ويا أعياد،
 ......
رايح ع درب الحقيقة،
 متوج بالاستشهاد ".

أحببت أن أنعش الذاكرة بهذا العمل المسرحي البديع، الذي جسد وظيفة الفن الضرورية والراقية، التي لا تلمس الجراح بالزاعق الحارق، أو الثقيل الكاتم للتنفس، والمهيج للالتهاب النازف للدم والقيح. وأحببت أن أسجل لمنصور رحباني الفنان المخلص والأمين، رحمه الله، رؤيته الثاقبة، التي جاءت مثل نبوءة صادقة، حققتها الأيام.



هناك 4 تعليقات:

  1. السيدة الفاضلة / صافى ناز
    يرجى التكرم برد غيبة الشهيد / سيد قطب فما أرى اجدر منك بهذا....
    http://dostorasly.com/news/view.aspx?cdate=26102013&id=0b41af3f-2e1c-4693-920a-af883231a62c

    ردحذف
    الردود
    1. الله يرد غيبته؛ والشهيد أكبر من أن ندخله في مهاترات هذا وذاك.

      حذف
  2. من المعروف عن سقراط انه كان عفيبفا وهي صفة نادرةفي تلك الفترة التي كانت تنتشر فيها الرذيلة و الشذوذ وكات تعد امرا طبيعيا
    كما تجلى وفاء أفلاطون لأستاذة من خلال المحاورات التي كتبها على لسان سقراط

    ردحذف