الاثنين، 25 أكتوبر 2010

رسالتي القديمة المتجددة

وجدتها، تلك الرسالة التي كنت قد أرسلتها من شيكاغو، أكتوبر ١٩٦٢، إلي والدتي وقلت فيها قولا أجد من المناسب، بعد كل تلك السنوات، أن أعيده علي الأسماع، برهانا، قد يحتاجه البعض، علي أن أمريكا هي أمريكا، إذ في جوهر مبادئها وفلسفتها وممارساتها أسس كل ما نراه الآن من وحشية باردة.

أقول في رسالتي القديمة المتجددة:

 ...لا تخافي عليّ يا أمي من عصابات شيكاغو، علي أية حال أنا دائما أسير ومعي مطواة في حقيبتي أمسكها بيدي عندما أعود ليلا.

أما هؤلاء الذين تقولين عنهم يا والدتي إنهم يمشون بدون خناق أو احتكاك فأنا لم أقل عنهم خونة، أنا لا أتهم أحدا بالخيانة، لكنني أردت فقط أن أحكي لك صعوبة أن يقول الإنسان رأيه هنا، وأنه لابد من التغاضي لكي يمشي الحال، والتغاضي شيء عظيم لو كان في الإمكان. من طبيعتي عدم التغاضي ومع ذلك فليس كل العالم أعدائي هنا، لدي بعض الأصدقاء فلا تقلقي. إنما أردت أن أشرح لحضرتك كيف أن أي طالب أجنبي يصل ليتعلم هنا في جامعات أمريكا لن يفلت من محاولات اصطياده ليكون مسخا من صورة وصنع «الطريقة الأمريكية في الحياة» تمهيدا ليقوم بدوره كإحدي القواعد الحية التي تزرعها أمريكا لخدمة مصالحها وفكرها ومنطقها في العالم.

إن الجامعات الأمريكية لا يخفي عليها منذ اللحظة الأولي التي تعطي فيها منحة أو مساعدة للطالب الأجنبي أن هذا الطالب سيعود إلي بلاده وسوف يحتل المراكز المهمة ويشغل دورا حيويا في التوجيه الفكري في بلاده، والمحاولة تكون لجعل هذا الطالب تحت السيطرة الأمريكية ليكون قناة يعبر عليها المنهج الأمريكي في التفكير، نعم إن هذا الطالب لا يقصد به أن يدرب ليكون جاسوسا، فتدريب الجواسيس له بند تدريس آخر، لا: سيظل الطالب مخلصا محبا لبلده متصورا أنه يقدم لها خير ما يملك من خبرة وثمرات تجربته، كل ما هنالك أن يُصنع الطالب تدريجيا ليؤمن أن أمريكا هي صديقته، هي حامية حماه من الخطر، أن بلاده لا يمكن أن تصمد وحدها بدون يد أمريكا وراء ظهرها، أن وجه أمريكا طيب، صبوح، ضاحك، صريح، ساذجة أمريكا ربما، لكنها سذاجة الأطفال الأبرياء!

أن يُغسل مُخ الطالب الأجنبي فيتصور أنه، وهو يذم سذاجة أمريكا ويتهمها بالطفولة والبلاهة، إنسان حر لم تستطع دولارات المنحة الأمريكية ولا دعوات الغداء والعشاء ولا الفتيات أو برامج التأهيل المتعددة المخططة للاحتواء، لم يكن لكل هذا أن يؤثر في موضوعية تفكيره وحقه في أن يقول رأيه بصراحة في أن أمريكا ساذجة بلهاء!

مع ذلك فأنا لا أخشي علي الذين يعودون إلي بلادهم: فهم إما يعودون ويؤقلمهم الناس من جديد رغم أنفهم بطريقتهم في الحياة، أو أنهم يرجعون إلي أمريكا وهنا يزول خطرهم.

 وحين يرجعون أمامهم الاختيار الحقيقي: أن يبيع الواحد منهم نفسه كاملا للتغاضي حتي يصير طبيعة فيه أو يعيش منغص الحياة إلي الأبد. فأمريكا لن تكون ضاحكة وبسيطة ومرحبة إلا أمام ثمن غال جدا هو: أن يقبل الراجع إليها تخدير عقله وضميره وروحه ويصبح مجرد جثة آلية تتحرك بلا حس أو غيرة، ليصبح إنسانا مسلوخا عن وطنه وناسه.

ولقد قابلت أنماطا مصرية من هؤلاء: قابلتهم بعد أن تمت صفقة شرائهم وتحويلهم إلي مسخ مشوه حقير من الإنسان الأمريكي المضلل.

قال لي أحدهم إنه لم يعد بوسعه أن يعيش بمستوي أقل مما تعود عليه في أمريكا وإن أسلوب التعامل في مصر صعب جدا وإنه لم يطقه لأنه لم يعد بوسعه أيضا التعامل بغير أسلوب التعامل الأمريكي، وكان فرحا جدا بعربته الآخر موديل وشقته الأنيقة وعلاقاته الحرة الكثيرة مع فتيات شقراوات، وكان أحيانا يبلغ به تملقه أن يتأفف من الأمريكي الأسود ويبرر تعصب الأمريكي الأبيض بأنه: أصل يا مدموازيل الزنوج هنا وسخين، إنت ترضي تقعدي مع ناس وسخة؟ متجاهلا بالطبع الفقر والحرمان المريع الذي قاساه الأمريكي الأفريقي علي مدي قرون طويلة ومتجاهلا بالطبع أن الوساخة كلمة لها مدلولان وأنها كلمة أليق به من الأمريكي الأفريقي.

مثل هذا النموذج كنت أراقبه وأتصعب عليه كأنه أحد الذين نزلت عليهم قنبلة هيروشيما وشوهته تماما بحيث أصبح من غير الممكن التعرف عليه. كنت أحس أن القنبلة ألقيت داخله وحرقت عقله وفكره وأصالته كواحد منا، ولم تترك منه سوي شكله الخارجي زينة يتسلي بها الأمريكان ليعلموا أولادهم كيف تكون ملامح المصري، فأمريكا مثل جامع الفراشات يهوي جمع فراشة من كل نوع يغرس رأسها بدبوس ويترك جسمها سليما.




هناك 5 تعليقات:

  1. ولكنهم ياسيدتي لعبوا علي وتر الضعف البشري ونجحوا فيه فترين مثلا ماان يظهر جواز السفر الامريكي الجنسيه الا وتجدين له تعاملا خاص في كل الامور

    ردحذف
  2. امريكا المسيخ الجال لهذا العصر لا يرى حقيقتها الا من رحم ربى ...نفعنا الله بعقلك يا سيدتى ورحم الله اول من كتب عن هذا المسخ المسمى امريكا.... الشهيد سيد قطب
    ياليت قومى يعلمون

    ردحذف
  3. و لم يختلف شئ منذ الستينات سوى أننا أصبحنا فى وضع أسوأ بكثير و أصبحت بلدنا شديدة القسوة و العنف و البطش بأبنائها و أصبحت نار الغربة ولا جنة الوطن

    ردحذف
  4. الغزو الفكري أخطر بكثير من الغزو العسكري
    في الغزو الفكري تسيطر علي البشر بشكل شبه كامل وبطريقة أستحواذية ولكن الغزو العسكري يميل الي القهر والشدة في التعامل مما يولد لدي الناس الواقعون تحت الاستعمار رفضا لهذا الغزو حتي و لو لم يتخذ شكل المقاومة العسكرية

    ردحذف