الجمعة، 29 أكتوبر 2010

الوداد روح المحبة

في الستينيات كانت هناك مسرحية عنوانها «شركان في بيت زارا»، لمؤلف شاب رحل مبكرا، اسمه مصطفى بهجت مصطفى. كانت المسرحية تدور حول «زارا» السيدة الطيبة التي لا ترى الشر كاملا في أحد، ومن ثم فهي تأمن للجميع وتفتح بيتها لكل الأطراف المتصارعة، وتقدم لهم جميعا شراب اللوز المحلى بالسكر. كنت شديدة الإعجاب بالمسرحية التي كان بها صوت مخلص يقول: «إكرهي أعداءك يا زارا..»، لكن زارا لم تكن قادرة على تحمل مشاعر الكراهية، وقتها تمثلت في «زارا» صديقتي «وداد متري»، التي كان بيتها ملاذا بديهيا لكل علامات الثقافة في بلادنا، منهم من كنت أحبه ومنهم من كنت لا أطيقه، كانت وداد تبتسم كلما ذكرت أمامها، بنغمة عدم الرضى، أنها مثل «زارا» ولا ينقصها إلا طلبية من زجاجات شراب اللوز تحليه بالسكر وتقدمه للاجئين إلى مودتها، فترد  بدعابتها الهادئة: إيه رأيك بقى الطلبية وصلت وجاهزة في البوفيه.
                                                                          

على اختلافنا، كنا متكاملتين، لا تناوئني ولا أناوئها، إذا أردت تجوالا يشرح قلبي في أحياء مصر العريقة: الغورية أو الخيامية أو خان الخليلي أو التربيعة أو الصنادقية أو الحسينية...إلخ، تكون «وداد» هي الرفيقة المثلى لا تكف عن ترديد: «اللللللللههههههه...يا سلاااااااااااااام.....شكرا يا صافي»، مستمتعتان بكل لحظات الدقائق عند العطار وعند بائع القماش والملاءات والمناشف وعند بائع الأدوات المكتبية وعند بائع الكليم اليدوي، صناعات القرى المصرية من الصعيد حتى الدلتا، نستنشق معا فرحة إنتاج اليد المصرية، ونملأ بها صدرينا دواء نستشفي به من كل أوجاعنا، ونعود معا من الجولة وقد استشعرنا صحة تصالحنا مع الأيام ونسامح بها الزمن.

تجسد معنى «الوداد» في «وداد»، أغني جنب أذنها المقطع الصعب من أغنية أم كلثوم القديمة: «الوداد روح المحبة، واللي مال يبقى طول العمرفي أسر الجمال...»، راجية منها أن تضبطها بصوتها الشجي وأذنها الموسيقية شديدة الدقة، تسمع «وداد« كلامي وترددها حسب الأصول من دون أن تنسى مجاملتي:«بس أنت قولتيها أحسن»، وأكون عارفة أنني قد قد شخبطتها على الآخر!

في كتابي «صنعة لطافة»، الذي صدر يناير 2007 عن دار العين للنشر، أحببت أن أقدم تعريفا ببعض رائدات في نهضة المصريات اللاتي خرجن إلى العمل والإبداع والبحث العلمي والنشاط الاجتماعي والثقافي وأثبتن أنفسهم بقوة فعالة في بناء مصرنا المحروسة، بشكلها الحديث والمعاصر مع مطلع القرن العشرين. كانت «وداد» هي الشخصية رقم 11 بين عشرين شخصية مصرية من أول نبوية موسى والآنسة مي، حتى توحة الخياطة، مرورا بالدكتورة معصومة كاظم رائدة علم الرياضيات والدكتورة عفت بدر رائدة علم الهندسة الوراثية. قرأت لها كلمة ظهر الغلاف التي أستعرض فيها أسماء الشخصيات كلها قالت بتواضعها المشهور: «يااااا...أنا جنب الناس العظيمة دي؟» قلت لها: «يا وداد، ألم تدركي بعد أنك جوهرة التاج؟» ضحكت بعد أن حبكتها النكتة: "السلطانية"!

وداد متري شخصية ثقافية وفكرية، من رائدات الصحافة المدرسية، كانت أول فتاة يتم انتخابها باتحاد الطلبة بجامعة فؤاد الأول في مطلع الخمسينيات، حين كانت طالبة بارزة في كلية الآداب قسم الفلسفة، لها تاريخ طويل في العمل الوطني والنسوي، عندما كان هذا العمل المسمى النسوي يهدف إلى دمج المرأة المصرية ودفعها إلى المشاركة الوطنية والمواطنية لنهضة المجتمع وتقدمه، وليس للانفصال والتحدي لمبارزة الرجل والدخول في حلبة المصارعة بين فريقين في معركة التقسيم على أساس «النوع»، إناث ضد ذكور وذكور ضد إناث. ولم تكن في مصطلحاتها مفردات مثل «العصر الذكوري» و«الفكر الذكوري» الذي يجب أن تصرعه الضربات «الفيمينيزمية» لتطرحه أرضا عودا إلى العصر الأمومي الذي كان سائدا منذ «خمسين مليون سنة»، إلى آخر هذا «الهجص» الذي لا يمكن أن تكون وداد متري جزءا منه.

تشرفت بأن أكون معها ومع الدكتورة أمينة رشيد والسيدة شاهندة مقلد «أربع نساء من مصر» في فيلم تسجيلي أخرجته المصرية الكندية تهاني راشد عام 1997، ليعبر، عبر تاريخ الوطن، عن إمكانية الصداقة والتفاهم بين أربع شخصيات، تختلف في الأفكار والمعتقدات والآراء، لأنها ارتبطت برابط قوي موحد هو حب الوطن، والتراحم الإنساني، والاتفاق على كراهية المحتل ورفض الاستسلام للاغتصاب الصهيوني للأرض الفلسطينية.

ظل «بيت وداد» صالونا ثقافيا، وملتقى لمعظم الشخصيات الفنية والحقوقية والفكرية والأدبية التي اشتهرت أسماؤها وذاع صيتها، ولو أحصيت أسماء هؤلاء لملأت دفترا جامعا لموسوعة أسماء الأعلام والمشاهير والمثقفين والمفكرين والعلماء والأساتذة الجامعيين في مصر والوطن العربي الذي سافرت وداد إلى معظم أقطاره مع زوجها الأستاذ الجامعي الدكتور سعد لوقا.

مثل كل المصريين، تعرضت وداد للتنكيل الوظيفي المتواصل في المرحلة الناصرية، وحرمت من ممارسة مهنة التدريس التي أحبتها ونبغت فيها، بيد أنها حولت منفاها من وظيفة مكتبية خاملة إلى نشاط صحفي مدرسي ونقابي أدى توهجه إلى مضاعفة التنكيل بالحصار والاعتقال، وصاحبتها آثار التنكيل حتى بلغت سن التقاعد بأمراض الضغط والقلب وتوابعهما، لكنها ظلت على الدوام بتفاؤلها وبشاشتها وقفشاتها اللاذعة وهواياتها المرهقة في شراء كل الصحف والمجلات الصادرة وقراءتها.

من أهم الأنشطة التي حرصت وداد على الالتزام بها طوال مشوار عمرها، كتابة مذكراتها وتدوين تفاصيل زياراتها ومقابلاتها أينما ذهبت. في واحدة من زياراتي لها أخرجت لي دفترين عن العراق في الفترة من 23/10/1964 إلى 4/7/1967، ودفترا عن زيارتها للأردن والقدس في الفترة ما بين 12/4/1965 و 8/7/1967.

بعد الفراغ من قراءة دفاتر الترحال الحر والجريء والمغامر الذي قامت به مع زوجها دكتور سعد وطفليها ريم وسهيل، في مدن وقرى ودروب العراق والأردن، بدت لي مذكراتها التي سجلتها في دفترها عام 1952 إثر تخرجها في كلية الآداب وقيامها برحلتها الأولى خارج «الوطن»، الذي هو القاهرة، إلى حيث تم تعيينها لتعمل مدرسة للغة الفرنسية في ديروط بصعيد مصر، مضحكة وطريفة طرافة بالغة إذ تقول وداد في هذه «الغربة» خارج «الوطن» إلى «ديروط»: «....كنت أتظاهر بالمرح على الرغم من شعوري العميق بأنني مقدمة على عمل خطير، هذا إلى جانب شعوري بألم شديد لفراق الوطن...»، مرة أخرى كانت هنا تعني القاهرة!

هذا الدفتر يحكي عن الشوط الهائل الذي قطعه المصري في خلال ما يزيد عن نصف قرن ليتجاوز مخاوفه من الغربة والاغتراب، ليصبح على رأس قائمة المهاجرين إلى دنيا الله الواسعة. الذي أحب أن أضيفه هو أن وداد متري، تلك الشابة التي بدت خائفة في المسافة بين القاهرة وديروط في صعيد مصر، وقفت صامدة بعد هذا التاريخ بسبع سنوات، 10 يوليو 1959، محجوزة لمدة أربعة أيام في قسم الموسكي مع الفاسدات وقاذورات البول والبراز والقمل وخلافه، قبل نقلها معتقلة سياسية، إلى سجن القناطر للنساء في الزمن الناصري الغني عن التعريف.

في بيتها، فوق مقعدها الأثير، كانت صورتها في إطارها على الجدار كأنها وجه من "وجوه الفيوم" الشهيرة ،تلك التي قال عنها طه علي في تقريره لجريدة الشرق الأوسط:" تعتبر وجوه الفيوم حلقة الوصل بين فن التصوير قديما وفن التصوير في العصور الوسطى.."، وقد عثر عليها أبو المصريات "سير فلندرز بتري" عام 1888بالجبانة الرومانية بمنطقة هوارة شمال هرم الملك إمنمحتب الثالث، وهي 146 "بورتريه" من أجمل ما وصل إلينا ومعظمها يرجع إلىالقرنين الثاني والثالث والرابع الميلادي.

في عصر الخميس 18/1/2007 شاء الله سبحانه وتعالى أن يغيب عنا جسد «وداد متري أنطون»، لكن «وداد» التي هي «روح المحبة»، باقية ترفرف حولنا، وهي معي في كل طريق أستنشق فيه عبق مصر الأصيل.

هناك تعليقان (2):

  1. كم كان زمانكم جميلا برغم قساوته - كم كنتم تواجهون الظلم والاضطهاد بالسخريه منه فجبلتم اقوياء تحيه لكي يااستاذه تعيشي وتفتكري

    ردحذف
  2. http://www.youtube.com/watch?v=9sCtUxv8pBA

    برنامج مانشيت مع أ. صافيناز كاظم

    ردحذف