الثلاثاء، 3 سبتمبر 2013

في ذكرى إعتقالي 3 سبتمبر ضمن هجمة إعتقالات سبتمبر 1981 الشهيرة:

الساعة الثانية بعد منتصف الليل، صباح الخميس 3 سبتمبر 1981، دهمت مباحث أمن الدولة بيتي واعتقلتني، كالعادة منذ أن رشّحني يوسف السباعي لقوائم إعتقالاتهم لأكون مُعتقلة مستديمة في كل مناسبة ومن دون مناسبة، أخذوني من صلاة قيام الليل لأوضع تحت تهمة قضية "إنشاء وتكوين تنظيم شيوعي"! أبقوني ساعات في قسم النزهة ثم أوصلوني بعد شروق الشمس إلى سجن القناطر للنساء؛ كنت ضمن القطفة الأولى لما يُسمّى الآن: "إعتقالات سبتمبر 1981 الشهيرة"، التي ضمّت 536 مُعتقلا .

أدخلوني قسم "سجناء الرأي" بمبنى مستشفى السجن، ثم وجدت نفسي نزيلة زنزانة مع معتقلتين في قضية سابقة هما: شاهندة مقلد وفريدة النقاش؛ كنت قد أرسلت "زيارة" لشاهندة منذ أسبوعين عن طريق حزب التجمّع، سألت شاهندة: "عجبتك زيارتي"؟ ـ ("الزيارة" هي مانرسله من هدايا طعام وملابس إلى المُعتقلين في السجن)ـ إندهشت شاهندة: "هيّ كانت لي أم لفريدة؟"، وفهمت أن أمينة النقاش أخذت ما أرسلته لشاهندة وأعطته لفريدة واعتبرته فريدة بالاستهبال ووضع اليد أشياء تخصّها! قلت وأنا أكتم غيظي: "بسيطة"! وحملت هم أيام قادمة في زنزانة واحدة مع فريدة النقاش؛ رفقة السجن مثل رفقة السفر ليس المُهم بالدرجة الأولى الاتفاق أو الاختلاف في الرأي أو المنطلق السياسي فالمهم بشكل نهائي: التعاون النفسي وإنسانية المشاركة وهذا ما خشيت ألا أجده عند فريدة. كان بالزنزانة حوض تنتشر من مواسيره ليلا صراصير حمراء كبيرة تطير وتغطّي الجدران، ومن خبرة إعتقالين سابقين 1973 و 1975 بالزنزانة نفسها توصّلت لحل إضاءة النور ليلا حتى لا تخرج الصراصير بكثافة وأضمن عدم زحفها فوقي وأنا نائمة، طلبت من شاهندة وفريدة السماح بترك النور مُضاء عند النوم لكن فريدة رفضت قائلة: "ماعرفش أنام والنور والع"، قلت: " وتعرفي تنامي والصراصير ماشية فوقك؟" وكان لها ما أرادت وكانت ليلتي ليلاء.

في صباح اليوم التالي، بعد ليلة رعب مع الصراصير، قلت لشاهندة: "ويقولوا ما فيش تعذيب؟ والسجن مع فريدة اسمه إيه؟"!

لم أكن أعرف بعد أن اعتقالي جاء ضمن هجمة حاشدة على كل مثقفي وكتاب وسياسي مصر تقريبا من مُعارضي اتفاقيات كامب ديفيد، أو ممن يُتصوّر مُعارضتهم،
في مُحاولة من محمد أنور السادات ليُثبت، لمن يريد أن يُثبت لهم، أن مركزه قوي وبإمكانه إخراس كل المصريين من دون أن تهتز شعرة في رأس أحد!

مساء الجُمعة 4 سبتمبر 1981 دخلت مُعتقلة جديدة تقول للسجانة، المُصاحبة لها إلى الزنزانة: "مِرسي قوي اتفضّلي بقى حضرتك" والسجانة تُغلق الباب علينا بالمفتاح!كنت أرقد على سريرى يمين الداخل من الباب أفكّر بصراصير النوم، وسرير فريدة النقاش إلى اليسار (جاء الحال هكذا من عند ربنا!)، لم أعرف من هي المعتقلة الجديدة حتى سمعت صرخة فريدة "أمّونة ..أمّونة.." ثم احتضان وبكاء، لم أهتم بمعرفة "أمّونة" طالما هي "أمونة" فريدة، التي بدا لي أنها تبالغ في الاحتفال لتعطيني الانطباع أن مدد عزوتها قد وصل لدعم إصرارها إطفاء النور.

بدأت "أمّونة" تتحدث بصوت عربي فرانكفوني هادئ: "....أنا كنت ألم كتبي في صناديق العزال ومروان ابني يساعدني وكمان صديقتين، دق الباب، فتحت لواحد قال إحنا مباحث أمن الدولة ممكن يا دكتورة تتفضلي معانا؟ قلت فين؟ قال شويّه كده نتكلّم سوا قلت له حضرتك شايف أنا بعزّل مش ممكن نأجل الكلام ده أسبوع؟ قال لا.. دول خمس دقايق بس وترجعي قلت إذا كان كده ما فيش مانع، مروان قال ماما دول بيكذبوا قلت له عيب نتهم الناس... لكن لقيتهم ماشيين في سكّة غريبة وبعدين جابوني هنا... مش همه كده يبقوا بيكدبوا؟".

كنت أتابع الصوت وأنا مُغمضة العينين وعند النهاية لم أملك نفسي من الاغراق في الضّحك حتى كدت أموت! يانهار أبيض "أمونة" داخل الزنزانة وتتساءل بكل جدّية وبراءة إذا كان وفد الاعتقال كاذبا أم صادقا! 

نهضت جالسة وقلت لأمونة: "تأكدي حضرتك إنك في سجن القناطر للنساء"! وكان هذا لقائي الأول مع صديقتي العزيزة الدكتورة الماركسية أمينة رشيد أستاذة الأدب الفرنسي بآداب القاهرة ـ (شديدة الشبه، وجها، بجدّها لوالدتها رئيس الوزراء في العهد الملكي المعروف بالاستبداد والظلم إسماعيل صدقي باشا)ـ

توغل الليل والنور والحمد لله مُضاء بسبب سهرة التحليل والتكهنات التي وجدت شاهندة فيها مرتعا تنطلق فيه بابداعات تصورات برجها العقرب المزيج من أجاثا كريستي وشارلوك هولمز وهيتشكوك ....إلخ. فتحت السجانة الباب مرّة أخرى ودخلت شابة مُنقّبة وما أن رفعت النقاب حتى طلع البدر بعينين دامعتين. قلت: "أرجوك لا تبكي"، قالت بالفصحى الريفية: "جزاك الله الخير أنا صعبان عليّ والدتي..."؛ في الثامنة عشرة وفي الشهور الأولى من حملها، قالت اسمها باقتضاب: "أمل عبد الفتاح اسماعيل من دمياط، (ابنة الشهيد عبد الفتاح اسماعيل الذي تم إعدامه مع الشهيد سيد قطب أغسطس 1966 وكان عمرها ثلاث سنوات)، انقلبت كل تحليلات شاهندة رأسا على عقب وران على وجه فريدة ما تصوّرته احساسا بخيبة الأمل لأن الضربة شملت الجانب الآخر كذلك، وهذا يعني أن لقب "النضال" سوف يشملهم أيضا.

جاء يوم السبت 5 سبتمبر 1981 بأنباء عن خطاب سوف يُلقيه الرئيس السادات مساء، واستطاعت شاهندة أن توفر لنا جهاز تلفزيون، استعارته من تاجرة حشيش تعيش بالرشاوى في مملكة عامرة بالدور العلوي فوقنا، وأخرجته من مخبئه بعد اغلاق الأبواب ساعة التمام. تحلّقنا داخل الزنزانة أمام شاشة التلفزيون نشاهد ونستمع إلى السادات يطيح في كل إتجاه متوعدا، هادرا، منطلقا بالسباب الطائش ليمس الكافة والجميع بلا استثناء، وألجمتنا المفاجأة و "لن أرحم" شعار مرفوع لا يمكن لأحد التكهن بأبعاده التي قد تبدأ بالسجن مدى الحياة حتى الإعدام: عقوبات لتهم لم نعرفها. همست لشاهندة أخفف وطأة الوجوم الذي أسكت الجميع: "خايفة يا شاهندة ماأخدش إعدام واتسجن مع فريدة مدى الحياة تبقى مصيبة!". 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق